*ابراهيم الحَيْسن
يُثير هذا المقال سؤال العُري في الفن التشكيلي العالمي من زاوية جمالية تاريخية، ويَفْتَحُ نوافذَ الغِواية التي تسلَّلت منها نماذجٌ جسدية عارية -مصبوغة ومنحوتة- تخلَّصت من عداءِ وهجومِ الكنيسة الكاثوليكية الذي استهدف طويلاً أتباع النزعة الأيقونية Iconoclasme خلال القرن التاسع عشر إبَّان الفترة الفيكتورية..
أما في التجربة العربية الإسلامية، فقد ظلِّ التعاطي لرسم الجسد العاري خجولاً ومحتشماً، واصطدم مع مُعضلة «الإنكار الديني» للتصوير التي تفاقمت في ظلِّ سُلطة فِقهية مُتَزَمِّتة عَدَّت الفنَّ التشبيهي والتشخيصي Figuratif اختراقاً لطابوهات المؤسسة الدينية والأخلاقية. وكان من نتائج ذلك أن خَسِرَ الإسلام معركة الأيقونات التي استغلَّها الغرب لفائدته بعد أن سيَّجتها الثقافة الإسلامية المنغلقة بجمالية محدودة وضيِّقة. كما ازداد العداءُ الشديدُ للصورة في الفنِّ العربي الإسلامي وتضاعف مع ظهور إيديولوجيا مُعادية لمستشرقين Orientalistes ربطوا طروحاتهم بتأويلاتٍ خاطئة لنصوصٍ دينية ناقصة اعتبَرَت المصوِّر شيطاناً تجب مُعاقبته يوم الآخرة!!
1- الإغريق والوعي بطبيعة العُري..
«إن العُري للفنان، كالحب للشاعر».
بول فاليري
لإيقونوغرافيا العُري تاريخ عريق وقديم قدم الإنسانية. ففي الثقافة الإغريقية، اعتبر تصوير العُري المنطوي على قيمة إثارية (1) Erotique أمراً شائعاً بما في ذلك الممارسات الجنسية الطبيعية والشاذة، إذ كان الإغريق على وعي بالطبيعة الخاصة لعُريهم. أما في البلدان التي تخضع لحكم البرابرة (أي من غير الإغريق)، فإن العُري هو أمر يجلب العار مثل الفلسفة والتفلسف نتيجة لولع هؤلاء البرابرة بالظلم والطغيان السياسي(2).
ففي اليونان وروما القديمتين، كان العُري شائعا أثناء تطبيق العقاب على الظالمين بِجَلْدِهم وهم عُراة. أما بالهند، فقد ارتبط العُري بالمقدَّس Sacré، بحيث أن معظم رجال الدين الهنود العراة كانوا يرتبطون بعقيدة هندية قديمة تُعرف باسم «الجاينز» التي ظهرت في عام 500 ق. م. أضف إلى ذلك أن طائفة «الساكاس» الهندية نقلت تقاليدها في العُري إلى الهند الحديثة من خلال آلاف التماثيل المعروضة على حوائط مدينة «كاجوراكو»، تلك التماثيل التي لا تترك شيئا للخيال من فرط صراحة الممارسات الجنسية التي تصوّرها، والتي تعود إلى القرن العاشر الميلادي(3).
وتذكر بعض كتب تاريخ الفن أن الرومان كانوا يهاجمون الإغريق في تعاطيهم للعري عبر التصوير الذي كان يمثل بالنسبة لهم انحلالاً أخلاقياً، كما أن الإبداعات الرومانية خلال عصور خلت كانت تتدثر وتُغطَّى لصرف المشاهد عن الجزء العاري في الجسم. وفي حضارة وادي الرافدين كان العُري يسم العديد من الإنتاجات التشكيلية. فهو (العُري) كان متواجداً في الحضارة السومرية على نطاق الآلهة والبشر. ففي تقدير النذور كان الرجال يُصَوَّرون عُراة وأعضاؤهم التناسلية بادية للعيان، كما في الإناء النذري والأختام الأسطوانية.
2- أفروديت ربَّة الحب والجمال..
ظل الفن الإغريقي، الذي تحكمه معايير مثالية دقيقة، يتطرَّق إلى الإيروس (الحب) عبر مجموعة من المراحل التي شكَّلت السيرورة العامة لهذا الفن، سواء تعلَّق الأمر بالمرحلة القديمة أو المرحلة الهيلنستية. كما أن لمظاهر العُري لدى الإغريق بُعد فلسفي وديني يجسد اعتقادهم بشمولية الإنسان: الرُّوح والجسد وجهان لعملة واحدة. مما دفعهم إلى إعطاء الفكرة المجرَّدة شكلاً محسوساً تجلَّى في الكمال الجسدي وفي الإثارة والشهوانية. هذا الفن الذي أشيد على قيم الإيمان الديني من جهة والإيمان بالأرقام وعلاقاتها المتجانسة من جهة أخرى، هو أساس الفن الغربي. ومع أن علم الأرقام يرتكز ويلتصق بعلم الرياضيات، وبالعقل الذي يتعالى بصاحبه ليقترب من العقل الأول ومصدره الله، لم يجد المصوِّرون سبيلاً للتعبير الراقي إلاَّ في استعمال الأحجام المثلى للشكل الإنساني. من هذا المنطلق، يُعتبر كل تمثال إغريقي مجموعة من أجزاء لأجمل الأجساد المعاصرة للفنان، يبحث عنهم وعنهنَّ في كل مكان، فيختار صدر فلانة، وردفَيْ أخرى وساقَيْ ثالثة..إلخ(4).
داخل دروب هذا الإيروس الإغريقي، ازدهر الجسد الآدمي كتيمة Thème لازمت الكثير من القطع والإبداعات الفنية والجمالية، مبسطة ومجسمة، لاسيما في ارتباطها بالحب الإلهي الذي شكَّلت أسطورة أفروديت Aphrodite5 مركز دائرته.
هذه الأسطورة -التي حكى أطوارها هوميروس وهسيود Hesiod- جسَّدتها مجموعة من التماثيل الفخارية الصغيرة (تمَّ العثور عليها في جزيرة قبرص) مصاغة على نمط الأسلوب الشرقي في فن النحت، وتُصَوِّرُ تماثيل امرأة في ثوب طويل تحمل في يدها اليُمنى تفاحة أو زهرة، بينما تلتصق يدها اليُسرى بصدرها(6)..
وانطلاقاً من أواسط القرن الخامس ق. م.، شرع الفنانون الإغريق في نحت وتصوير أفروديت الكلاسيكية كامرأة فاتنة تحظى بأعلى مراتب الفتنة والجمال، أبرزهم النحات فيدياس Phidias الذي نحت ثلاثة تماثيل لأفروديت، والنحات ألكامن Alcamene صاحب تمثال «أفروديت في الحديقة»، والنحات سكوباس Scopas الذي نحت تمثال أفروديت بانديموس(7)..
ظلَّت أفروديت -ربَّة الحب والجمال- محتفظة بلباسها الشفيف والطويل الذي كان يغطي أجزاءً مهمَّة من جسدها الجميل إلى أن جاء النحات براكسيل الذي يُعَدُّ أول نحات إغريقي يُجَرِّدُ أفروديت من ثيابها ويُصَوِّرها عارية تماماً كما «ولدتها أمها»..وقد حظي هذا الفعل باهتمامٍ وإعجابٍ كبيرين من لَدُنِ سكان كنيد الذين خصَّصوا لأفروديت معبداً خاصَّاً.
عقب هذه القطع النحتية الرائعة التي تمحورتها أفروديت، برزت أعمال فنية (تصاوير، ميداليات، قطع خزفية، نقوشات بارزة..) احتفت هي الأخرى بهذه المرأة الجميلة جالسة، أو واقفة تارة..منحنية تارة أخرى، إلى غير ذلك من الوضعيات التي عَبَّدَت الطريق أمام فنان عصر النهضة بوتيتشيللي Bottitcelli الذي أعاد تصوير أفروديت بأسلوبه التصويري الخاص، كما يظهر ذلك جليّاً في لوحته الشهيرة «ولادة أفروديت»، أو ولادة فينيزا..
ثم برز المصوِّر جيورجيوني Giorgioni ليُصوِّر بدوره فينوس عارية، بدون ستائر، نائمة..حالمة ومجرَّدة من لباس يستر عورتها. وكذلك فعل الرسام تيسيان Titien -المتأثر بجيورجيوني- حين رسم فينوس (ربَّة الجمال) تتزيَّن أمام المرآة. ففي لوحته الشهيرة «فينوس أوربينو» (حوالي 1536)، جسَّد تيسيان الصُّور الحسية لـ Donaduna (المرأة العارية)، وهي تقع على الحافة بين المرأة والميثولوجيا، بين الرسم الإيروتيكي الجنسي والفن الرفيع(8).
فضلاً عن ذلك، اهتم الفن الإغريقي القديم برسم الحياة الجنسية للساتيرات (9) Satyrs، حيث كان الفنانون يصوِّرون هذه الشريحة بأعضاء تناسلية ضخمة، غير مناسبة، ظهرت كثيراً في أعمال النقش والمزهريات وكؤوس الورد الفخارية، وذلك ضمن مشاهد فاحشة تتنافى كثيراً مع الإيروتيكا البشرية، إذ تكثر فيها صور ملاحقة النساء الفاجرات المخمورات Menades بشكل حيواني فظ وممارسة العادة السرية وغيرها. هذا إلى جانب العديد من المشاهد المنقوشة على المزهريات، كالحب والقبلات والعناق والغزل والخيانة وغير ذلك من المواضيع التي تجسِّد مظاهر الحياة الجنسية والشهوانية في اليونان وروما القديمتين.
كما أن فناني العصور الوسطى كانوا يصوِّرون العُراة بدون مشاركة المشاهد، لهذا كانت تنعدم ردود الفعل الجنسية في لوحاتهم. فالمشاهد العديدة لعُري آدم وحواء تُصَوِّرُ العُري بدون أية علاقة باهتمام المشاهد البصري، أي من حيث هو واقع طبيعي صرف. وليس من قبيل المصادفة أن يميِّز رجال الدين المسيحي في القرون الوسطى بين أربعة نماذج من العُري:naturalis Nuditasأي حالة الإنسان الطبيعية، و temporalis Nuditas أي العُري من حيث هو نتيجة الفقر والبؤس، و virtualis Nuditas أي العُري كرمز للبراءة والبساطة، وأخيراً criminalis Nuditasوهو العُري الذي يحيل إلى الشوق والشهوة والوقاحة. وكانت الممارسة الفنية تستخدم التضاد بين القامة بالملابس والقامة العارية كأسلوب خاص متميِّز(10)..
3- دروب اللذة والمتعة..
ظل الجسد في ثقافة وفكر الإغريق يتسم بالكمال وفق الاستتيقا أو علم الجمال المتعارف عليه، والذي يصور الكمال التام. ولم يكن الإغريق يقلدون أو يتشبهون بالواقع، بل كانوا يحسنونه ويشذبونه ويضيفون عليه صفات من النادر أن تجتمع في إنسان واحد.
لقد كان لهذا التصوُّر والتوظيف المثالي للجسد بالغ التأثير على فناني القرن الخامس عشر الذين ما فتئوا أن تجرَّؤوا على إبراز الجسد لكن على استحياء، ساعدهم في ذلك اختيارهم لموضوعات من الكتاب المقدس خاصة آدم وحواء، إضافة إلى استشهاد القديسين. فمايكل أنجلو Michel Ange كان أكثر جرأة حين قام برسم السيد المسيح ونحت له تمثالا عاريا تماما، فقام المعارضون للإصلاح الديني بحجب أعضائه التناسلية بدافع الاحتشام. وبعد هذا الإنجاز، ظل الجسد العاري يتجاوز كل ميراث تحريمي أو أي تصميت يحد من حريته..
ثم تزايد إبراز الجسم البشري ولجأ الفنانون إلى القديم الميثولوجي، فظهرت صور هرقل وأبولون والحوريات الإغريقية بكثرة. وقد أتاح اختيار هذه الموضوعات للفنانين عرض الجسم البشري، وانتشرت «موضة» العُري في الفن مبشرة بظهور معيار أخلاقي Ethique جديد..
وثبتت النسب وفق معايير رخصتها الكنيسة يفترض عدم الإخلال بها توخيا للكمال، حيث يحتل الرأس نسبة محددة في الطول الكلي للجسم، وكذلك مقاييس الأطراف وعرض الأكتاف. ويسجل ليوناردو دافنشي Léonard De Vinci هذه المقاييس أبرع تسجيل في لوحته الشهيرة «دورة القمر» -وهي مقاييس يمكن الإفادة منها في الرسم والعمارة- حين رسم جسدا بشريا شديد التناسق داخل دائرة ومربع في آن معا: الأعضاء التناسلية مركز المربع، السُّرة مركز الدائرة(11)..
امتدادا لذلك، «ازدهر الجسد العاري في الفن خلال المائة عام الأولى من عصر النهضة الكلاسيكي، عندما تداخلت الشهية الجديدة للتحليل القديم مع عادات العصور الوسطى في الترميز والتشخيص، وقد بدا وقتها أنه لا يوجد مفهوم مَهْمَا كانت عظمته لا يمكن التعبير عنه بالجسد العاري، وليس هناك شيء مهما كانت تفاهته لا يمكن تحسينه عند إعطائه شكلا بشريا، ففي طرف نجد «الحساب الأخير» Le dernier jugement لمايكل أنجلو M. Ange، وفي الطرف الآخر نجد مقابض الأبواب والشمعدانات، حتى مقابض الشوك والسكاكين. فبالنسبة للأول ربما يكون الاعتراض كما هو الحال في معظم الحالات أن العُري ليس مناسبا لتقديم المسيح وقديسيه، أما الاعتراض الذي يثيره الاستخدام الثاني وهو ما يحدث في أغلب الحالات، هو أن شكل فينوس العاري ليس هو ما نحتاجه في أيدينا عندما نقطع طعامنا أو ندق على باب، وهو ما أجاب عليه أحد الفنانين بقوله: (إن الجسد البشري هو أكثر الأشكال جمالاً وكمالاً، ولهذا فلا يُمكن أن نملّ من رؤيته)»(12).
في عصر النهضة، لم يعد الجسد موضوعاً مخجلاً، أصبح أداة راقية، وسيطاً للشعور باللذة والمتعة. صور الجسد في علاقة جدلية ما بين الميثولوجيا والواقع المستمد من المعتقد المسيحي الذي ما زال سائداً وإن تجاوز في أشكاله العصور المسيحية الوسطى. إن شرعية الاستلهام من التراث الإغريقي-الروماني قد أدت إلى تنوُّع في مواضيع الحب والسرد الإيروتيكي، والوضعيات المثيرة، مما جعل عصر النهضة (الرونيسانس) محطة أساسية ليس فقط من حيث الكم الهائل من الرسومات الشهوانية التي أنتجها ولكن من حيث إنه حدَّد معالم المسار الحداثي المتمرِّد على السائد والجامد. كما حدَّد هذا العصر مبادءه التراتبية للمواضيع الفنية واضعاً الجسد الإنساني والعُري في أعلى سلم الإبداع(13)..
منذ ذلك العصر (القرن الخامس عشر)، أصبح رسم الوجه الفردي Portrait بطريقة بليغة أحد المصادر الأولى لإلهام الرسام، وقَلَبَ في عدة عقود الاتجاه الذي كان ثابتا حتى ذلك الحين، والمتمثل بعدم تمثيل الشخص البشري من دون اللجوء إلى تصوير ديني. لقد ترافق انطلاق المسيحية برفض رسم الوجه، ارتبط بالخوف من أن يصبح فهم صورة الإنسان فهما للإنسان نفسه. فرسمُ الوجه لم يُنظر له كإشارة، أو نظرة، وإنما كحقيقة تؤثر على الشخص. وفي أواخر القرون الوسطى، ترك كبار رجال الكنيسة أو المملكة وحدهم رسوما لأشخاصهم، لكنها كانت محمية من الرقيات المؤذية بواسطة التناغم الديني للمشاهد التي صُوِّروا فيها وهم محاطون بشخصيات سماوية(14).
أما خلال عصر الباروك (القرن السابع عشر)، فقد تنامى التعاطي للإشارات الشهوانية في الفنون المقدَّسة Arts sacrés، مثال ذلك «القديسة تيريزا» بجسدها الفاتن الموجَّه إليه سهم الملاك، وأيضاً مناظر الملذات السادية والمازوشية المؤلمة.
وابتداءً من القرن التاسع عشر، انتعش رسم ونحت العُري الفني، لاسيما لدى الفنانين الرومانسيين والمستشرقين الذين اشتغلوا كثيراً على مواضيع الحريم والجواري والحمامات ومشاهد الرقص والغناء وغيرها من التيمات التي تمتد لإرث صباغي ونحتي ازداد تطوُّراً مع اختلاط الفن بحياة المومسات داخل الحانات وعلب الليل والنوادي الخاصة والمغلقة..إلخ.
في الثقافة اليونانية شاع ما يُعرف بـ«الكاما سوترا»(15) Kama Sutra (بالإنجليزية Kamasutram)، وهو نص هندي قديم يتناول السلوك الجنسي لدى الإنسان، ويُعَدُّ عملاً استثنائياً للحب وتجميعاً موجزاً لنصوص هندية سابقة ذات العلاقة بموضوع الحب المتعة والجنس صاغها وجمعها الفيلسوف الهندي فاتسيايانا Vatsyayana (حوالي القرن الثالث بعد الميلاد)، وتُعرف هذه النصوص باسم «كاما شاسترا» Mama Shastra.
يجسد الكاما سوترا نموذجاً من الممارسات الجنسية التي كانت تقدمها البغايا في المعابد الهندوسية، باعتبار أن الحب كان مباحاً ويشكل شعيرة Rite تقوم عليها العبادة في ذلك الوقت(16).
4- خرائط العُري الأيقوني..
ارتباطاً بتاريخ الفنون التشكيلية الحديث، يصعب القيام برصدٍ دقيقٍ، أو بتحقيبٍ متناهٍ للصيغ التعبيرية والأشكال الجمالية التي تم بها توظيف الجسد ودمجه، كموضوع وكمفهوم، في العملية الإبداعية (رسم، نحت، كوريغرافيا، تصوير شمسي، فيديو إنشائي..) بسبب تنوّع الاتجاهات الفنية وتعدد التقنيات والأسناد والوسائط المعتمدة في هذا الإبداع الفني أو ذاك، أو في هذه الطريقة التعبيرية أو تلك. لذلك يمكن القول بأن سنة 1863 شكَّلت منعطفاً رئيسياً في تاريخ رسم ونحت الأجساد العارية، حيث سيتمرَّد الفنان الانطباعي إدوارد مانيه E. Manet على هذه الأعراف عندما رسم لوحته الشهيرة «أولمبيا» Olympia التي فتحت المجال واسعاً لظهور أعمال وقطع فنية أخرى كثيرة مستوحاة من التقاليد الإغريقية ذات العلاقة بالعُري الأيقوني، ومنها لوحة «المستحمات» لبول سيزان P. Cézanne، وأجساد غوستاف كليمتG. Klimt المطروزة بالتوشيات والزخارف الدقيقة التي جعلت من لوحاته مشاهد إيروتيكية (جنسية) وصوَّراً مفعمة بالزينة المزركشة، كما في لوحات «القبلة»، «الحقيقة العارية»..إلخ. وأيضاً فتيات إيف كلاين Y. Klein الملطّخات بالطلاء الأزرق، ثم الفنان النمساوي إيغون شييل Egon Shiele (1890-1918) الذي ينفرد بإبداع صوَّر لأجساد بشرية أغلبها لفتيات عاريات في وضعيات متشابكة ينفذها غالباً بصبغات الغواش Gouache والأقلام التلوينية على سنائد من الكانفا والورق. لوحاته تعبيرية ملأى بالمشاهد الجنسية: رجال عُراة بجانب نساء عاريات يختلفن في البنية الجسمانية عن نساء فرناندو بوتيرو F. Botero المكتنزات وذات الهيئات البالونية الموسومة بنوع من النرجيسية الطفولية، فضلاً عن الأعمال الفوتوغرافية العديدة لفنان الدادائية مان راي Man Ray التي تثير التقزّز والاشمئزاز، وهي على نقيض فوتوغرافيات الفنانة الإيرانية المعاصرة شادي غديريان(17) التي تُبرز نساء عاريات قابعات خلف الحجب..
5- ثورة «المستمني الكبير»..
نضيف إلى ما تقدَّم لوحة «العارية الكبيرة»(18) التي نفذها جورج براك G. Braque في شتاء 1907/1908 وتبدو في نسق تعبيري مغاير لأسلوب صديقه التاريخي بيكاسو وخالٍ من أي تأثير إفريقي..وكذلك لوحة «المستمني الكبير» Le grand masturbateur لسالفادور دالي S. Dali التي أحدثت خلال ظهورها عام 1929 ثورة فنية تركت أثرا عميقا في بنية الفكر الجمالي الأوروبي خلال القرن الماضي، إذ نرى فيها وجه امرأة يُداعب فخذ رجل مع ظهور جهازه التناسلي..إلى جانب لوحة «ليحيا الحب» للفنان ماكس إرنست Max Ernst التي تُصَوِّرُ التحام جسدي إمرأة ورجل عاريين ومغلفين بقشرة تبدو كقالب حديدي حول تضاريسهما المتشابكة، بتعبير ذ. يوسف ليمود(19). في السريالية أيضاً، يصح الحديث عن أعمال الفنان رونيه ماغريت R. Magritte، ولاسيما لوحة «اغتصاب» (1914)، ولوحة «المرأة/ المرآة»، أو العلاقة الخطرة التي تظهر فيها امرأة عارية حاملة مرآة كبيرة تغطي جزءاً كبيراً من جسدها وقد عكست صورة جانبية لها تبدو فيها كما لو أنها تستدير محاولة ستر صدرها.
فضلاً عن ذلك، تبرز مجموعة من إبداعات الرسام فرانسيس بيكون F. Bicon الذي دأب طويلاً على رسم أجساده بطريقة تصويرية تشذيرية مسبوقة برسوم تحضيرية (إسكيزات) سريعة التنفيذ ومصاغة بعنف صباغي يعطي الانطباع بأن الفنان ينجز قدّاساً بدائياً، محوِّلاً كل موتيفاته الفنية إلى قرابين ووسطاء حالات من العنف الفني للتدليل على أن الإنسان منذ وجوده في الحياة وهو يتلذذ بصناعة الفاجعة، وكلما ازداد إحساسه بالذنب ازداد إلحاحه على الانتحار في الحياة أو من أجل الحياة هارباً منها إلى حَدِّ الاستسلام، أو مقبلاً عليها إلى حَدِّ الغطرسة(20). من الفنانات المعاصرات، نذكر الأمريكية ألكس ميد التي تشتهر برسم أجساد بارزة بواسطة صبغة الأكريليك على لوحة الكانفا، كما ترسم مباشرة على أجساد حية فتبدو وكأنها لوحات متحرِّكة، فضلاً عن اشتغالها في مجال الفوتوغرافيا والتجهيز داخل الفراغ (الأنستليشن).
ثم هناك أيضاً، العمل الضوئي الذي أنجزه فنان الدادائية الشهير مان راي Man Ray الذي يمثل بورتريها فوتوغرافيا تظهر فيه زميلته السويسرية ميريت أوبينهايم عارية ملطخة بالحبر، زد على ذلك القطع النحتية للفنانة المعاصرة لويز بورجوا L. Bourgeois التي تتماهى فيها أعضاء ذكورية مع أخرى أنثوية، وكذلك التصاوير المائية (الأكواريل) للرسامة الجنوب إفريقية مارلين دوماسMarlène Dumas المليئة بالعديد من الإيحاءات الجنسية القريبة من البورنوغرافيا..
مع الإشارة كذلك إلى أعمال الفنان الفوتوغرافي الياباني نابويوشي أراكي Nabuyoshi Araki التي تجسِّد مشاهد غير معتادة، حيث يلجأ إلى قلب الأعضاء المصوَّرة داخل السند بشكل مثير للانتباه، وعلى الخصوص الأعضاء الحساسة في جسد المرأة، كالفتحة والنهدين وغير ذلك من الأعضاء التي يقدِّمها متشظية..ممزَّقة كثيراً ما أثارت حفيظة السلطة وأجهزة المراقبة ببلاده، وأيضاً أعمال الفنانة النمساوية فالي إكسبور Valie Export التي يمتزج فيها الجنس بالعنف.
نُضيف أيضاً تجربة الفنان الأمريكي المعاصر توم ويسيلمان Tom Wesselman (متوفى عام 2004) الذي اشتهر بإنجاز لوحات كولاجية تحتل بؤرتها موديلات عاريات يقوم بإبراز أعضاء الغواية Séduction في أجسادهن، كمنطقة العانة التي يغطيها بشعر حقيقي مُغَرَّى إلى جانب استعماله لألوان تعبيرية هادفة.
خلافاً للتجارب التشكيلية المذكورة (نحتية، تصويرية..)، وضمن فن البوب آرت Pop Art الذي اختلط فيه العُري مع البضائع والسلع المعلن عنها، نستشهد بتجربة الفنان أندي وارهول A. Warhol الذي كان طموحه الأيقوني يسدُّ في طريقه سبل الغزل الإيروتيكي بالجسد. كان وارهول، بطريقة أو بأخرى، ينصب الصلبان لكل ما تقع عليه يداه: مارلين مونرو، أو علبة حساء، أو الزعيم الصيني ماو Mao. وارهول هو نوع من صُنَّاع الماضي المحتفى به، ولم يكن ذلك الفنان المولع بالسلطة مستعداً لتعريض ذلك الماضي أو أي جزء منه للنسيان. لذلك لم يهتم بجسد مونرو، وهي التي اتخذ منها غير مصوّر موديلاً عارياً. ومن يرى الآن صور مونرو تلك وهي عارية، لا بُدَّ أن تذهله براءة تحيط بجسدها كما لو أنها تحاول أن تمزج ذلك الجسد ببياض النسيان، مونرو في الصور هي غير نجمة الإغراء التي انتهت إلى اليأس. الجسد العاري إذا هو غيَّر صفته التي تسعى إلى أن تكون مصيدة لفكرة، غالباً ما تكون خليعة، وهي فكرة تخول الجمال، لأنها تهتم بمادته ولا تهتم بأثره المدوي(21).
الحديث عن العُري في البوب آرت يجرُّنا إلى الحديث عن تجربة فريدة جديرة بالانتباه، هي للفنان جيرارد ريشتر Gerhard Richter المولع برسم النساء العاريات بتقنية تصويرية عالية المستوى والأداء قريبة من تقنية التصوير الفوتوغرافي.
وبتصويرية مطبوعة بمسحة شبه كاريكاتيرية ترسم الفنانة جان لوريوز لوحات تجسد نساء بدينات عاريات تظهر مؤخراتهن البالونية ضمن وضعيات إيروتيكية متنوعة (فوق أثاث، على دراجات هوائية..)، مستعملة في ذلك ألوان الأكريليك على الخشب المسطح. وقد عرضت الكثير من هذه اللوحات بباريس وسان دييغو ولندن ونيويورك، وقبل سنوات قليلة ماضية بغاليري «عايدة شرفان» ببيروت. نساء لوريوز أجساد مجرَّدة سوى من الملابس الداخلية الشفيفة المنقوشة التي تلف مناطق الغواية في جغرافيا العجيزة والمؤخرة.
6- سلطة التابو..
في التجربة الفنية العربية الإسلامية، ظل التعاطي لرسم ونحت الجسد العاري خجولاً ومحتشماً واصطدم مع معضلة «الإنكار الديني» للتصوير والتجسيد التي تفاقمت في ظلّ سلطة فقهية منغلقة عَدَّت الفن التشبيهي اختراقاً للمؤسسة الدينية والأخلاقية. وقد ازداد هذا العداء الشديد للصورة في الفن العربي الإسلامي وتضاعف مع ظهور إيديولوجيا معادية لمستشرقينOrientalistes ربطوا طروحاتهم بتأويلات خاطئة لنصوص دينية ناقصة تَعتبر المصوّر شيطاناً تجب معاقبته يوم الآخرة!!
زد على ذلك أن كليات الفنون الجميلة بأقطار عربية رائدة (مصر، سورية..) طالتها الرقابة والمصادرة والمنع، وغابت عن محترفاتها التكوينية مادة التشريح البشري والموديل العاري الذي لقي اعتراضاً شديداً من لَدُنِ بعض التيارات الإسلامية والأصوليات المتطرّفة التي ذهبت إلى حَدِّ إصدار فتاوى تُحَرِّمُ فنون النحت والتجسيد. مع العلم أن الدين الإسلامي ليس دين الممنوع والمحظور، ودليل ذلك وجود شواهد مادية مشهورة بطابعها الجمالي التشبيهي والتشخيصي Figuratif أبرزها تلك التي ظهرت خلال عهد هشام بن عبد الملك، كقصر خِربة المفجر (الموجود بأريحا الفلسطينية حالياً)، وقصر الحير الغربي، وقصير عمرة..وغير ذلك من الفضاءات المعمارية التي تتضمّن رسوماً جدارية تجسّد مشاهد العُري والرقص والصيد والاستحمام..إلخ.
بعبارة أخرى، يصحُّ القول أن الجسد لا يمثل في ثقافتنا العربية الإسلامية موضوعاً جمالياً، حيث يُعَدُّ تصوير جسدٍ عارٍ خدشاً للمؤسسة الدينية (وضمنها الأخلاقية)، بخلاف الفكر الغربي الذي يُبَجِّلُ ما يُعرف بجمالية الجسد الخاضعة لشروط ذوقية ظلت متصلة بغايات دينية إلى أن خضعت الجمالية إلى العلمنة، وبالتالي بلوغ ما أمسى يُعرف اليوم بـ«إيروتيكا الجسد البشري».
من تم، أضحى الجسدُ العاري في الإبداع التشكيلي العربي الإسلامي أيقونةً مبهمةً ترسم في غموضها والتباسها ملامح القهر والاستبداد والقتل الرمزي الذي لا يزال ينخر متخيّلنا الإبداعي ووجداننا الجمالي المشترك. ويُمكن التطرُّق في هذا السياق إلى تجارب بعض الفنانين الإيرانيين المعاصرين أغلبهم يعيشون بالمهجر، توجد في طليعتهم الفنانة الإيرانية الأمريكية شيرين نشأت التي تبدع صوَّراً فوتوغرافية (بالأبيض والأسود) توظف فيها نصوصاً دينية مسربلة على القسمات والأكف وأعضاء أخرى من أجساد نساء تُطلق عيهن اسم: «نساء الله/ حرَّاس الثورة»، إلى جانب مواطنتها الفنانة شادرين التي تعاملت مع الجسد الأنثوي المصوَّر في حدود معاناته اليومية داخل البيت على وقع سلطة الرجل وتابوهات المجتمع والدين..
الهوامش
1- من Erotic وErotisme، وهو تعبير يعود إلى المصطلح الإغريقي، وهو تعبير يعود إلى المصطلح الإغريقي Eroticos الذي يعود بدوره إلى اللفظ Eros (الإيروس) الذي يعني الحب الجنسي. ويرتبط الإيروس وفقاً لقاموس أكسفورد الإنجليزي بمشاعر الحب وأحاسيسه.
2- فن الرسم العربي/ م. م.17- محمد حسام الدين اسماعيل: الصورة والجسد/ دراسات نقدية في الإعلام المعاصر، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 2008 (ص. 202).
3- الصورة والجسد/ م. م. (ص. 206).
4- هند الصوفي: أيقونوغرافيا الحب والجنس/ جمالية المكشوف والمحجوب، كتاب «باحثات»، عدد خاص بموضوع: «مسارات الحب بين المتخيَّل والمُعاش- أبحاث وشهادات»- العدد الثامن، بيروت/ لبنان 2002/2003 (ص. 61).
5- أفروديت Aphrodite: إله الحب بتوصيف الإغريق، كانت تُعرف بـ»فينوس» عند الرومان، وعشتروت، أو عشتار في بلاد الشرق.
6- فياتشيسلاف شستاكوف: الإيروس والثقافة/ فلسفة الحب والفن الأروبي- ترجمة: نزار عيون السود، دار المدى للثقافة والنشر-دمشق/ سورية، الطبعة الأولى 2010 (ص. 67 و68).
7- المقصود بذلك «أفروديت الأرضية» في مقابل «أفروديت السماوية» (أفروديت أورانوس) اللتين تحدَّث عنهما أفلاطون.
8- الإيروس والثقافة- فلسفة الحب والفن الأروبي../ م. م. (ص. 150).
9- قوم أنصاف بشر من الأعلى، وماعز من الأسفل. يُعتبرون بمثابة رمز حي للغرائز الحيوانية لدى الإنسان.
10- الإيروس والثقافة/ فلسفة الحب والفن الأروبي/ م. م. (ص. 101).
11 – كلود عبيد: الفن التشكيلي/ نقد الإبداع..وإبداع النقد، دار الفكر اللبناني- الطبعة الأولى 2005 (ص. 77)..
12 – فدوى رمضان: «اكتشاف الجسد»، ملحق البستان/ صحيفة أخبار الأدب، العدد 612- الأحد 03 أبريل 2005.
13 – كتاب «باحثات»، مرجع مذكور (ص. 62 و63).
14 – دافيد لوبروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة- ترجمة: محمد عرب صاصيلا- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع (مجد)، الطبعة الثانية- بيروت 1997 (ص. 40).
15- كاما سوترا Kama Sutra: تعبير يوناني يعني «العشق الإلهي»، وهو مكوَّن من كلمتين، هما: Kama بمعنى الرغبة والمتعة، وسوترا Sutra التي تفيد سلسلة من الحِكم، كما تعني أيضاً: النص والكتاب.
16 – موسوعة ويكيبيديا الحرة:org ar.wikipedia.
17 – فنانة فوتوغرافية إيرانية من مواليد طهران عام 1974، درست في إحدى الجامعات ببلدها ونالت شهادة الباكالوريوس في مجال التصوير الضوئي. في حوزتها العديد من المعارض الفنية، أبرزها بإيران وباريس ونيويورك وبرلين وموسكو وبرشلونة ولندن..إلخ. وتوجد الكثير من أعمالها الفنية بأروقة ومؤسسات عالمية، أبرزها مركز جورج بومبيدو في باريس والمتحف البريطاني في لندن.
18 – العارية الكبيرة (1907- 1908)- زيت/ 140 سم x 99 سم- مجموعة خاصة / باريس.
19- يوسف ليمود/ الحوار المتمدن، العدد 1768- 18 دجنبر 2006.
20 – واردة ضمن مقالة منشورة بموقع:www.alawan.org
21- فاروق يوسف: «هذيان المنسيات الإيروتيكي»، مقالة واردة بالملحق الثقافي لدريدة النهار اللبنانية، وأيضاً بموقع الإمبراطور: www.alimbaratur.com
___________
* مجلة (نزوى).