القصيدة على تخوم الأبدي


*عبد العزيز جاسم

 
إذا كان الزمن، كما يقول القديس أوغسطين(354-430م)، أشبه بتيارٍ متدفقٍ دوماً يجرف كل أبنائه . فإن الفيلسوف وعالم اللاهوت، مَيستر إكهَرت (1260-1328م)، يشاطر أوغسطين نظرية تدفق الزّمن هذه، غير أنه يختلف عنه بأن ينحت لفظة بديعة، هي بمثابة مفهوم جديد، ألا وهي: “الآن الأبدي”! ولكن ما معنى “الآن الأبدي”؟ وكيف يتداخل مع زمن القصيدة الجديدة؟ ثمّ ما دور القصيدة أساساً، في إبقاء جذوة الحياة حيّة وحاضرة وأبدية؟

(1)

من المهم التوكيد أولاً، أن لفظة “الآنَ”، تعدّ لغوياً، ظرفاً للوقت الحاضر؛ بينما الحاضر هو كلّ زمان متوسط بين ماضٍ ومستقبل . أي أن “الآن”، هي لفظة تدلّ على الآنية والراهنية، وترتبط بأواصر الدم والقربى بالزّمن الحاضر، بحيث تكاد لا تُعرف إلاّ به ولا يُعرف إلاّ بها .

غير أن هذا الحاضر، الذي تتجسد فيه وبه آنيّة كل شيء، هو من أكثر الأزمنة غموضاً والتباساً، من الناحية المفاهيمية والثقافية، مقارنة بوضع الماضي والمستقبل، ومدى الاهتمام بهما على الصعد كافة . فالماضي، يمثل التراث والهويّة والتاريخ والذاكرة الجمعية والفردية، والمستقبل يمثل القادم والجديد والغد . أمّا الحاضر، فما الذي يمثله الحاضر؟

إنه يكاد أن لا يمثل أي شيء، بالمعنى المادي لا اللغوي للكلمة . إنه مجرد لفظة ووحدة زمنية؛ ولكنه ليس متحفاً أو تاريخ شعب ما مثلاً، كما أنه ليس اختراعاً أو مسباراً فضائياً جديداً كذلك . إن كل شيء يحدث “الآن”، في الحاضر، في التوّ واللّحظة، سيتحوّل في أقل من ثانية إلى ماضٍ، وسيدخل في زمن آخر غير زمنه . إن الحاضر يشبه نهر هيرقليطس، إن لم يكن هو ذاته الذي يستحيل أن ندخله مرتين؛ لأن مياه النهر تكون في حالة سيلان وتغير دائم، ولا يمكن بالتالي أن تحتفظ لنا بأثر ما على سطحها، أو تعيد اللحظة السابقة التي عبرنا النّهر فيها ثانية . لهذا يظهر الحاضر بوصفه مجرد زمن شبحي، زئبقي، متغير، غير ثابت، سريع العطب والزوال، يحضر بسرعة ويختفي بأسرع من حضوره . الأمر الذي يجعله، في حالة بداية جديدة ومتجددة دوماً . كما يمكن اعتباره، بحكم توسطّه بين الماضي والمستقبل، كمنطقة عبور وانتقال لهذين الزمنين، أو بالأحرى كمنطقة ترانزيت وشحن وتفريغ .

فكيف إذاً يمكن لما هو أبدي، أن يوجد في زمن متملص ومتلاشٍ كالحاضر؟

(2)

إن “الآن الأبدي”، لا يوجد في مظاهر الحياة والعالم التي تتجسد في حركة الحاضر، التي تبدو مختلفة أو متصارعة في ما بينها، كأن نقول مثلاً: الوجود والعَدَم، اللّيل والنهار، الموت والحياة، السكون والحركة، الحبّ والكراهية، النور والظلام . . إلخ . إن هذه الثنائيات المتنافرة للأشياء، ليست سوى مظاهر أولية تطفو على السطح، فتألفها العين وتستقر في الأذهان، وتصبح مُسَلّمات شائعة .

ولكن لو نظرنا إلى أبعد من ذلك، في العمق تماماً؛ فإننا سنجد بأن وراء هذه الثنائيات أو الأحداث المتنافرة، يوجد هناك زمن آخر يمثل جوهر هذه الثنائيات ذاتها في حضورها، التي تنبثق منه وتعود إليه وتتوحد به وتذوب فيه وتنضوي تحت سلطانه، ألا وهو: “الآن الأبدي” .

لذا فإن “الآن”، بحسب عبدالرحمن بدوي، “ليس هو اللحظة الهاربة، بل هو التصادم بين المستقبل والماضي . وفي هذا التصادم، يستيقظ (الآن) لنفسه ويعي ذاته” . أي بمعنىً آخر، هو أن لحظة الحاضر المتمثلة في “الآن”، ليست معرضة للزوال والغياب والتلاشي والنسيان دائماً، وليست هي اللحظة التي تمر ولا تعود كذلك؛ وإنما هي النموذج الأمثل لصيرورة الحاضر المتجدد الذي يطل على الأبد، والذي تحفظه القصيدة كالماء الصافي والعذب .

(3)

هذا الزّمن الآخر إذاً، زمن الحضور الكلي والصيرورة الأبدية، الذي يشكل وحدة الوجود في جوهره؛ هو ما يمثل زمن القصيدة النموذجي، الصافي وغير العكر، الذي يبحث عن الديمومة في ما هو جزئي، ليلتقطه ويدفع به في حركة ما هو كلي، والذي يقارب ويجمع بين جميع الأشياء والكائنات المتناقضة على تراب القصيدة، و”يصالح بين الأزمان الثلاثة”، ويجعلها حيّة ونابضة بما فيها، من دون حدود أو سدود أو تواريخ أو بطاقات عبور أو أسلاك شائكة، ويمنحها مقام الحاضر الأبدي .

هكذا تطّل القصيدة الجديدة على المستقبل، على الأبدية، عندما تمتلئ بالزّمن جميعه، وتعرف الطرق الأكثر سرّية في تزويج المبعثر والخفي والشارد . أي عندما تتحوّل، إلى “آنٍ أبديّ” خالص .

(4)

إن إطلالة القصيدة، على ما هو مستقبلي وأبدي، تعني في ما تعنيه؛ بأنها تقوم بالفعل الأكثر إنسانية وسمواً ونبلاً، والأكثر تعقيداً وتكثيفاً وخيالاً جامحاً، في الحفاظ على بقاء الحياة وتنوع عناصرها وأشكالها وكائناتها، حيّة وحاضرة على الدوام . إذْ إن قصيدة الحضور والحاضر هذه، لا تستثني شيئاً من مدار رؤيتها، ولا تضع العراقيل والحدود بين الأشياء والموجودات والأقاليم، ولا تمنع إمكانية اللقاء والتواصل فيما بينها، ولا تعترف بالأجندات الخارجية التي تفرض على الشعر قسراً، ولا تحيد عن شرطها الجمالي والإنساني قيد أنملة؛ بل هي على العكس من ذلك، تنبش المهمل والمنسي والخفي والميت والمهمش والثاوي في عزلته، لتعيده إلى دائرة الضوء وتكسبه الحضور الأمثل . لهذا فهي ترتقي فوق كل الانقسامات، والحروب، والطبقيات، والقبائليات، والتحزبات، والطائفيات التافهة، لتصنع عالم التآزر و”الأخوة” و”الإخاء”، بين جميع مكونات الوجود، من دون استثناء .

لهذا فهي ليست قصيدة متحفية ولا قصيدة مومياءات؛ وإنما هي قصيدة تحتفل بفتنة احتضان العالم، واستحضاره، واستضافته بكرم في منزلها، ومحاورته على ضوء الشموع أو في الهواء الطلق، هناك في العزلة البهية والمنيرة . إنها قصيدة تعمل على صيانة الحياة ذاتها، من التّآكل والخراب والتهدّم والاندثار والتوحش والفناء، باستعادتها لكل ما هو ضائع ومنسي، ونفخ الروح فيه ليتجاوز جِلْده الميت . إنها قصيدة تذهب نحو المستقبل، نحو الأبدي، انطلاقاً من “الآن”، من اللحظة، من الحاضر، ومن كل ما هو مرئي ومحسوس وملموس؛ لتنفتح على جميع الأكوان والمجرات والأجساد والأفكار والأرواح والأشياء والمخلوقات . إنها قصيدة أنطولوجية في جوهرها، مصنوعة بعناية فائقة، حارة، وأليفة، وضارية في اقتلاعها لإبر الشر والآلام والأذيات . إنها قصيدة حرّية وتحرّر، وكشف واكتشاف . إنها قصيدة فضاء، ولغة طازجة، وخيال شبحي مجنون . إنها قصيدة الحياة بامتياز، حيث الشاعر يبدو متوحداً بموجودات الكون وأشيائه، فيما يضيء الأبد فوق رأسه وفي مخيلته، كنجم “السوبر نوفا” المتفجر في السماوات .

(5)

هذه القصيدة إذاً، لا تتطلب شاعراً جِصيَاً مطلياً بالنورة والأسمنت، يضع رجله على سلم الطائرة فيما عقله ما زال مستقيلاً ويرعى مع الإبل . كما أنها لا تحتاج لشاعر استعراضي، ينافس نجمات “الشو” في الظهور، ويتلمض بقصائد شبعت موتاً من تفاهتها وضحالتها . إن هذا الصنف من الشعراء، لا يناسب مطلقاً هذه القصيدة المستقبلية . إن الشاعر الذي تنتظره هذه القصيدة، هو الشاعر المكتشف، الصامت، المنعزل، الذي لا يبدد طاقاته في الثرثرات والنجوميات المصطنعة، الذي يفتش كالرحالة وكالمكتشف القديم، عن القصيدة – الكنز المختفية في الوجود . إنه يعبر بلداناً، ويخترق أكواناً وعصوراً، ويقطع بحاراً، حتّى ولو كان جالساً في مكانه . إنه شاعر النأي، والسفر، والترحال، والعزلات الفائضة، والتنقيب المتأمل عن جوهر الكون والأشياء، التي تمنحه شساعة الرؤية وثراء التجربة، وتحرره من كل التابوهات والمغريات والأوهام الفارغة، وتجعله مخلصاً لقصيدته وحدها .

لأن القصيدة في الأصل، وإذا ما نظرنا إليها من زاوية أخرى، فهي موجودة في الحياة، بل هي قديمة في وجودها، بوصفها كموناً متزامناً مع قيامة الشعر، ومطروحة في بقاع الأرض كلها . فهي هناك في مكان ما، متخفية، ومعزولة، ومستقرة في قلب الأشياء والكائنات والموجودات، ونائمة أو متحركة في فضاءاتها . إنها أشبه باللّغز، أو الأحجية، أو اللقيا، أو السّر، أو الجمال المهمل، الذي ينتظر مَنْ يزيل عنه الصدأ والغبار ويكتشفه ويعيد له رونق الحياة من جديد . فإذا كانت المعاني أو الأفكار، كما كان يقول الجاحظ، ملقاة على قارعة الطريق؛ فإن القصائد كذلك منثورة على أرصفة العالم . لهذا، وبهذا النوع من الفهم والإدراك، تتطلب القصيدة وجود شاعر مكتشف، يكتشفها، ويصقلها، ويوقظها من سباتها، ويضيف عليها من روحه، ويدفع بها في تيار الحاضر الأبدي المتدفق .

(6)

فهل يصح، بعد كل هذا، أن نصدق أو نوافق على من يقول: إن زمن الشعر قد انتهى، وإن القصيدة قد أصبحت خردة من الماضي، وإنهما معاً لم يعد لهما من دور يلعبانه في المستقبل؟

إن ردّنا الوحيد، على هذا الهُراء الإسكاتولوجي (مذهب النهايات الأخيرة) كله، هو: إذا “مات” الشعر فعلاً، واضمحلت المخيلة البشرية، وانقرضت القصائد واختفت من التداول؛ فإن البشرية حتماً ستتوحش وتتحجّر، وتعود لزمن القرود والكهوف من جديد .

أنا بالنسبة لي، لن أكون موجوداً، حتّى أشهد ذلك اليوم، الذي يُقتل فيه الشعر، وتنهار البشرية وتنحط وتنحدر برمتها إلى مستواها الحيواني .
_____________
(الخليج الثقافي)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *