*عناية جابر
إحتجت دائماً الى الماء لأصنع كلاماً طويلاً أو قصيدة . من دون البحر تحضر الإعاقة ليس في الشاعرة التي فييّ فحسب بل في الشعر أيضاً .
الشعر من دون البحر (أكرّر طبعاً) فناً عليلاً، ممروضاً، وأقلّ فصاحة ومتانة وبراعة. يُجيزُ لي الماء أن أخطىء، ان أضعف، لكنه الخطأ والضعف اللازمين للشعر، وهو الإعتلال الصحيح بالتأكيد فالشعر من دون ماء يتفنّن ولكنه لا يبني القصيدة التي أهوى، أي يترك نفسه للمصادفة الخالصة التي تنتهي به الى ما يُشبه الشعر لكنه بالقطع ليس بفن قويّ. الخطأ والتعّثر هما مآل الفن القوي ولا يصّح هذا بدون أنهر وبحيرات وبحر كبير .
ولدت في مدينة متوسطية وكان البحر أمامي كل يوم وسيغدو يدي التي أكتب بها، وعيني وروحي وقصيدتي فلا أطردهُ من أيّ قصيدة ولا أنزعهُ من جلدها .
أمام البحر ولدت ووجدت كلماتي مائية، تتقلّبُ كما الموج ولا حيلة لي في ردّها، وهي معجزة الحروف من تلقائها ولا تتطلّب مني أيّ مساعدة .
أنا في قرارتي أحبّ أن أفكرّ شعراً لا أن أكتب الشعر، لكن الماء يقهرني كل حين فأروح أسّطر شيئاً رجراجاً يُبلل عينيّ أولاً ثم ينتهي عند الشاطىء الذي تُقفل عليه القصيدة.
مرّنت قصيدتي على ان تسمع صوت الموج وترتجف لأتأكد من أنني حيّة فعلاً، وليست لمن في مثل حالي إلإ أن تسمع وتحّس وتلمس، فهذا شرط وجود أطيقهُ في الحياة وفي الشعر وسوى ذلك تظاهر بالعيش .
علّمت أصابعي الإستدلال على الكتابة من بللها، سوى ذلك أنا في العثرة الكاملة عيشاً وكتابة .
هذه المفارقة، أي في أغلب قصائد الشعراء اللبنانيين (جيل الثمانينيات والتسعينيات) المفتوحة على البحر هي للنفاذ من تدنيس القصيدة بالصحراء التي لم نعرف، وكسر المشهد الشعري العربي الرتيب والحّار، المعلّق في فضاءات الرمل والهجير.
الفضاء البحري فضاء قاموس رحيم، ولغة متوترة إبداعياً، بريئة نسبياً من محمول مكاني وانفعالي مسبق. لغة ليست رهن غنائية ودرامية البداوة، ولغة رقراقة في فضاء يتجنّب البيان الشعري الشامل القديم نحو تجزيْ على علاقة بالمكان الذي ولدنا فيه ( مدينة مفتوحة على البحر )ولغة تتجنّب الهياج الشعبوي وتنجو من اللعب المُصّر على إعادة الإعتبار للدقة والتعبير والتطويل القديمين . لغة تتجنب التقليد والزهو المسيطرين في سبيل المتباين والمتشابه والتجربة المباشرة، تتجنب الصحراء والخيمة والتهويل بالغزو والبكاء على الأطلال في سبيل العذوبة القصيرة والإضمار والخفوت واٌلإيعاز بغوى الحياة ويسرها وانفتاحها على آفاق جديدة وبعيدة .
أجد البحر (وهذه ذائقة شخصية) مادة أخصب من الحب تقتات القصيدة منها وتشبع. البحر بالنسبة لي هو اسم القصيدة الوحيد في العالم. جلدنا الموشوم بالأزرق المتوسطي ينضح قصائد والبحر يتركنا عراة أمام الكلمة، يتركنا بلا عصر، وإننا في عرائنا نحوّل الكلمات الى أعماق مالحة، كل كلمة لغز كهذا البحر، كل كلمة فخ، وكل كلمة تعويذة ودعاء وكل كلمة اصل الشعر وبلاءه. هكذا يُهدينا البحر الكلمات وهذه تتغاوى أو تنكسر لافرق، لكنها تتشكل قصائد تتلألأ بعد أن نرصفها ونرسلها للأحبة والناس البعيدين .
هل يكفي البحر لتتخلّق القصائد؟ يكفي ويفيض ويُقيّض لنا الشعر ماشئنا .. ولا ينفذ .
تتحرّر الكلمات في الماء وهي دمهُ ودم المدينة ودمنا وذاكرتنا المليئة بأشباح تهوّم على سطحه وفي جوفه وغزاة يأتون من أعماقه . أيكون البحر هوية؟ لغة وحيدة يُسفحُ فيها سائل كثير من هذا البحر الهرم ؟ يكون … لغة تقريباً وحيدة .
في القصيدة التي تسبح في الماء، تتنّقل الكلمات وفقاً لرغبتي، من النثر الى الشعر، ومن الشعر الى النثر والنثر الموّقع، وهذه ليست سوى أداة واحدة متدرّجة الى اللغة الكليّة وفيها كيفية النقل، وهي كيفية تميل الى الكلمة الحرّة في الجملة، وتنتهي في إحداث الأثر المطلوب بالنسبة لي .
قد لاينوجد البحر في القصيدة كمسمّى أو شكل أو توصيف، لكنني أعني أن نتنّشق هنا رائحة تستدعيه، ومدى يُشبهه، وطراوة هي مقطوعة موسيقية صغيرة، وكثيراً أيضاً ما لاينوجد البحر، سوى أنه المسعى الخفيّ في القصيدة من شساعته وأسراره ووقوفه على الحّد الهيّن الرهيف لكتابة الشعر، وعلى استعادات لنغمات تصدر عنه، وعلى الحب الذي لايقّل في غموضه عن غموض هذه الأعماق .
حتى أن كتابة التفاصيل اليومية، ليست بعيدة عن إنفتاح الروح على الماء المُدرك بالحدس، وبالإصغاء .
البحر في القصيدة بمعـــــناه الرمــــزي هو تمرّد شعري لايمكن تجاهله، كما ليس ممكناً بحسبي الحديث عن قصيدة نثر في شكلها الفني والتركيبي الناجحين من دون ان تكون مهوّاة من هموم الضيق المكاني حتى لو أتت في صيغة فردية رازحة تحت وطأة هموم مدنية، وأخرى وجودية، وثالثة إنفصالية .
___________________
* شاعرة وأديبة وإعلامية من لبنان.
(القدس العربي)