* مودي بيطار
يقدّم سعود السنعوسي روايته الأخيرة «ساق البامبو» سيرة كتبها هوزيه ميندوزا بالفيليبينية وترجمها صديقه ابراهيم سلام الى العربية. الرواية الصادرة عن الدار العربية للعلوم – ناشرون، بيروت، من أفضل الأعمال في القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية التي سيُعلن الفائز بها في آخر آذار (مارس) المقبل. تهجس بالبحث عن الهوية والتمييزين العنصري والطبقي، ويتفحّص كاتبها بلاده بعيني غريب تسمحان له بالانتقاد، وإن انتصر في النهاية لطرحها.
يولد الراوي لخادمة فيليبينية وابن الأسرة التي تعمل لديها في الكويت. كانت السيدة غنيمة منعت ابنها الوحيد من الزواج بحبيبته لأن أسرتها أقلّ شأناً، ولئن بكت حين رأت حفيدها رفضته خشية تعرّضها للنبذ وامتناع العائلات المساوية اجتماعياً عن الزواج ببناتها الثلاث. يتزوّج راشد جوزفين لكي لا يظلم طفله، ويرحّلهما الى الفيليبين ثم يطلّقها معتذراً. ينوي الصحافي المثالي استعادة ابنه بعد زواج شقيقاته، ويمدّ جوزفين بالمال، لكن رسائله تنقطع بعد اشتعال حرب الخليج الثانية. يُرفض هوزيه، الذي سمّاه والده عيسى، في الفيليبين أيضاً حيث يُلقّب بـ «العربي» على رغم ملامحه الفيليبينية الخالصة. يقول جدّه الفيليبيني إن لا خير فيه، كما تقول جدّته الكويتية إنه لعنة حين يُقتل صديق لوالده في طائرة مخطوفة. أدمن الجد ميندوزا الكحول والمقامرة على صراع الديكة، وقبل ببيع ابنته آيدا جسدها وعمل ابنته الأخرى خادمة لكي يستولي على مالهما. طمحت جوزفين الى إكمال دراستها والحصول على وظيفة محترمة، وخابت حين اضطرت الى العمل خادمة في السابعة عشرة. تتمرّد آيدا على والدها، وتتوقف عن العمل بعد حملها من أحد الأوروبيين الذين تلتقيهم. تنجب ميرلا وتلزم البيت وتدمن الماريوانا وتعاني غضباً دائماً.
تدعو جوزفين طفلها هوزيه تيمّناً بخوسيه ريزال، الطبيب الكاتب الذي عارض الاحتلال الإسباني ورحل قبل هزيمته، وتعمّده كاثوليكياً ثم تهمل تربيته الدينية ليقينها بأن مستقبله في بلاد والده المسلم. يمضي طفولته في حال انتظار لا يعرف معها إذا كان فيليبينياً مسيحياً أو لا. يدرك رغبته الدائمة في التوحّد مع الطبيعة حوله، والتصاقه بالشجر في أرض جده ميندوزا حتى يوشك أن يفقد حواسه، مصدر المعاناة وفق تعاليم بوذا (الصفحة 65). يزور الكنيسة مرة واحدة للتثبيت وهو في الثانية عشرة، ويفكّر بأن قدره قضاء عمره باحثاً عن اسم ودين ووطن (الصفحة 66). عشق الأرض حتى خال أنه شجرة فيها: «لا أستبعد فكرة أن يورق رأسي، أو تنبت ثمرة مانغو خلف أذني». أحبّ الأخضر «لون الحياة» ودعته خالته آيدا السيّد بوذا في حين أزعج جلوسه تحت الشجر والدته كأنها خشيت أن يتجذّر هناك ولا يعود الى وطن أبيه.
قد يكون تحليل أمومة جوزفين ترفاً فكرياً لا يتحمّله صراع البقاء لدى خادمات آسيا وأفريقيا اللواتي يرحلن عن أوطانهن وأسرهن الى العالم العربي، ليعشن أعواماً في بيوت غرباء يسيئون معاملتهن غالباً. تقتنع جوزفين بأن هوزيه هو عيسى في الواقع، وأنه لم يُخلق ليعيش في الفيليبين. تصارحه بأنها ابتعدت قصداً عنه لكي لا تتعلّق به وتعدّ نفسها لرحيله (الصفحة 145). تتزوج ثانية في بلادها وتنجب آدريان الذي يصغره بثلاثة أعوام، ثم تغادر لتخدم أسرة في البحرين ثلاثة أعوام. تترك طفليها في عهدة الشقيقة المدمنة على الماريوانا، لكن الصغير يتعرّض للغرق ويختلّ عقلياً، فيلوم هوزيه، ابن الخامسة، نفسه لأنه لم ينقذ أخاه. في غياب الأم، النفسي والجسدي، سواء كانت في بلادها أو في بلد عربي، تصبح آيدا «الماما» ويبادل الطفل رفض والدته بالمثل. بعد عودتها تُبقي هوزيه مع خالته، وتصحب آدريان الى بيت زوجها الثاني. لا شيء يبرّر اقتناعها بأن طفلها الأول الفيليبيني القسمات كويتي غير رفضها تجربتها في الكويت كاملة، أو تعريف ضعيف عن الأمومة يفرضه العوز، علماً أنها شاركت في الكسب المالي. يعود ضعف النساء الظاهر، على رغم قوتهن الاقتصادية، الى ضعف البلاد مالياً، وفي حال جوزفين، الى اتكال أربعة أشخاص عليها من أسرتها الأولى، إضافة الى ضرورة مشاركتها مادياً في بيتها الزوجي.
ليس رحيل هوزيه، الذي يصبح عيسى أوتوماتيكياً، الى الكويت عودة الى بيئته الطبيعية بأي شكل. شاء والده راشد «عودته» بعد زواج شقيقاته، لكن ما الذي يجعل ابن الخادمة أكثر ملاءمة لأزواج الشقيقات وأولادهم، وكيف يقلّ التأثير في سمعة العائلة ومرتبتها الاجتماعية؟ غسان، صديق الوالد هو الذي يبادر الى تنفيذ وصية راشد، لكن عيسى يشكّ لاحقاً في أن مبادرته لم تكن إلا غطاء للانتقام من أسرة الطاروف التي رفضته زوجاً لأصغر بناتها هند لأنه «بدون» أي غير مجنّس. خولة، أخته من أبيه، وعمّته الكبرى عواطف هما الوحيدتان اللتان تسعدان بوجوده، وتفرضانه على الجدّة. في انعطافة جميلة تحار هند في موقفها منه بين صدقيتها كناشطة في حقوق الإنسان وانتمائها الى أسرة الطاروف المحترمة، لكنها لا تلبث أن تقبله به وتساعده في الحصول على الجنسية الكويتية. لا علاقة للعمر باحتضان الغريب، ابن الخادمة الفيليبينية، الذي ضمن وحده استمرار اسم الطاروف، سواء خطر ذلك لهن أو لا.
يحس عيسى – هوزيه حين يرى البامبو في المزهريات الفاخرة في منزل جدّته أنها مثله في غير محلّها. تقبله هذه في بيتها كمساعد طبّاخ يعيش في ملحق المبنى ويخفي هويته. هو كويتي رسمياً، كما قالت عمّته هند، لكن ماذا يكون عائلياً؟ يبقى في حال انتظار تنهيه جدّته حين تواجه انكشاف أمره، لكنه ينمو ويتحرّر بفضل تجربته. لم يعد وجوده يعتمد على آل الطاروف، بل على اعترافه هو بنفسه وقراره أن الكويت، وهو، مستقلان عنهم. يعرّف نفسه في النهاية بعيداً من الكويت نفسها، ويجد الحب مع ميرلا، ابنة خالته التي قرّرت في مراهقتها أنها مثلية تحدياً لوالدتها ووالدها المجهول. كانت بلا أب مثله ومثل جدّه، وواسى أحدهما الآخر ووجد طريقه.
يعتمد السنعوسي السرد التقريري بلغة بسيطة تخدم النص، لكنها تتمدّد لتتسع للنقاط الثلاث التي راجت في الستينات من القرن الماضي، ولعبارات من نوع «غسلت وجهي ونظفت أسناني» (الصفحة 238). يكثر اللجوء الى الصدفة، فعيسى يقصد الجامع مرّة واحدة ويتعرّف الى منقذه ابراهيم سلام. الشبان الكويتيون الذين يلتقيهم في جزيرة بوراكاي في بلاده يُفاجأ بأحدهم يعيش في المبنى نفسه في الكويت، وبآخر يكتشف أنه ابن الجارة التي تسبّبت بخروجه من منزل جدّته. لا إضافة درامية للكشف أن العجوز «الساحرة» التي عاشت قربهم كانت والدة جدّه في الواقع. وإذ يسافر غسان على الطائرة المخطوفة في الصفحة 50، يقول إنه لا يستطيع السفر لأنه ليس كويتياً في الصفحة 191. يرد في الصفحة 99 أن راشد انضمّ الى المقاومة عند غزو العراق الكويت الذي انتهى بتحريرها بعد 9 أشهر، وفي الصفحة 100 أن قوات الاحتلال تأسره في 1996 بعد خمسة أعوام على الحرب. من اللحظات الجميلة سرقة هوزيه دجاجة وسماعه طنين نحل يؤكّد الكاهن أنه الذنب، وزيارته قبر والده وانفجاره بالبكاء فقط لدى قوله «بابا».
_________________
* (الحياة اللندنية)