محمّد محمّد الخطّابي*–غرناطة
(ثقافات)
تقدّم بخطى وئيدة متثاقلة نحو حديقة عمومية صغيرة تقع في مرتفع يطلّ على البحر، أخذ مكانه على أحد المقاعد الرخامية ، أسند ظهره إلى جذع شجرة عتيقة،وأخذ يسرح بنظره في الشاطئ الجميل الواقع بين جبلين شاهقين،الذي يطلق عليه أهل البلد ” الشاطئ المحروق”، تحوّل نظره إلى الصّخرة الكبيرة التي تتوسّط الشاطئ،التي طالما ارتادها وهو صغير،كان يجيد السباحة كالضفادع، ومن أعلاها كان يقفز إلى عرض البحر، تحوّل برأسه نحو الغابة الكثيفة التي تحوط بالساحل،تبدّت له موحشة مقفرة، لم تعد كما كانت أيّام الصّبا مخضرّة مورقة باسقة .لم يكن يهمّه من أمر هذه الدّنيا شيء ، كانت آماله صغيرة في حجم مدينته الصغيرة ،لم تكن هذه الآمال تتخطّىّ مرتفعات الجبال والآكام المحيطة بالمدينة من كلّ جانب.
كانت الدنيا بريئة هادئة ، لم يكن يشغله من متاعبها شيء على الإطلاق، لم يكن يطيق المدرسة ، كانت بالنسبة له سجنا رهيبا ينغّص عليه متعة الطفولة ، وبهجة الحياة الطليقة ، ويحرمه من الاستمتاع بأجمل أوقات العمر البريء، كان لا يستطيب من هذه الدنيا سوى اللّهو و اللّعب بشتى ألوانهما.
-آه يا والدي العزيز كم بذلت من الجهد المضني من أجلي، كم علا سوطك وصوتك ونزلا عليّ نزول الصّاعقة، ولكن دون جدوى.
الوعيد والتهديد كانا لا يزيدانه إلا التعنت والفرار من الواجب،والمزيد من الانغماس في ملذّات الحياة التي تتواءم وعمره الصغير.
كان والده يتمنّى له أن يصبح مهندسا أو طبيبا عندما يكبر، بل أحيانا كانت تشطّ به الأحلام بعيدا فكان يقول له:
-في يوم من الأيّام ستصبح ذا شأن كبير يا ولدي..!
منذ سنوات وهو يعمل في ورش لميكانيكا السيارات ، إنه عمل شاقّ ومضن، ولكنّ ظروف الحياة الصّعبة ، أرغمته على امتهان هذا العمل الذي قبله على مضض، وساعدته عضلاته القوية على مزاولته ،وكثيرا ما تساءل :
-ترى لو كنت واهن القوى، ماذا كنت سأصنع..؟
ظلّ يحدّق في صفحة البحر الصافية، التي كانت تبدو له كبحيرة هادئة طفقت تتلألأ في حمرة مذهّبة لانعكاس لون الغروب عند الشفق عليها ، وبين انحناءات أخاديد الجبلين العاليين بدأه يدب من ضباب خفيف يَتَدَلَّى ويتدنّى، وبدا وكأنه يطفو على صفحة الماء.
خيّل إليه أنّه قد تأخر عن العودة إلى البيت ، قام لتوّه ، كان يرتدي لباس العمل، وقد علقت به مختلف أنواع الزّيوت ومواد التشحيم من جرّاء احتكاكه بالأرض في كلّ حين تحت بطون السيارات المهترئة في ورشة عمله، كانت تفوح منه رائحة غريبة ،اشمأز من نفسه فقرّر العودة إلى البيت ، وضع يديه في جيوب سترته فتحسّس محفظته الصغيرة التي لم يكن بداخلها سوى بطاقة تعريفه، ضغط عليها بأصابعه بشدّة، وتقدّم مثقل الخطى نحو مسكنه مطأطئ الرأس، شارد الذهن، كئيبا حزينا هدّه الملل والضجر من الرّتابة وتكرار ما فعله أمس، وأوّل أمس، يرمي بعينيه هنا وهناك علّهما تقعان على شيء ثمين بين نفايات الشارع ، ولكنه لم يعثر أبدا على شيء ذي قيمة.
لاحظ تجمّعا كبيرا بالقرب من السّاحة المقابلة لملعب كرة القدم بالمدينة الذي يقع في الطريق إلى بيته ، دفع به الفضول ليعرف ماذا كان يجري هناك ، فإذا بالناس قد تجمّعوا وتجمهروا للتفرّج على عرض سينمائي كان يقدّم بالمجّان في الهواء الطلق تقيمه بعض القوافل السينمائية المتنقلة بين الوقت والآخر.اندس بين الجموع وقد شعر ببعض السعادة تغمره منذ أن ترك تلك الورشة اللعينة التي لا ينقطع فيها الضجيج والضوضاء من أوّل النهار إلى أوّل الليل، تركّزت عيناه على الشّاشة الكبيرة الموثقة إلى عمودين كبيرين يتوسّطان السّاحة، وصار يتتبّع ما كان يجري عليها من أحداث، كان فقط يتتبّع الصّور، ولم يكن يفهم شيئا من الحوار الدائر لكثرة الزّحام وكأنّ المدينة كلّها قد تجمّعت هناك. صاح فيه بعض الواقفين وراءه من المتفرّجين:
-ابتعد قليلا لقد حجبت عنّا الرؤية..
التفت نحو الجهة التي جاء منها الصّوت فإذا به شاب هزيل الجسم ، نحيف البنية ، غائر العينين يرتدى معطفا رثّا و طاقية بالية يخفي بها مرضا برأسه ..لم يجبه بل رضخ لأمره وغيّر مكانه .اندس ثانية بين جموع أخرى حاشدة من البشر ولكنه ما أن استقر بمكانه الجديد حتى انتهى إليه صوت آخر يصيح :
-ألم تجد مكانا غير هذا..؟ نحن هنا منذ الظهيرة !
التفت نحو صاحب الصّوت فإذا به في حالة ليست أحسن من حالته ، فلم يعره اهتماما هو الآخر،وغيّر مكانه للمرّة الثانية فى هدوه بعد أن شقّ طريقه وسط الجموع المحتشدة باحثا عن مكان آخر ، وما أن رفع رأسه من جديد ليتتبّع الفيلم حتى انتهى إلى سمعه صوت ثالث، وبنبرة غاضبة هذه المرّة صاح فيه :
-ابتعد من هنا أيّها القذر..
التفت خلفه فإذا برجل سمين الخلقة في الثلاثين من عمره ذي عينين جاحظتين، ووجنتين محمرّتين، رمقه بنظرة فاحصة ثمّ أدار رأسه نحو الشّاشة من جديد ولم يأبه بكلام الرّجل إليه بل ظلّ واقفا بثبات في مكانه ، وما هي إلاّ لحظة حتى شعر برفسة شديدة على ظهره كادت تفقده صوابه، غلي الدم على إثرها في رأسه ، لم يتمالك نفسه، ولم يدر كيف استدار وهوى على أمّ رأس الرّجل بضربة قوية أردته طريحا على الأرض في الحين، التفت إليه الواقفون،و نهض الجالسون واختلطت الأصوات ، ظلّ ينظر مشدوها برهة إلى الرجل السّمين الذي لم يعد يتحرّك ،انقض عليه بعض مرافقيه وهمّوا بالإمساك به ولكنّه صدّهم جميعا وهرول صوب ناحية أشجار الصنوبر الكثيفة المنتشرة خلف الملعب التي كان يغلفها الظلام ، لم يتفطّن حتى وجد نفسه قد بعد عن مكان الحادث ،التفت حوله علّه يرى أحدا فلم يتعقبه أحد.
كان يلهث لهاثا متواصلا من فرط السّرعة والركض اللذين قطع بهما هذه المسافة،لم يدر كيف فعل ذلك، أسند ظهره إلى جذع دوحة عظيمة وصار يتأمّل مصيره ، محاولا استرجاع شريط ما جرى.
ترى من يكون الرجل..؟هل هو من رجال السّلطة ..؟ أم هو من رجال المخابرات السرّييّن المندسّين خفية بين الجموع لدرء القلاقل، وإخماد أيّ تحرّك بعد المظاهرات التي عرفتها المدينة مؤخّرا ..لابدّ أنه يعرفه ..بل حتما عرفه بعض الحاضرين ، إذن ما العمل..؟ لماذا لم يتحرّك الرجل..؟ هل أرداه قتيلا أو أغمي عليه فقط..؟أما كان له أن يتروّى قليلا ؟ كيف خانته أعصابه ..؟
سرح بفكره بعيدا يتخيّل الأمور وإلام ستؤول إليه عواقبها،شعر بتعب شديد فقرر العودة إلى البيت ، وهو يقول في نفسه:
-فليكن ما يكون في علم الله.
عندما دلف إلى البيت كان أبواه وأخواته يغطّون في نوم عميق ، سرى على بنان رجليه في هدوء، ثمّ استلقى على مرتبة بالية من غير أن يخلع عنه ثياب العمل، ظلّ يحملق في الظلام الدامس الذي يملأ الغرفة، ومنظر الرجل المسجى على الأرض لا يحيد من أمامه، قهقه عاليا بدون إرادة منه، ردّت جدران الغرفة صدى قهقهاته، ثمّ أسلم نفسه لسلطان النوم.
_______________________
*كاتب من المغرب يقيم في إسبانيا .