*صادق ناصر الصكر
كان تيري ايغلتون يقول: ” ان حقيقة النص ليس جوهراً ولكنها ممارسة، ممارسة علاقتها بالايديولوجيا، وبالمعنى نفسه، علاقتها بالتاريخ” (1) والملفت للنظر، وتلك واحدة من المفارقات المحورية، ان ذلك هو ما تعلمناه، فيما بعد، من النظرية، لاننا_ قبل ذلك _كنا نتهامس- بأن “النصية ” بكل حمولاتها النقدية التي اثقلت المشهد النقدي العراقي على امتداد ثلاثة عقود، على الاقل , بمقولاتها الشكلانية، كانت تلبي كل احتياجات “حاضر” الادب ولكنها ما كانت توفر ضمانة واحدة لمستقبله، هذا من جهة، ومن جهة اخرى، ومع كامل احترامي لاعتزاز منظري النقد بفتوحاتهم، فان صعود انماط جديدة من الخطابات الروائية، طالما اننا نتحدث عن الرواية، كان عاملاً اساسياً في انعاش الدراسات الثقافية بعد ان تمردت تلك الانماط على الوظائف المتوارثة داخل السرد حيث تم تعويم اشكاليات انطولوجية ساخنة تتعلق بقضايا مثل الهوية والعاب التاريخ والهجنة والسرديات الكبرى والصغرى وغيرها، وهي قضايا ادارت بوصلة الكشف القادم من الرواية بدرجة كبيرة وبالتالي فان على النقد ان يعيد النظر بجهازه المفاهيمي ليس انسياقاً مع موجة سردية بل لان هذا التيار الروائي قد اعان النقد على استعادة توازنه المفقود مع السرد كله، من محمود احمد السيد الى ايامنا، لاننا نعلم ان مستقبل روايات فؤاد التكرلي، على سبيل المثال، يكمن في نقدها الثقافي لا في اعادة انتاج ما قيل عشرات المرات حول دورها في تحديث بناء المشهدية الواقعية، مع اهمية ذلك سواء استعدنا قضية الدقة المنهجية ام لا… نقول ذلك باطمئنان كامل لانه على الرغم من معرفتنا بان اللغة، داخل الادب وخارج الادب، ومع كونها تعد من بين اكثر التداولات اليومية براءة وتلقائية هي، في الواقع،: ” ارض مجرحة، مصدعة، ومقسمة بوساطة زلازل التاريخ السياسي” (2)، الا ان كل شيء في السرد يظل مشروطاً بالجماليات الادبية، وهنا بالضبط تتموضع قوة تحالفاتها الثقافية السرية والعلنية.
وهكذا، فان رواية مكتوبة بعناية فائقة، مثل رواية ” الحفيدة الامريكية”، يمكن ان تصبح عرضة لبرامجيات نقدية متعددة ولكن الملفت للنظر- اذا اردنا ان نبسط الامور- ان السياسي والثقافي في هذه الرواية سيكون في طريقه الى التيبس، وبالتالي الخروج من الارشيف بالمعنى الثقافي الشامل، اذا اجبره النقد على الدخول في متاهة النصية الغامضة…انها تراهن، كما سنرى، على الانخراط في سرديات صناعة الذاكرة المضادة ولذا فأن الوضع يبدو وكأنها هي من تنتظر ان يزودها النقد بعبارات بعينها ” تعرف من خلالها نفسها اكثر من ان يرفدها بالعبارات التي لا تعرفها ولا تستطيع ان تعرفها”.
ابدعت كجه جي رواية مدهشة في تماسكها وقوتها ورشاقة لغتها، اذ لاتوجد زوائد حكائية مثلما اننا لن نعثر على أي شكل من اشكال ارهاق السرد بازدحام التفاصيل وتدافعها الذي سبب المتاعب للعديد من الروايات العراقية، بدا الامر وكأن كل شيء كان محسوباً بدقة عالية حتى ان شعرية الرواية كانت اشبه بالراشح الذي يبقى بعد ان يفرغ المرء من القراءة دون ان يشعر ان الانهمام على هذه الشعرية كان واحداً من المقصديات الاساسية للكتابة، اضافة الى ان كجه جي قد تخلصت، تماماً، من محنة الانحباس داخل ظلمة التجريد الذهني للغة المنتزعة بالاكراه من تعالقها الجميل مع الحياة.
تبدو الحكاية بسيطة، كما يحدث في العادة مع الروايات التي تراهن على ذكائها، فهي حكاية فتاة عراقية، اطلقت عليها المؤلفة اسم ” زينة”، زينة بهنام الساعور، وهي مسيحية من اب اشوري وام كلدانية، اضطرت الى مغادرة العراق الى اميركا مع ابويها خلال فترة الحصار، لتبقى هناك خمسة عشر عاماً وتكتسب الجنسية الامريكية قبل ان تعود الى العراق بصفة مترجمة مع قوات بلدها الجديد الذي قام باحتلال العراق في العام 2003… وكل شيء، يجري فيما بعد، في بلاد الرافدين، لتصبح زينة، وهي تتولى السرد بضمير المتكلم، شاهدة على ما كان يحدث بعد سقوط بغداد وتبدأ الرواية بالتفتح امام القارئ وهو يتابع رحلة زينة واستذكاراتها وهواجسها وتعليقاتها وقناعاتها سواءً في عزلتها او حين تكون على مقربة من شخصيتين رئيستين في الرواية هما كل من جدتها، رحمة جرجس الساعور، السيدة العجوز التي لم تغادر العراق والتي لم تفهم، حتى موتها، كيف يمكن للمرء ان يغادر هوية لاستعارة غيرها، والثانية هي شخصية مهيمن، الاخ بالرضاعة لزينة، الذي كان اصولياً متشدداً من مقاتلي جيش المهدي، وهو احد ابناء سيدة شيعية عملت في خدمة آل الساعور لسنوات طويلة وظلت، هي وابناءها، برفقة رحمة الساعور الى النهاية.
تبدو زينة، على امتداد السرد، وهي تؤمن بانها جاءت الى العراق لتقوم بعمل عظيم، هي التي ليس في قدرتها سوى ان تكون امريكية، كما تعبر، وقد وفرت لها كجه جي كل ما يتطلبه ذلك الايمان بعد ان دفعت بها الى حياة تشبه طعم الخل في بلد يحترق قبل ان تفكر، وهي تقترب من دوامة العنف، ان خروجها من الفردوس الامريكي كان واحداً من اسوأ اخطائها حين بدأت تشعر، يوماً بعد يوم داخل الجحيم العراقي، ان هذا البلد لم يعد يعني لها اكثر من كونه حاوية لعظام الاجداد وان انتمائها الحقيقي هو لاميركا بدلاً من حاوية العظام تلك… ولكن الغريب ان تهكماً خفياً كان يقود عجلة السرد في رواية ” الحفيدة الامريكية”، وقد ذهب هذا التهكم في الاتجاه، الثقافي قبل كل شيء، الذي بدا ان كجه جي، وهي ترعى بطلتها، كانت تفكر به طويلاً وهي تقوم بكتابة واحدة من اهم ادبيات ما بعد التغيير واكثرها اشراقاً.
اذ اصبح من الواضح ان الثلة القليلة من كتاب ادب مابعد التغيير، على جبهة من جبهات اشتغالاتهم، قد عملوا على انزراع مأزق الهوية في بعض اعمالهم بوصفها واحدة من الاشكاليات النائمة التي استيقظت بعد ان تهاوت جدران السردية القومية العراقية، بالفعل او عبر متخيلاتهم، وان صعود مفهوم جديد للهوية باعتبارها سرداً مفتوحاً نحو المجهول التاريخي هو ما ينتظر ثقافة منكوبة عانت الامرين، كما يرى بعضهم، من هوية مجنونة اعتادت على المؤامرة والعدوان …وكجه جي تقف الى جوار هؤلاء في كتابة ادب ما بعد التغيير ولكن ليس لانها تلقفت فكرة الهوية المأزومة كواحدة من هبات مابعد التغيير، سياسياً وثقافياً،بل لانها دخلت على الخط برؤية مختلفة تعي ان ادب ما بعد التغيير، وذلك مايحسب له، هو ساحة صراع بين خطابين حين يتعلق الامر بالهوية، اذ ينبغي ان ننتبه الى ان هذه الكاتبة، التي يبدو انها قد تعرفت على اسرار المهنة حتى مع كون الحفيدة الامريكية هي روايتها الثانية فقط، لم تضع ملصقاً من التحريض النظري السافر على صدر روايتها، كما فعل علي بدر- مثلاً- في هجومه الاستعراضي على مفهوم الهوية في مقدمة روايته ” حارس التبغ”، بل انها وفرت لبطلتها استقلالاً وخصوصية ثقافية وفنية قل نظيرها في الرواية العراقية، وقفت على مسافة معقولة منها، وقد اصطنعت لها مشهدية تاريخية جعلت خطاب زينة الساعور، وفقاً لمنطق السرد الخاضع لشرطها الدنيوي، مقبولاً بامتياز، فكان هذا التجاذب بين هوية امريكية، هي كل ما لديها كما تقول، وبين ذاكرة عراقية تمكنت كجه جي من الدفع بها الى نقاط التماس مع خطاب مناهض، ولكن بتلقائية وعفوية محببة، الا انها مدروسة بعناية شديدة، بعد ان احاطت بطلتها باجواء تصلح للتهكم على فكرة الهويات الثنائية او قيام الهوية الطارئة بقضم الاخرى في روايتها المناوئة، في العمق، للاحتلال ولفصام الهويات.
قدمت كجه جي، في سعيها لبناء حكاية تتفاعل مع احتمالات الحياة المتأرجحة بين نظرتين الى العالم، كل شيء للايديولجية المتخفية التي تتحدث عن استبدال الهويات تحت ذرائع شتى، بعضها ثقافوي بامتياز كما جرى الامر مع منتجي السرد المنبهر بفكر ما بعد الحداثة وبعضها شعبي ولكنه رفع حكايات الانتقال من الفقر الى الرفاهية والاستهلاك الى مستوى المصير السياسي، وقد تمظهر ذلك في رواية ارادت ان تقول كل شيء ببساطة ويسر، ولكنها استدرجت تلك الايديولوجية الى حقول لاتنمو في تربتها الاعشاب الضارة… اتحفتها بزينة، الفتاة المتوثبة والفرحة بكامل ازدهارات الحياة على مبعدة من عراق محطم، الا انها تهكمت على ذلك بمعونة رحمة الساعور، العجوز التي علمها الزمن ما هو الفرق بين بلاغة العار وحبسة الصدق.
هناك وجهة نظر نقدية تقول ان: ” الايديولوجيا حاضرة في النص في صورة غياباتها البليغة” (3)، ولذلك فانه اذا كان خطاب زينة الساعور قد تجلى بوضوح وكان يتقدم على امتداد السرد وهو يستقطب مايمكن استقطابه من فرص الاقناع التي تبدو، على السطح، مقبولة حين يتهاوى المرء تحت وطأة الاحساس بالسأم من الفاشية ومخلفاتها، فان الغياب البليغ للايديولوجيا المضادة كان يحرض القارئ على النفور من لعبة الهويات التي تستبدل كالثياب.
لم تكن كجه جي مسحورة بالاقلوية وقد كتبت هذه الرواية وكأنها تريد للاقلويات ان تأخذ حجمها الطبيعي بوصفها امتداداً لهوية راسخة، تنويعاً عليها وليس انحرافاً عنها، على الضد، تماماً، من بعض روايات ما بعد التغيير التي ذهبت بفكرة التعدد والاختلاف الى اقصى درجات الشك التي لانعثر عليها الا في الطبعة العدمية لفكر ما بعد الحداثة… فاذا كان ادب ما بعد التغيير قد عمل, قدر استطاعته ,على صناعة سردٍ يصلح لاستيعاب اشكاليات زمنه دون ان يصاب احدهما بالتلف، لا السرد ولا الاشكاليات,فأن رواية الحفيدة كانت واحدة من اعماله المميزه لان ذلك السرد بقي محكماً ومقنعاً في ذات الوقت الذي ظلت فيه اشكاليته الثقافية تتوسع برفق وكأنها تعلم ان مكر التاريخ يتربص بها.
الهوامش
1. النقد والايديولوجية/ تيري ايغلتون/ تر: فخري صالح/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ط1/1992/ص120.
2. النقد والايديولوجية/ م.س/ص71.
_____________
* ناقد من العراق (العالم)