محاذير الترجمة بين الإمكان والاستحالة




*الحسن الياسميني

يرى «فريدريك نيتشه» أن الترجمة مغامرة محفوفة بكل أنواع المخاطر، لأنها بمثابة فتح تاريخي ليس نحو المستقبل، فحسب بل في اتجاهين [غايته المستقبل] لكن وجهته الأولى هي الماضي، فأنت لاتجد مترجما يترجم نصا معدوم الوجود في الحاضر، أو في الماضي، بل بالضرورة نصاً موجوداً في حكم الماضي، ليصبح في حكم الحاضر والمستقبل بفعل الترجمة، والترجمة لاتتوخى فقط امتلاك النصوص، بل امتلاك الحقبة التي أنتجت تلك النصوص أو التي أنتجب فيها، ألا ترى أن الرومان نفضوا الغبار عن كل التراث الإغريقي من أجل امتلاكه، لكن هذا النفض ليس عملية سهلة، لأن الأمر لايتعلق بغبار يجب التخلص منه، بل بغبار من نوع خاص، إنه الغبار الجميل الذي يكسو جناحي الفراشة، ويعطيها أبهى رونقها وجمالها، فماذا يتبقى لهذه الفراشة من جمال إذا ما نحن نفضنا عنها ذلك الغبار الجميل؟

تبدو الترجمة اذن بهذا المفهوم عملية مستحيلة وربما مدمرة.
كيف تمثل الرومان التراث اليوناني، بعد أن نفضوا عنه غباره؟
كيف نفض المسلمون الغبار عن التراث اليوناني، وكيف تملكوه بعد أن جال بين الألسن ورقد تحت غبارها من يونانيه وسريانيه ثم إلى عربية، وربما مروراً بلغات أخرى؟.
إننا عندما نقوم بعملية الترجمة يقول – نيتشه – «فإننا نركب مغامرة لا تتغيا فقط تحييد العامل التاريخي أو تتوهم إضافة الحاضر، بل إننا نقوم أولا وقبل كل شيء بإلغاء اسم صاحب النص، لنضع مكانه اسمنا، وذلك دون أدنى إحساس بأننا نقترف جرم السرقة، ولكننا نقوم بذلك ونحن مرتاحو الضمير» (1) 
الترجمة تحفظ الأغراض، وتؤدي المعاني، وتخلص للحقائق، يقول متى ابن يونس(2) لكن كيف لهذه الترجمة أن «تصدق ولا تكذب، أن تقوّم ولا تحرّف أن توزن ولا تجزفْ، وألا تلتاث ولا تخاف ولاتنقص ولا تزيد، ولا تقدم ولا تؤخر، ولا تخل بمعنى الخاص والعام، ولا بأخص الخاص، ولا بأعم العام.؟
كيف تقوم الترجمة بكل هذا وتقتدر عليه، إذ أن هذا ليس في طبائع اللغات، ولا في مقادير المعاني، فاللغات لاتطابق بعضها البعض في جميع جهاتها؛ بحدود صفاتها في أسمائها، وأفعالها، وحروفها وتأليفها، وتقديمها وتأخيرها واستعاراتها وتحقيقها ونظمها ونثرها وغير ذلك مما يطول ذكره.
فالاسم والفعل والحرف فقير» (3 ) يقول أبوسعيد السيرافي ولذلك فإن معرفه اللغة وحدها غير كافية فالمعاني الموضوعة في اللغة الأصل، غير كافية، والفعل والاسم والحرف ليس كاف للكشف عن هذه المعاني.
أما الترجمة فإنها وإن كانت تقوم بما تقوم به، فإن عيبها أن تنهك المعاني بالنقل من لغة الى لغة.
وغالبا ما اتهمت بجل أو بالكثير من التهم التي وردت آنفا، وكثيراً ما اتهمت بالخيانة، والكثيرون امتدحوا هذه الخيانة، في الوقت الذي ذمها البعض الآخر، وذلك موضوع يطول الكلام فيه.
يرى والتر بانجمان walter Benjmin «إن اللغات ليست غريبة عن بعضها البعض. ذلك أنه رغم التجريد الذي طبع علاقاتها على امتداد تاريخها الطويل، فإن هذه اللغات تشترك في نوع من القرابة، وفي علاقة حميمية لايمكن لأية ترجمة أن تكشف عنها بشكل كامل، وهذا ما توضحه ترجمية النصوص، ففي هذه العلاقة يتخفى «الحقيقي» أو اللغة الأصل (الظاهر)، ولذلك فإن ليس من السهل خلق هذا الحقيقي وإبداعه، ولكن من الممكن فقط تشكيل بذرته.
فالترجمة كائنة ما كانت، عليها أن تشهد على الطريقة الأكثر دقة ممكنة لتبيان تلك القرابة الموجودة بين اللغات.
فليس من غاية الترجمة إذن ادعاء الموضوعية، فهي لاتعكس الأصل أو تخلق ما يشبهه، أو تعيد إنتاجه، إنها عملية تحويل لعبارة أخرى، إنها مولود، وكائن جديد، أو تحويل الترجمة تحويل للأصل نفسه الذي يستكمل نموه ورشده بواسطة الترجمة
والمعاني تستبدل كلماتها من جيل الى جيل، والذاتية subjectivité هي الأخرى تتغير، ولذلك فإننا عندما نترجم عملا ما، فإن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار مسار تحوله التاريخي الخصب».
الترجمة لاتعني إذن دخول لغتين متباينتين في علاقة، بل ان الأمر يتعدى ذلك ليمنح للكلمات التي كتبها المؤلف فرصة إكمال الولادة، وكأن هذه الولادة لم تكتمل في النص الأصل، وهذه الترجمة إذن ليست استقبال أو تمثل النص، أو إعادة إنتاجه، بل هي مساهمة في استمرار حياته التي بدأت في مكان آخر وفي زمان آخر.
ماهي مهمة المترجم إذن؟
إنها ليست بالضرورة عملية لتكييف مضمون العمل المترجم مع القراء الجدد الذين لايعرفون لغته الأصل، ذلك أن النص الأصلي نفسه لايتوجه إلى القراء، إنه فقط يتخلص من دين عليه – يقول نيتشه-، ولذلك فإن إعادة بعث العمل المترجم كافية
والترجمة تحديدا هي النقل من لغة الى أخرى، وفي لسان العرب: ترجم التُّرجمان والتَّرجمان: أي فسر اللسان، وفي حديث هرقل: قال لترجمانه، الترجمان بالضم والفتح هو الذي يترجم الكلام، أي ينقله من لغة إلى أخرى، غير أن هذا النقل أو هذا التحويل يثير إشكالات عديدة.
أولاها إشكالات لغوية تتعلق بفعلي النقل والتحويل نفسيهما، فمعلوم أن لا النقل ولا التحويل في جزء كبير من مدلولهما التداولي يعنيان تغيير مكان الشيء، أي بما يقابله في اللغة الفرنسية بفعل transporter، فبخصوص المجاز استعمل «بول ريكور» لفظ transport حيث اعتبر نقلا عن كتاب الشعر لارسطو أن المجاز هو أن ننقل (transport) لشيء اسما يدل على شيء آخر:
est le transport a une chose d›un non qui›en disigne une autre
وهذا النقل إما يكون من النوع الى الجنس أو من الجنس الى النوع، أو من الجنس الى الجنس، أو طبقا لعلاقة التقابل.
فهل يعني النقل الذي نحن نحدده، أي الفعل الترجمي، تحويلا لمنقول من مكان إلى آخر؟
هذا الإشكال المطروح يضعنا هو الآخر أمام إشكالات أخرى متولدة عنه، قد تجعل أسئلته تتشعب أكثر فأكثر بحيث يصير الظفر بالجواب عنها مطلوبا صعب المنال.
يقال عادة إن التلميذ ينقل الدرس من السبورة إلى دفتره، أو من دفتر زميله، أو من الكتاب إلى دفتر خاص به. فهل يعني هذا أن هذا النقل يتضمن صفة تغيير مكان المنقول؟
الواقع أن هذا النقل يحمل أول ما يحمل فعل التكثير، فالنص الذي كان واحدا، أصبح بفعل النقل نصين أو أكثر من نص، ومن هنا يمكننا أن نستنتج أن كل عمل للنقل بهذا المفهوم يتضمن خاصية التكثير والإثراء، لأن الأصل بقي في مكانه، في نفس الوقت الذي أصبح يحتل حيزا في مكان أو أمكنة أخرى تتيح له مزيدا من التواجد، أو إمكانات أخرى للتكاثر.
هذا الحكم على النقل لاينصب فقط على النقل من لغة إلى أخرى، بل ينسحب أيضا على النقل الذي تحدث عنه بول ريكور في «المجاز» داخل اللغة الواحدة، فنحن عندما نعطي لاسم واحد أكثر من دلالة أو ننقله من دلالة على شيء إلى دلالة عن شيء آخر، فإننا نقوم بعملية تكثير ناتجة عن فعل النقل.
والترجمة هي أيضا نقل وتحويل بمعنى آخر، أي تحويل لمعنى متضمن في منقول من لغة الأصل، أو مجال تداوله الأصل إلى لغة أو مجال تداولي آخر غريب عنه.
فهل يتيح هذا النقل وهذا التحويل إمكانيات لتكاثر المعنى أو المعاني التي يتضمنها النص الأصلي؟
هذا السؤال تترتب عنه أسئلة أخرى ومحاذير وشروط يتطلبها الفعل الترجمي.
وما دمنا نتحدث عن الأصل، فإن أولى الشروط هي، فهم الناقل فهما جيدا للمعاني التي تضمنها هذا الأصل، وهذا الفهم يستلزم معرفة جيدة باللغة التي جاء فيها هذا النص، ودراية بدربتها، كما يستلزم دراية ومعرفة أعلى من هذه الدرجة بالنسبة للغة التي سينقل إليها.
وهذا يعني أن هناك أصلا يجب «نقله»، لكن هذا النقل وهذا التحويل ليس على طريق واحد ، ولا يؤدي إلى غاية واحدة، فاختلاف هذه الغايات يفترض لزوما تعددا للطرق الموصلة إليها.
فهناك النقل الحرفي التحصيلي، والنقل التوصلي والنقل التأصيلي ، ولكل من هذه النقول ميزاتها ومراميها.
فالنقل التحصيلي الحرفي يُوازي الترجمة التحصيلية، ومن خاصيتها أو من عيوبها أنها تقع في التعارض الكلي بين الفلسفة والترجمة، وتتولى نقل كل ما في النصوص الأصلية من غير تميز، ولا تقويم، وتعمل جاهدة على محاكاة الصور التعبيرية لهذه النصوص، ألفاظا وتراكيب، فيكون مآلها تطويل العبارة بما يرهن الفكر ويزهق الوقت.
والنقل التوصيلي هو الترجمة التوصلية، وهي التي تبقى على تعارض جزئي بين الفلسفة والترجمة ـ قد تشتد قوته، وقد تضعف، ذلك بحسب درجة التمسك بالصفات التقليدية للفلسفة، كما أنها تنقل كل ما لا يبدو فيه إخلال بالقواعد المقررة للغة وبالأركان الأساسية للعقيدة، وتبذل غاية الجهد في نقل كل ما يحتمل الانتساب إلى حقل المعرفة من غير كبير تفريق، ولا دقيق تقدير، مستغرقة في محاكاة المضامين الفكرية، مفاهيم وأحكاما مآلها تهويل المعرفة بما يتعثر معه إدراك المقاصد الفلسفية ويوهم بالضنانة بالعلم.
وهناك ثالثا النقل التأصيلي أو الترجمة التأصيلية، وهذه ترفع التعارض بين الفلسفة والترجمة وتجتهد في نقل ما تثبت لديها موافقته لضوابط المجال التداولي المنقول إليه: اللغوية والعقدية والمعرفية، متوسلة في ذلك بأنجع أدوات التمييز والتقويم، كما أنها تحرص على أن لا يفوتها شيء مما ينفع في تقوية التفلسف عند المتلقي، ولو كان يوجب تغطية الصفات الأصلية للمنقول، بل محوها بالمرة، لأن العبرة هنا ليست بالحكاية عن الغير، وإنما بتمكين الذات من الممارسة الفكرية (5) وهذه النقول يكون الواحد منها مفيدا حيث لا يكون الآخر، ولا يكون مفيدا حيث يكون الآخر.
ومن دون شك أن هذا الاختلاف راجع بالأساس إلى المراد من الفعل الترجمي، هل هو مجرد تحصيل المعنى ونقله حرفيا، وترك الغايات الأخرى، منها التوصيل والتأصيل إلى المتلقي ليقوم بهذه المهام وهذه العمليات وليصل لتلك الغايات، أم هو نقل يراد منه هاتين الغايتين حال القيام بفعل النقل؟
أم أن الناقل يقوم بفهم معنى النص ويدخل في حوار معه، ويقوم بالتالي بما يترتب عن هذا الفهم من فعل فكري يكون فيه تجديد وإبداع بعد تملك المعاني التي تضمنها النص الأصلي، واستثمارها في بناءات جديدة تثري المجال التداولي الذي نقلت إليه هذه المعاني؟
هذا السؤال الأخير يطرح مسألة غاية في الأهمية وهي المتعلقة بالأصل، وبامكانات، الناقل ومدى وفائه أو خيانته، قصدا أو بدون قصد لهذا الأصل؟
هذا القول يستدعي ضرورة أن المؤلف الأصلي أودع أمانة ما أوصى بها الناقل بعد أن أطلعه عليها وأخذ عهدا منه بالمحافظة عليها، وهذه الأمانة هي «المعنى»، إن كان هناك فعلا معنى واحد يحمله ليس النص برمته، ولكن كل العبارات جاء بها هذا النص في لغته الأصلية.
فمعلوم أن هذا الافتراض صعب جدا بسبب طابع الاشتراك الذي تحمله عبارات لغة لغلة من لغات العالم، والذي هو سمة أساسية من سمات الكلام الطبيعي، وهي التي تجعله قابلا لتعدد المعاني، ولتعدد الفهم وبالتالي إلى التأويل والانفتاح الذي يكون كل تأويل وكل فهم محاولة لإغلاقه ووضع حد له.
ونحن نعرف أنه خارج اللغة الرمزية، فإن التأويل في اللغة الطبيعة لانهاية له حيث تبقى النصوص مفتوحة، وليس هناك نص كائنا ما كان، قد حسم في معانيه وأغلفت محاولة فهمه بما فيها النصوص العقدية..
والترجمة أولا، وقبل أن تكون نقلا أو تحويلا بأي مدلول من المدلولات سابقة الذكر، هي قراءة، والقراءة يتبعها ضرورة فهم، ثم تأويل، لذلك فإننا عندما نقرأ، فإننا نقوم أولا بعملية نقل للمعنى المحصل من القراءة إلى ذهننا، فتحصل إذن الترجمة ذهنيا قبل التعبير عنها خارجيا.
وهنا نكون أمام مستويين من الإشكالات، أولا إلى أي حد نكون قد حصلنا المراد من النص المكتوب (وليس النص الذي أراد صاحبه قوله وجال في خاطره؟).
ثم إلى أي حد نستطيع أن نعبر عن المعنى المحصل بعبارات اللغة الناقلة؟
وهنا تطرح مسألة الفهم وعدم الخيانة من زاويتين: زاوية الفهم المحصل، وزاوية التعبير عنه.
فالفهم المحصل قد يقتصر فقط على ماجاء في النص، أما ما جال في خاطر المؤلف نفسه ولم يستطع او لم تسعفه لغته الأصل في التعبير عنه، فذلك أمر يقتضي سبر أغوار ذلك النص ومعرفة بالمؤلف وأحواله للتوصل الى ذلك المعنى غير المعبر عنه لفهم المراد من النص.
وفي هذا المستوى يلتقي الفعل الترجمي بالفعل التأويلي، وليس فعل التقويل الذي يعترض عليه الاستاذ طه عبد الرحمان، على اعتبار أن هذا الضرب من الفهم أي «التقويل» هو أقل درجة من التأويل، لأن التقويل في رأيه تحويل يحرف فيه الكلام عن مرتبته الأصلية، او يأخذ «الفرعي» مكانة «الأصلي» و«العرض» مكانة «الجوهري»،(6)
بينما التأويل تحويل يقوم فيه الكلام بحسب الغرض التداولي منه، إذ يستبدل القريب مكان البعيد، والموصول مكان المفصول، والتأويل نفسه موضوع آخر يتعلق بمجال واسع هو مجال الهيرمينوطيقا، سواء في بعدها التيولوجي كما بدأت مع النصوص المقدسة انطلاقا من صدور العهد الجديد Le noveaux testament أو في بعدها الفكري والأدبي انطلاقا من اعمال المحدثين والمعاصرين مثل شلايرماخر shloermaker دريدا وبول ريكور وهايدغر وغيرهم.
ولهذا فالتأويل لايجب أن نفتح آفاقه لأنه لايمكن إحصاؤه ولا حصرها (7)
فهو إذن متأرجح بين التناهي وعدم التناهي، وكذلك الترجمة، لكن المهم عند طه عبد الرحمان هو أن تؤدي الترجمة إلى نتيجة أساسية وهي التأصيل، ولا تستطيع أن تبلغ ذلك إلا إذا جعلت من مبدإ الاقتدار على التفلسف معياراً تحتكم إليه في تقويم النقول الفلسفية.
المصادر:
1- F.NIETZSCH: Le Gaie savoir page 130 – 131
edit G.Flamarion 2000
2- انظر مناظرة .. متى ابن يونس وابو سعيد السرافي في كتاب الامتناع والمؤانسة لابي حيان التوحيدي .. من الصفحة 106 إلى 111 دار سعد للطباعة والنشر بيروت 2005
3- Walter Berjamin la tache du traducteur
4- Paul Riceur: le metaphore vive edit du seuil collection
point essaie page 19
5- طه عبد الرحمان فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة منشورات المركز الثقافي العربي الطبعة الثالثة 2008 ص 404 – 405
6- طه عبد الرحمان نفسه ص 402
7 – طه عبد الرحمان نفسه ص 381
_______________
* كاتب من المغرب 
(العلم الثقافي) 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *