* موسى ابو رياش
وطدت الرواية السعودية وجودها بقوة على خريطة الأدب العربي، وغدت مطلوبة ومقروءة؛ لما تحمله من مضامين عميقة ومهمة وجريئة، ولغة جميلة غنية، ولم تعد تلك الرواية الكلاسيكية الساذجة التي تتلمس طريقها بصعوبة. وكثيرة هي الروايات السعودية المدهشة المثيرة التي يحرص القارئ العربي على متابعتها ومطالعتها ودراستها. وتعد رواية “الحمام لا يطير في بريدة” للروائي يوسف المحيميد إحدى الروايات الإشكالية التي أثارت كثيراً من الأسئلة، لجرأتها في تناول بعض مظاهر المجتمع السعودي، معلنة أن التستر يزيد من المشكلات وحدتها، ولا علاج إلا بأشعة الشمس الساطعة التي تكشف كل عوار، وتظهر كل خلل.
“الحمام لا يطير في بريدة” عنوان ملفت للرواية، فلم لا يطير الحمام في بريدة دون سواها؟ فهد الشخصية الرئيسة في الرواية لا يحب الحمام ويسخر ممن يعتبره طائراً جميلاً، وهذا الكره ناتج –ربما- عن خلل نفسي، تسبب به مجتمع عندما أفقد الحمام جماله ولطفه، فالحمام يطير، وهو طائر الحب والسلام، ولكنه في بريدة لا يطير، لأن العطب أصاب حتى الحمام، وعندما تخرج الأمور عن طبيعتها، فكل شيء ممكن.
الرواية في مجملها متطرفة في نظرتها للمجتمع السعودي، فهو في جانب محافظ متزمت متشدد، وعلى رأسه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المقابل استهتار ومخدرات وخمور وجنس. ولا وجود لحالات وسطية إلا نادراً، وهذه لا يعطي صورة متوازنة عن المجتمع السعودي، وخاصة في نهاية العقد الأول للقرن الحادي والعشرين.
قد نجد العذر للمحيميد أنه يهدف أن يسلط الضوء بقوة، ويدب الصوت صارخاً، أن التطرف في أي اتجاه، يقود بالضرورة إلى تطرف في الاتجاه المعاكس، وهو عذر وجيه. ولكن أين الأمل بغد أفضل مشرق، لأن من أهم رسائل العمل الأدبي أن يبشر ولو ببصيص من ضياء في نهاية النفق، أما الهروب كما فعل فهد فهو حيلة الجبناء الضعفاء.
مع التأكيد أن رواية “الحمام لا يطير في بريدة” هي عمل إبداعي أولاً وأخيراًَ، ولا يجوز أن تحاكم كمقالة اجتماعية، فالروائي لا يسجل بالضرورة واقعاً معاشاً، وإنما يضع رؤيته الفكرية في إطار فني، لتوصيل رسالته وصوته. ومن هنا لا يفترض أن يؤخذ ما فيها على أنها مسلمات أو حقائق، فحساسية الفنان تلعب دورها، وقوة استشعاره لها ما يبررها.
تتناول الرواية في الأساس حياة فهد في الرياض وبريدة، وحكايته تستدعي بالضرورة جانباً من حكايات أبيه سليمان وجديه وأمه سها وعمه وابن عمه وصديقه سعيد ووالده مشبب وثريا وطرفة وغيرها من الحكايات التي يكون فهد هو نقطة تقاطعها.
يسجل للمحيميد جرأته في تناول الثالوت الخطر (الدين، الجنس، السياسة) وهو لم يتعرض للدين بنصوصه وأصوله، وإنما كما يفهمه البعض، هذا الفهم الذي أورث الأمة الويلات والمصائب عبر تاريخها الطويل وما يزال. فالمشكلة دائماً تكمن في الفهم وليس في النص، وهذه حقيقة غائبة للأسف، تقود إلى أن هناك اختلاف بين الإسلام والمسلمين، فمن ينتقد المسلمين إنما ينتقد سلوكهم وأفعالهم، ومن يسحب هذا الانتقاد على أنه انتقاد للإسلام، فعليه وزر ذلك، فالإسلام كما أنزل دين رباني ليس خاضعاً لتقييم البشر، ولا يضره نقدهم أو حربهم، فقد تكفل الله به، ولكن على المسلمين أولاً أن يرتقوا نحو الإسلام، ليكونوا له أهلاً، ولا يكونوا لغيرهم فتنة!
تربعت مغامرات فهد الجنسية على مساحة واسعة من أحداث الرواية، وبدا الجنس سهلاً ميسوراً وشائعاً، وإن بطرق ملتوية في مجتمع محافظ متشدد. وبغض النظر عن مصداقية ذلك، فإن ما يؤخذ على الكاتب توسعه في تفاصيل الممارسات الجنسية، التي ليس لها أي ضرورة فنية، ولا تقدم أو تؤخر في أحداث الرواية، فالإجمال أفضل، والتلميح أجمل، والإيحاء أبلغ.
في الجانب السياسي، نجد بعض التصريحات والآراء السياسية الجريئة، التي تعبر عن روح سعودية جديدة، تخرج من شرنقة الطاعة المطلقة، والخضوع التام، والتبعية عديمة الرأي. وفي الإطار نفسه، ثمة صراحة تتناول البنى الاجتماعية، وعلاقاتها الطبقية، التي تفضل منطقة عن أخرى، وقبيلة عن غيرها. أما من كان غير سعودي أو خليط فهو ناقص الحقوق والرجولة، كما في حالة فهد، فهو نصف رجل لأن أمه أردنية/فلسطينية لا يعرف لها أصل من فصل. وهذه الخلخلة الاجتماعية لها تأثيراتها المدمرة على المجتمع، لأنها تسبب هشاشة وتصدعاً قد يقود إلى كارثة لا سمح الله، إن لم تتدارك الأمور، وتعالج بحكمة، فالمواطنة هي الأساس في المجتمعات الحديثة، وليس القبيلة أو المنطقة أو الأصل.
لغة الرواية وظيفية محايدة واضحة، لا تحمل أية معان مبطنة، وتكاد تخلو من الشاعرية أو الجمال إلا في متفرقات هنا وهناك، مع توظيف للهجات العامية أحياناً حسب الشخصيات.
اعتمدت الرواية بشكل كلي على السارد العليم، من خلال تقنية الاسترجاع والذكريات، ففهد يعيش في مدينة “غريت يارموث” الإنجليزية، وجميع أحداث الرواية استرجعها في أثناء رحلة العودة من زيارة إلى لندن. ومن خلال استرجاع الأحداث يعمد أيضاً إلى استرجاع أحداث أخرى، لتتناول الرواية في المجمل ثلاثة أجيال سعودية، مع التركيز على الجيل الأخير، الذي نشأ في تسعينيات القرن الماضي، جيل فهد الذي انفتح على ثورة الاتصالات الجديدة، وتسارع الأحداث في كل مكان، وصراع العادات والتقاليد والأفكار والمصالح.
وقد وظفت الرواية تقنية الرسائل الخلوية بأنواعها، والوثائق والرسائل والمذكرات لإغناء الرواية بالأحداث والتفاصيل، ومنحها جرعة قوية من المصداقية، ومزيداً من الواقعية والألفة.
فهد في رواية “الحمام لا يطير في بريدة” شاب سلبي عابث، لا يتحمل أي مسؤولية، ويهرب من المواجهة. وهو نموذج لنوعية بعض شباب اليوم التائهين في خضم الحياة وميادينها الواسعة الخطرة. وفي المقابل نجد صديق عمره سعيد المشبب الذي ولد يتيماً أكثر رجولة وثباتاً، وأقل تهوراً.
منهجية التبرير سائدة في الرواية، فكل أخطاء الضحايا نتيجة ظلم مجتمعي أو أسري، فثريا بحثت عن الجنس خارج بيت الزوجية لأن زوجها هجرها، وطرفة لأنها بلا زوج بعد أن خرج زوجها عبدالكريم ولم يعد، وسها تزوجت شقيق زوجها حفاظاً على بيتها، وفهد ترك بيته كرهاً بعمه، وهكذا. فلا نجد شخصيات ترفض الظلم، وتشق مسارها في الحياة بعزم وإصرار مهما واجهت من عقبات، أو تعرضت لظلم. ومنهجية التبرير منزلق خطر، لا يتواجد إلا في مجتمعات ضعيفة كسولة، بينما في المجتمعات الناضجة، فكل فرد يتحمل مسؤولية أعماله، ويتهم نفسه عند أي تقصير، ولا يحمل ضعفه أو خيبته لغيره مهما كانت الأسباب.
من المآخذ في الرواية تكرار بعض الأحداث بشكل أو بآخر، وخاصة قصة وظروف اعتقال سليمان والد فهد وصديقه مشبب، دون أي مبرر أو ضرورة فنية أو موضوعية.
تكررت بشكل كبير جداً تفاصيل حركة السيارة، وخاصة في أثناء قيادة فهد، دون داع، وهذا قد يصيب القارئ بالملل والنفور، وخاصة مع ذكر أسماء الشوارع والجسور والأنفاق والاستراحات والمطاعم والمقاهي والأحياء والأسواق، لكأننا في مسلسل دعائي طويل. ومن أمثلة ذلك وصف حركة سيارة الهيئة: “انعطفت السيارة يميناً من إشارة تويوتا، عبر طريق الإمام، لتمر بجوار جمعية المعوقين، …، تتخيل أنهما سيقودانها إلى دار رعاية الفتيات، وأن السيارة المخبولة ستجتاز شارع التحلية وشارع الثلاثين وطريق مكة، ثم تهبط من النفق المجاور لوزارة الداخلية، وأخيراً عند إشارة رئاسة تعليم البنات، تنعطف السيارة يساراً، ثم تدخل في شارع فرعي جهة اليمين وتمر قرب مكتب الإشراف التعليمي النسوي، وسط الرياض، ثم من وراء الكتل الخرسانية المعترضة، يشير الشيخ إلى جهة اليسار، لتقف أخيراً أمام مؤسسة رعاية الفتيات.”(27)
يبدو أن خيوط الرواية قد أفلتت من الكاتب في بعض المحطات، ومن ذلك، يقول فهد عن حادث موت والده سليمان: “انحرفت سيارته الكابريس العنابي من أقصى يسار الطريق السريع إلى أقصى اليمين، ثم في لمح بصر هوت في العمق لتصطدم بقوة في شبك الطريق المانع لدخول الإبل”(87)، أي أن السيارة شطبت أو على الأقل بحاجة إلى إصلاح كبير، ولكنه يقول قبل ذلك وهو يناجي ذكرى والده متحدثاً عن خسارته الكبيرة: “هل تعرف مدى نكسته وبكائه العالي حين يرى سيارتك الكابريس العنابي واقفة أمام البيت لم تتحرك منذ أسبوع؟!”(39).
ومن ذلك أيضاً السجان دغيليب الذي كان يعمل في سجن مكة(251)، ولكننا نجده أيضاً في سجن الوزارة في الرياض(254).
وبعد، فرواية “الحمام لا يطير في بريدة” بعد أربع روايات للمحيميد، رواية تستحق التأمل، ولا يجب أن نضيع الوقت في حقيقة أحداثها والدفاع عن المجتمع ممن يحاولون المبالغة والتهويل وتصويره بالانحلال أو التطرف، بقدر ما نجتهد في البحث عن إجابات عن أسئلتها الكثيرة، وما أثارته من قلق وحركته من سواكن.