ما بعد أنشتاين: العبقرية العلمية تنقرض


دين كيث سايمونتون*

يكرس كثير من العلماء حياتهم المهنية لدراسة الظواهر التي يفترضون أنها لن تختفي فجأة، دون أي مقدمات. ولأن أشكال الحياة دائما تمر بتغييرات مستمرة مع تعاقب الأجيال، يجد علماء الأحياء ـ الذين تخصصوا في دراسة التطور والارتقاء النوعي ـ دائمًا ما يدرسونه. أمّا الظاهرة التي أتناولها هنا، فربما لم يعد لها وجود بالفعل.

لقد كرستُ أكثر من ثلاثة عقود من حياتي لدراسة العبقرية العلمية، أعلى مستوى من الإبداع العلمي. ويمكنني القول بأن العالِم المبدع هو الذي يقدم الأفكار الأصيلة والمفيدة، أما العالم العبقري، فهو الذي يقدم الأفكار الأصيلة والمفيدة والمدهشة في آن واحد. إنّ القفزات العلمية الكبيرة ـ مثل النظريات، أو الاكتشافات، أو الابتكارات ـ ليست مجرد نواتج عن خبرة راسخة بالفعل في مجال معين، لأن العالِم العبقري يقدم خبرة جديدة تماما.

لقد حققت نظرية ألبرت أنشتاين النسبية الخاصة هذه الشروط الثلاثة للأفكار، وأدت إلى إعادة كتابة المناهج التعليمية الأساسية. فقد أطاح أنشتاين بمفهوم نيوتن عن الفضاء والزمن المطلق، وكشف عن علاقة جديدة تمامًا بين المادة والطاقة، جسَّدها في معادلته الشهيرة: E=mc2.
وأسهمَ العلماء العباقرة بنصيب وافر في تطور العلم من ناحيتين، الأولى: أنهم أسسوا علومًا جديدة، مثل جاليليو، الذي كان له الفضل في نشأة علم الفلك التليسكوبي. والثانية: أن هؤلاء العلماء العباقرة أحدثوا زلزالًا في المعارف العلمية الحالية، مثل تشارلز داروين، الذي قال إن الكائنات الحية تتطور بقانون الانتخاب الطبيعي، في وقت كان فيه علماء الأحياء يؤمنون بأن أشكال الحياة ثابتة منذ لحظة الخلق، كما ورد في الإنجيل.

ومن وجهة نظري، يفتقر العلماء المعاصرون إلى العبقرية التي تؤهلهم لإنشاء العلوم الجديدة، أو الثورة على العلوم الحالية.. فنظرياتنا وأدواتنا تستطيع الآن رصد الثواني الأولى من عمر الكون، بل والوصول إلى أبعد مدى في المجرات والفضاء، ويمكننا الآن أنْ نفحص أدقّ أشكال الحياة، وأقصر الجزيئات دون الذرات عمرا. ومن الصعب تصوُّر أن العلماء قد أغفلوا بعض الظواهر الجديرة بعلم خاص بها، مثل الفلك والفيزياء، والفلك والأحياء، فعلى مدار قرن كامل، كان أيّ علم جديد عبارة عن مزيج من هذه العلوم، مثل الفيزياء الفلكية، والكيمياء الأحيائية، والأحياء الفلكي. وستعتمد الاكتشافات العلمية المستقبلية على الأرجح على ما هو معروف بالفعل، بدلًا من تغيير قواعد العلوم وأسسها. وجدير بالذكر أن أكبر الإنجازات العلمية الحديثة هو اكتشاف جزيء بوزون هيجز Higgs boson، الذي تنبأ العلماء بوجوده منذ عدة عقود.

لقد وَلَّتْ تلك الأيام التي كان فيها طالب الدكتوراه يؤلف وحده أربعة أبحاث علمية مبتكرة، بينما يعمل باحثًا مساعدا بدوام كامل في مكتب براءات الاختراع، مثلما فعل أنشتاين في عام 1905. وقد أصبحت العلوم الطبيعية من التشعب والاتساع، مثلما غدت قواعدها المعرفية من التعقيد والتخصص؛ ما جعل الكثير من الاكتشافات المتقدمة في هذه الأيام تنبع من رحم فرق الباحثين الكبيرة التي تحظى بتمويل ممتاز، وتضم الكثير من المساهمين الذين يتعاونون معًا، من خلال روح العمل الجماعي.
ويجدر بي الآن توضيح ثلاثة أمور، أولها: أنني لا أقول إن التقدم العلمي سيتوقف، بل على النقيض من ذلك.. فلديَّ اقتناع بأن المشروع العلمي سيغدو (أسرع، وأكبر، وأقوى)، وسيستمر تحديث المراجع الدراسية. وفي أسوأ الأحوال، توشك بعض العلوم على الاقتراب من حد غير معين من الدقة والفهم، كما يحدث في عديد من الرياضات التنافسية. فإذا كان الرياضيون يفوزون بميدالية ذهبية أوليمبية من خلال التغلب على الرقم القياسي بجزء من الثانية، يستطيع العلماء أيضًا الفوز بجوائز نوبل في العلوم، لأنهم أسهموا في تحسين تفسيرات ودلالات النظريات، أو دقة القياسات. ويمكن وصف الفائزين بجائزة نوبل بأنهم «أبطال العلوم».

ثانيها: لا أزعم أيضا أن العلم يفقد (رصانته)، أو (عمقه المعهود)، أو أن الباحثين الرئيسيين أقل ذكاء من نيكولاوس كوبرنيكس، أو رينيه ديكارت، أو إسحاق نيوتن، أو ماري كوري، أو لويس باستير. إن العلماء المعاصرين يتمتعون بمعدلات ذكاء عالية2، وإذا جاز القول.. يحتاج العلماء المعاصرون إلى الكثير من الذكاء؛ ليصبحوا طرازًا رفيعا من الباحثين، أكثر مما يحتاجون إلى أنْ يصبحوا عباقرة في عصر بطولات الثورة العلمية خلال القرنين السادس عشر، والسابع عشر، نظرًا إلى المعلومات والخبرات الكبيرة التي يجب على الباحثين الآن اكتسابها؛ حتى يصبحوا مؤهلين. ومن الصعب معرفة ما إذا كان كلٌّ من بيير سيمون لابلاس، أو جيمس كليرك ماكسويل ذكيًّا بما يكفي لإتقان الرياضيات الصعبة التي تتطلبها دراسة نظرية الأوتار الفائقة.

وثالثها: أرجو ألّا يؤخذ كلامي على أنه يؤكد على أن العلماء البارعين لم يعد بوسعهم طرح أنماط جديدة، أو حتى تأسيس علوم مبدعة. كل ما أردتُ أنْ أقوله هو أن هذه الإبداعات تبدو أقل شهرة، أو أضعف تأثيرًا. يقول توماس كون في تحليله الكلاسيكي للثورات العلمية إن فروع علوم الفيزياء والأحياء لا ينبغي أن تشهد تحولاً جذريًّا، ما لم تكن هذه العلوم نفسها تمر بأزمة، سببها تراكم النتائج الخطيرة التي تستعصي على الشرح والتفسير3. وعلى سبيل المثال.. أنهت نظريةُ النسبية الخاصة الجمودَ الذي سببته ـ ضمن أشياء أخرى ـ تجربةُ عام 1887، التي قام بها عالِما الفيزياء الأمريكيَّان ألبرت مايكيلسون، وإدوارد مورلي؛ وفشلت في اكتشاف «الأثير» الكوني، الذي يُفتَرَض فيه أنه يساعد في نشر الموجات الكهرومغناطيسية.
وأغلبية فروع العلوم الطبيعية ـ إنْ لم تكن كلها ـ لا تبدو قريبة من حالة الأزمة هذه.. فلم يتراكم بالفروع الأساسية الكثير من الانحرافات التي تتحول إلى خيوط متناثرة، تحتاج إلى تنظيمها بصورة أو بأخرى. ومن الاستثناءات.. الفيزياء النظرية، التي ما زالت تعجز حتى الآن عند دمج النسبية مع القوى الثلاث الأخرى للطبيعة. وبالطبع أتمنى أن يكون افتراضي غير صحيح، فكم أكره فكرة أنّ العبقرية في العلوم توشك على الانقراض والتلاشي، وأنّ تخصصي البحثي أصبح خارج السياق. وكل ما يحتاجه الأمر لإثبات عدم صحة افتراضي هو ظهور عبقرية علمية جديدة واحدة فقط.
___________

* بروفيسور في جامعة كاليفورنيا الاميركي.
(العالم ) العراقية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *