*فاضل السلطاني
حاولت خلال الأيام الماضية قراءة ثلاث روايات عربية صادرة حديثا، ولم أفلح. كنت أصل إلى الصفحات المائة الأولى كنوع من الواجب، وحتى يكون المرء منصفا إلى حد ما بأحكامه، لكن سرعان ما يضيق الصدر وينفد الصبر أيضا. وأعتقد أن القراء سيعانون من المشكلة نفسها. الروايات الثلاث ذات مواضيع جيدة وجديدة أيضا. الأسلوب واللغة جيدان أيضا. وبكلمة أخرى، الشكل والمضمون جيدان، فأين يمكن الخلل؟ إنه يكمن في تقديري في البنية الروائية لهده الأعمال، في بناء الحدث ونموه حتى يصل إلى نتيجته المنطقية، وفي كيفية إدارة الحوار، كطريقة فنية لكشف الشخصية، وأخيرا في بناء الشخصية، وصراعاتها مع ذاتها، ومحيطها، ومع الآخرين. كل هذه العوامل الفنية قد تتحقق في الصفحات الأربعين أو الخمسين على أبعد تقدير، ثم يبدأ لهاث الكاتب. وتشعر بأن كل الصفحات اللاحقة ما هي سوى إعادة إنتاج لما قد قرأته سابقا. يظل الحدث يدور على نفسه بتنويعات مختلفة، وتبدو الشخصيات وكأنها توقفت عن النمو. وبدل اللغة الجميلة التي تقرأها في البداية، تترهل الكلمات وتشيخ من كثرة إرهاقها.
هذه الروايات الثلاث ليست استثناء بالطبع، كما أن هذا الأمر لا يتوقف على الفن الروائي فقط، وإن كان غالبا فيه، وإنما يشمل كثيرا من كتاباتنا الأدبية. وستبقى هذا المشكلة الكبيرة قائمة ما دامت معظم دور النشر عندنا، بسبب استسهالها لقيمة الكتاب، وبسبب جشعها، ترفض أن تعتمد ما يسمى في الغرب بـ«المحرر» الذي لا تخلو منه دار نشر غربية واحدة، ليس الآن فقط ولكن منذ القرن التاسع عشر. ويدعي بعض دور الناشر عندنا أن قسما من الكتاب، خاصة المشهورين، يرفضون فكرة المحرر أساسا لنرجسية فيهم واستعلاء. لكن هذه الحجة مرفوضة تماما، لأن الكتاب، بشكله النهائي، هو من مسؤولية من ينشره إذا كان يحترم مهنته. لا تجد في أي كتاب غربي، مهما كانت طبيعة هذا الكتاب، سواء أكان جيدا أدبيا أم لا، ما يمكن أن تعيبه عليه، خارج الحدود الجمالية والنقدية. والفضل في ذلك يعود، باعتراف كتاب من الطراز الأول من ماركيز إلى فيليب روث، إلى المحرر الأدبي.
في ندوة بالعاصمة البريطانية، بمناسبة صدور روايته «تشريح اختفاء»، ذكر الروائي الليبي هشام مطر الذي يكتب بالإنجليزية، أن حجم هذه الرواية كان في الأصل 900 صفحة، لكن محررة دار «بنغوين» العريقة اختزلتها إلى 300 صفحة. لم يشعر الكاتب، الذي رشحت روايته الأولى «في بلاد الرجال» إلى جائزة «بوكر» البريطانية ضمن القائمة القصيرة، وترجمت إلى أربع عشرة لغة، بالإهانة، كما يحصل عند كثير من كتابنا العرب، وإنما شكر المحررة على رميها 600 صفحة إلى سلة المهملات، منقذة بذلك الرواية من كل العلل التي ذكرناها في سياق هذه الكلمة. وهذا يحصل أيضا مع ترجمات الروايات العربية إلى الانجليزية أو أية لغة أجنبية أخرى. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك، اختزال خماسية « مدن الملح» لعبد الرحمن منيف في جزء واحد فقط في الترجمتين الإيطالية والانجليزية، فأصبحت وكأنها رواية مختلفة، مع الحفاظ على جوهرها بالطبع. وهذا ينطبق على روايات عربية كثيرة، إن لم نقل معظمها، حتى إنك تكاد تنكرها حين تقرأها في ترجماتها الانجليزية لاختلافها البين عن الأصل.
الكاتب العربي مسكين حقا، فبالإضافة إلى كده اليومي، وانتهاك حقوقه الأدبية، هذا إذا لم يدفع من جيبه لطبع مؤلفاته، فإنه محروم حتى من محرر يقرأ عمله بعينين ماهرتين تستطيعان أن تميزا الغث من السمين، وتريحا عين القارئ وقلبه.. وعقله أيضا.
______________
* شاعر من العراق يقيم في لندن.
عن الشرق الأوسط