عزت القمحاوي
في الأيام الأولى لثورة 25 يناير، وكنت قد استنشقت من الغاز ما يكفي للإحساس بالنشوة، جلست بالقرب من الميدان وكتبت لهذه الزاوية بسرعة غير معهودة تحت عنوان ‘الثورة تضحك’ ولم أزل حتى اليوم أقيس منسوب الأمل المصري بقدرة الثوار على الابتسام. وبالقدر ذاته أقيس قدرات الشعوب الأخرى على التغيير بقدرتها على السخرية؛ السلاح الوحيد الذي لا تجيد القوى القديمة ثقيلة الدم استخدامه. وقد رأيت في الأسبوع الماضي إيطاليا مستغرقة في الضحك.
ذهبت إلى روما التي تعيش هادئة بلا بابا ولا رئيس وزراء وذلك أفضل جدًا فيما يبدو، وكانت روما من المدن الإيطالية التي شهدت مظاهرات ضخمة، لكنهم ليس لديهم الآن من يتظاهرون ضده. وفي التوقيت ذاته ذهب جون كيري إلى مصر التي تنعم بالفوضى في وجود مرشد يخفي عينيه وراء نظارة عسلية ورئيس منتخب يتمتع بشرعية الصندوق الخالد.
تحدثت في روما عن كتبي وأظن أن هذا لا يضر ولا ينفع أحدًا غيري، وتحدث كيري عن أشياء خطيرة بغلظة لا تبعث على الابتسام؛ بينها مثلاً أن يناقش في القاهرة مع نظام يقتل المتظاهرين سبل إزاحة نظام دموي في دمشق يقتل المتظاهرين!
ليس في هذه المفارقة ما يجعلنا نبتسم، وليس في تعامي الوزير عن النار التي تحرق مصر في ظل الحماية الأمريكية لحكم اللحى الذي فبركوه أي جديد. مزاح ثقيل قديم، لكن الجديد المدهش حدث في روما حيث أسفرت الانتخابات البرلمانية الإيطالية عن فوز حركة جديدة تحمل اسمًا ساخرًا ‘خمس نجوم’ يقودها ممثل ومقدم برامج كوميدي اسمه بيبي جريللو، وهو في الأصل محاسب، دخل التمثيل وتقديم البرامج الحوارية مصادفة مثل الطبيب المصري باسم يوسف الذي يتابعه الملايين اليوم في مصر والعالم العربي.
حركة جريللو حصلت على 162 مقعدًا في البرلمان بغرفتيه بنسبة خمسة وعشرين ونصف بالمئة بما جعله الأول في غرفة النواب والثاني في الشيوخ. وقد جعل هذا الفوز عملية تشكيل حكومة إيطالية مهمة شبه مستحيلة بدون هذه الحركة الجديدة.
الحركة التي تسخر في اسمها من الرأسماليين الكبار حققت الحركة هذا النجاح المذهل في بلد كان يبدو مسدود الأفق، حيث تتداول حكمه طبقة سياسية قديمة على رأسها بيرلسكوني الذي اعتاد الإيطاليون منحه الأغلبية ثم الخجل في اليوم التالي لاختيارهم ذلك المتصابي الفاسد!
بدا دخول حركة ‘الخمس نجوم’ الانتخابات مجرد نكتة من نكات جريللو في برنامجه التليفزيوني الساخر. لم تقم بدعاية انتخابية مكلفة ولم توزع زيتًا أو سكر مثل برلسكوني أو الإخوان، وأحرزت فوزًا يسميه البعض ‘تسونامي جريللو’ الذي قد يمتد أثره إلى أوروبا كلها.
لم يهتم الناخبون إن كان هناك من مقر للحركة أو برنامج سياسي. وبعد نشوة الفوز بدأ الترقب للخطوة التالية. البعض يرى أن الحركة ليس لديها برنامج وإشاراتها متضاربة بين الانتماء لليمين واليسار، والبعض مثل المفكر أرماندو نيشي يستبعد أن تكون الحركة على لا شيء، ولابد أن لديها برنامجًا ستسعى إلى تحقيقه.
ومن الواضح أن الذين اختاروها هم طبقة المتعلمين الشباب الذين لا يجدون عملاً بينما يرون مظاهر البذخ الوقح حولهم. وسواء نجحت الحركة أو أخفقت في تفسير أحلام الشباب، فإن البعض يعتبر صعودها من حظ إيطاليا الحسن بدلاً من حركات النازية الجديدة التي ولدت في بلاد أوروبية أخرى مثل اليونان. كما أنها أول نجاح للحراك الشعبي الأوروبي والأمريكي الذي أعقب ثورة 25 يناير وتمثل في حركات مثل ‘احتلوا وول ستريت’ و’احتلوا لندن’ وفي مظاهرات دول حوض المتوسط (اليونان، إيطاليا، وإسبانيا). صحيح أن حركات مقاومة العولمة كانت موجودة قبل الربيع العربي، لكن بأعداد صغيرة اعتادت أن تنظم مظاهراتها على هامش القمم الاقتصادية الدولية.
كانت ثورة مصر ومعها ربيع العرب ملهمة وهذا هو الشيء الوحيد الصادق الذي قاله أوباما بحق الثورة المصرية التي ادعى أنهم سيعلمون أبناءهم كيف يكونون مثل المصريين، ثم بدأ العمل بدأب على إعادة المصريين إلى حظيرة الطاعة للرأسمالية المتوحشة.
ولكن أبناء الغرب، تعلموا من ربيعنا من دون معلم، ولا يزالون يتابعون ما يجري ويدركون بأكثر مما أدرك شبابنا تشابك مصالح أعداء الكرامة الإنسانية. شباب الثورة الغربيون يتشاركون على صفحاتهم صور القتل في شوارع المنصورة وبورسعيد، ولا يقولون هذا جناه ‘الإخوان’ بل يوجهون الاتهام بوضوح إلى الراعي الغربي: ‘كل هذا من أجل عدم الاعتراف بالعيوب الجوهرية في الرأسمالية’.
أصبح هناك يقين بأن من يموتون في سورية ومصر وتونس واليمن لا يموتون لأن العميل المحلي يريد ذلك وحده، بل من أجل الحفاظ على الرواتب الخرافية لطبقة رجال البنوك والمليارات التي تأتـــي بها الأنشطة الطفيلية والسمسرة، ولتغطـــية هذا العــــيب تمول الحكومات الغربية الحروب وتساند الأنظمة الفاشية حتى الدقائق الأخيرة قبل سقوطها.
والذين صوتوا لصالح باسم يوسف الإيطالي وحركته يدركون هذه الحقيقة، وقد وضعوا بتصويتهم الطبقة السياسية المتعفنة في مأزق، سعداء يتحدثون في الأدب ويودعون ضيوفهم معززين من الأبواب العالية لمطار ليوناردو دافنشي، بينما غادر الوزير الأمريكي مطار القاهرة من البوابة الخلفية المخصصة للبضائع والجثث، وهذا جزاء عادل على إجادته دور الميت الذي لم ير مصر تحترق ولم يشم جثة نظام متحلل جاء ليفرض بقاءه بأي ثمن.
تسونامي جريللو
– القدس العربي