خيري منصور
قبل ما يقارب العقدين صدر كتاب في فرنسا يضم خمسة عشر مقالا، ساهم فيه مهندسون معماريون وشعراء وأطباء، فكان بانوراما تحيط بالمشهد من مختلف زواياه، وأذكر ان احد المساهمين في الكتاب تحدث عن انحسار مساحة الشعر في المدينة المعاصرة، لأنها اصبحت اسيرة الضرورة لا الحرية، وبالتالي فقدت جمالياتها وحوّلت البشر الى كتل ديموغرافية صمّاء، وسبق هؤلاء سارتر في مقالته الشهيرة عن نيويورك حيث يضيع المرء كما قال على بعد امتار من مسكنه، وهذا الضياع زماني وليس مكانيا، بسبب تشابه ناطحات السحاب واحساس من يسكن فيها بالضآلة.
وفي الفترة نفسها كتب وليام سارويان قصته الشهيرة عن رجل وحيد يقيم في الطابق السبعين ولا يجد احدا يخفف من وحشته غير حبة اسبرين. وربما كانت نيويورك اكثر عواصم هذا الكوكب تعرضا للهجاء من شعراء مثل ليوبولد سنغور وغريغوري كورسو وألن غنزبيرغ اضافة الى لوركا وأدونيس، اما هنري باربوس صاحب رواية الجحيم الشهيرة فقد عبّر عن هجائه ببصقة كما قال.
وحكاية المعمار في عصرنا شبه مهجورة، رغم ان للحجر خطابه ايضا، وهناك اركيولوجيون اسيويون ربطوا بين شكل المعمار وحتى الاثاث السائد في البيوت وبين المزاج السياسي، وكان ازوالد شبنجلر في كتابه ‘تدهور الحضارة الغربية’ الذي اصدره في نهايات الحرب العالمية الاولى قد جعل من شكل المعمار مدخلا لقراءة الأزمنة، وأبرز مثال قدمه هو المعمار الاسلامي من خلال الاقواس والدوائر والتكهّف، فلهذا المعمار الدائري علاقة بالزمن الذي ينمو دائريا وحول نفسه في بعض الثقافات، وحين بحثت عن مقاربات عربية معاصرة في هذا السياق استوقفني اثنان أحدهما أكاديمي هو د. طريف الخالدي في كتابه عن تشكل المدينة في الاسلام، والآخر مهندس معماري له باع في الفلسفة والانسانيات هو د. رفعة الجادرجي، الذي أصدر قبل عقود كتابا شائقا بعنوان الحياة السياسية في بيت والده كامل الجادرجي . الأقرب في هذا السياق هو ما كتبه الجادرجي بسبب ربطه للعمارة بالثقافة والسايكولوجيا المجتمعية اضافة الى مفهوم الحاجة او الضرورة، فالعمارة كتعريف برأي د. الجادرجي هي المُصّنع الذي يؤمن مأوى او مُعلّقا بنائيا او سياجا يسد حاجة فرد او مجموعة. ثم يستطرد في تحليل الخطاب المعماري بدءا من النهضة حتى ما بعد الحداثة. ومنذ نشر د. الجادرجي دراسته هذه في مجلة أبواب عام 1998 تفاقمت العشوائيات في المدن العربية وأفرزت ثقافتها ايضا لتمتد على نحو وبائي وتسرطن عافية المعمار في العالم العربي، الذي جعلته الصحراء زاهدا في العمارة لقرون، ثم تولت الحواضر بدءا من الامويين ما يشبه تسديد المديونيات، فأفرطت في تشييد القصور، وان كانت الثقافة ذاتها تسللت الى العمارة الحضرية خصوصا في حقبة العثمنة التي جعلت من الحرملك وثقافته الجنسوية معادلا موضوعيا لعادات واعراف .
* * * * * * *
الفارق جوهري بين مفهوم البيت ومفهوم مكان الاقامة، فالأول به ديمومة والآخر مؤقت، بل هو أشبه بحافلة كما يقول معماري فرنسي، وأذكر انني قضيت امسية حميمة لكنها مشبعة بالرطوبة جنوب فرنسا بصحبة الصديق الشاعر نوري الجراح، في بيت بناه صاحبه وهو مهندس معماري وفق متطلبات البيئة على سفح جبل بالقرب من مونبلييه، وحين شاهدت في اليوم التالي اساتذة متقاعدين في الفلسفة وسيدات متفرغات لحماية البيئة أدركت ان هذه الحرب الجديدة هي حرب كونية لكنها هذه المرة ضد التلوث والعشوائية كأسلوب في الحياة .تذكرت في ذلك البيت المعافى قصورا وبنايات شاهقة في عواصمنا العربية منها ما تحتل النوافذ جدرانه رغم سطوع الشمس ثلاثة ارباع السنّة، وانتهيت بعد عدة مقارنات الى اننا نشيّد خياما لكن بالحجر والقرميد، فالثقافة القديمة عبرت العصور ومارست نفوذها من خلال الوعي واللاوعي على السواء، لكن هناك استثناءات معمارية راعى من شيّدوها البيئة واستجابوا لشروطها ومنها مساقط الضوء كما في معمار المدرسة المستنصرية ببغداد وبعض بيوت النجف ذات الأقبية .
اشعر احيانا ان مفهوم المشرد او homeless يتخطى معناه الواقعي الدقيق، فثمة من يعيشون في منازل ذات تكلفة باهظة من حيث المعمار لكنهم مشردون داخلها، فالانسان له بيت آخر داخل البيت، هو ناتج علاقاته وألفته مع المكان بحيث يغدو المكان زمانا .
* * * * * * * * * *
ثمة هاجس مزمن في ثقافتنا العمرانية بدأ قبل الوقفة التأملية الرائدة لابن خلدون عندما كتب شاعر عربي قديم يقول : اليوم يبنى لذويد بيته، وما يعنيه بالبيت هو القبر، لأن الاقامة في الدنيا عابرة، اما المكوث الأزلي فهو في آخر البيوت وأكثرها وحشة وتقشفا .
تماما كما هو الحال مع السلاحف فهي الكائنات التي حذفت المسافة بين المهد واللحد، وبين البيت والقبر، لأنها تحمل بيتها على ظهرها أينما ذهبت، وفي النهاية تموت داخله، وذلك بخلاف بيوت العناكب التي تتشكل من لعابها ومن ثم يتحول اللعاب الى مصائد، اما بيت الانسان فهو على النقيض من هذه الوظائف، وان كان قد بدأ بدافع الضرورة للحماية من المناخ والعوامل الخارجية واتقاء للعدوان فقد انتهى الى فانتازيا، هدفها الادهاش لا الراحة، لهذا يندر ان نجد بين المقاعد الوثيرة والعديدة في صالوناتنا مقعدا صحيا صمم بمعايير تناسب اجسادنا وقاماتنا وايقاعاتنا النفسية .
والبعد الانثروبولوجي للعمارة الذي توقف عنده رفعة الجادرجي بشكل معمق يستوقفنا احيانا ازاء عمارة ما حتى لو لم ندرك بأنه انثروبولوجي، واذا صحّ لي ان استشهد بتأملات شخصية، فلتكن حبال الغسيل التي يتأرجح عليها الغسيل على اسطح فيلات تشبه القصور في بعض عواصمنا، فهو يفتضح عدة ثقافات تتعايش او تتصارع داخل المنزل، حيث يتجاور القرن التاسع عشر مع القرن الحادي والعشرين تماما كما يتجاور احدث الاجهزة التكنولوجية داخل المنزل مع خروف العيد، وقد شاهدت بيوتا تنوء مدافىء الحائط فيها بالموسوعات التي تنتهي مهمتها عند اجتذاب الغبار واحيانا بيانوهات يرشح من خشبها الثمين الصّمت لفرط الهجران .
واذا كان هناك من الحفريين في مجال المعرفة من تحدثوا عن الزيّ بوصفه خطابا ناطقا فمن باب اولى ان نتحدث عن العمارة بوصفها خطابا ثرثارا، فهي تجليات وليست مجرد انعكاس فقط لمزاج ثقافي وحساسية جمالية، وما تعجّ به الاحياء التي توصف بالراقية في ضواحي عواصمنا عن تلفيق وكولاج وعشوائية معمارية يفتضح امرين معا، اولهما له جذور اجتماعية واقتصادية يمكن وصفه بالتسلّل الطبقي، والثاني سايكولوجي يفتضح مكبوت اللجوء المزمن، لأن المنازل التي تشيّد بمعزل عن بيئاتها وأمزجة ساكنيها وثقافتهم هي منازل شريدة تبحث عن بيوت وبمعنى أدقّ هي بيوت عناكب !
( القدس العربي )