حوار مع الشاعر الأردني أمجد ناصر


حاوره ” طارق العربي ورائد الوحش*

تشكّل مفردة “الرحلة” مفتاحاً لتجربة أمجد ناصر في الكتابة والحياة. الرحلة الأولى كانت في ترك الاسم القديم “يحيى النعيمي” والأخذ بتلابيب اسم جديد “أمجد ناصر”. في باكورته الأولى “مديح لمقهى آخر” بدأ شاعر تفعيلة، ثم أخذ بالانتقال إلى قصيدة النثر في مجموعاته التالية مثل “منذ جلعاد كان يصعد الجبل” و”رعاة العزلة” و”سر من رآك”… إلى أن خط مساراً جديداً داخل قصيدة النثر نفسها في كتابه “حياة كسرد متقطع”.
حتى عناوين كتبه كانت تستدعي الرحيل بقوة “مرتقى الأنفاس” و”وصول الغرباء”. بالإضافة إلى إنجازه المتواصل لكتب في أدب الرحلات، حيث أنجز حتى الآن: خبط الجنحة، تحت أكثر من سماء، رحلة في بلاد ماركيز.. الرحلة علامة هذا الشاعر البدوي، والكتابة، في تمثيله لها، ترحال متواصل وراء ذلك الماء السري، ماء الكتابة.
يشكّل أمجد ناصر بصمة خاصة في الكتابة الشعرية العربية الحديثة التي انهمك فيها منذ أزيد من ربع قرن، وتشكل قصيدته علامة مضيئة في سماء قصيدة نثرنا.
إلى جوار ذلك كتب أمجد ناصر رواية بعنوان “حيث لا تسقط الأمطار” وكتاب يوميات. بالإضافة إلى المقال الصحافي…

كيف تفكّر بذاتك، وكيف تنظر إلى تجربتك، الآن وأنت في السابعة والخمسين؟ ثم كيف تجرّأت في هذه السن الحذِرة، على وهب زوجتك إحدى كليتيك بروحٍ مغامِرةٍ لا تتأتى إلا لشابٍّ في العشرين؟
ـ ألاحظ أنه كلما تقدم بي العمر أكثر قلّ تفكيري بنفسي وزاد تفكيري بغيري. طبعا التفكير بالغير موجود طول الوقت لكنه ربما يتخذ محتوى احتدامياً أو معتكراً في أضعف الإيمان، وهذا تفكير سلبي كما تلاحظان. كذلك خفَّ تعلقي بما هو خارجي وراحت الأعماق تظهر من بعد غمامة الشباب التي ربما لا تساعد على الرؤية جيداً، أو لا تجعلك ترى أبعد منها ومن استحقاقات لحظتك. هذا أمر قريب مما كنت أكرهه من قبل في الفكر والسلوك، أي الحكمة والتعقل اللذين كنت أظن أنهما حكر على العجائز وقليلي الحيلة.. يبدو أني وصلت إلى تلك الضفاف التي لم أكن أتخيل أبداً أنني سأصلها يوماً.. ولكن من الواضح، وبعيداً عن أي حكمة، أن كل من يبقى حياً سيصل إليها رغماً عنه. أما موضوع تبرعي لزوجتي بإحدى كليتي فهو خاص وآمل أن نتجاوزه في حوارنا هذا.
أخذت البدوي الذي فيك إلى ترحالات أكبر من البادية الأولى، وعبرت به إلى ما وراء البحار. كيف هي العلاقة بين ذاكرتك المتوارثة من أسلافك البدو في ترحالهم تحت الشموس، وبين ترحالك المعقّد بين اللغات والمدن.. والأفكار؟ هل تغيّر البدوي العنيد بعد هذه الهجرات والأسفار، نسأل وفي البال قصيدة “منفى” من ديوان “رعاة العزلة” التي تقول فيها: “نحن لم نتغيّر كثيراً، وربما لم نتغيّر أبداً”؟
ـ طبعا نحن نتغير. وهذا يؤكد أن الشعراء يمكن أن يكونوا متنبئين مثيرين للشفقة. لكن التغير، من جهة ثانية، ليس انقلاباً تاماً على ما كنته، إنه محو من ناحية وإضافة من ناحية أخرى، فثمة ما ينزاح ويختفي من ذاكرتك وسلوكك وثمة ما ينضاف ولكن ثمة ما يعاند ويبقى من دون أن تعرف سبباً عميقاً لذلك. لا أحد يعرف كيف تشغل هذه الآلة المعقدة التي تسمى الذاكرة، لكن بالإجمال أستطيع أن أقول إن شيئاً من تلك القصيدة صحيح، وهو يتعلق بتلك الأمور التي تقاوم عمليات المحو. العلوم الحيوية أكدت أن المرء يحمل جينات فيها صفات وراثية لا يمكن تفاديها ليس فقط على المستوى الفيزيائي، وإنما على مستوى السلوك وردود الافعال. التربية والمحيط الاجتماعي والثقافة المكتسبة تلعب أدواراً في توجيه السلوك ولكنها لا تتحكم فيه وحدها على ما يبدو، فنجد أن بعض ردود أفعالنا ومسلكياتنا تشبه ما كان يفعله أسلافنا على نحو أو آخر. لذلك لا أظن أن البدوي الذي ورثته من أسلافي اضمحل تماماً في الترحال والبعد عن المنشأ، فكم من مرة ألقيت القبض فيها على نفسي بسلوك أو تصرف، أو حتى تفكير تلقائي، يشبه والدي أو جدي أو ربما يشبه أسلافا لم أعرفهم شخصياً.
أفكر أنني لم أختر الترحال ولكنه فرض علي في فترة معينة من حياتي، ولأسباب لها علاقة باختياراتي السياسية، ولكن هل هذا صحيح تماماً؟ ألا يوجد احتمال أنني استدرجت الترحال بتلك الخيارات؟ لا أجزم بشيء ولكني مثلكما أتساءل.

ما كتبته كان عن الجانب الشعري في البداوة، لكن ما نوع الصراع الذي خضته مع حمولة النسب والتربية وما فيهما من صرامة وتقاليد؟
ـ أظن أنني واجهت باكراً هذه الحمولة بمواجهتي والدي وخروجي على إرادته المستمدة، بدورها، من الجو القرابي المباشر والنسيج الاجتماعي المحيط، بمواجهتي لإرادة والدي حدثت مواجهتي مع الإرث، وتصاعدت المواجهة مع ذلك الإرث الذي كان يستوجب نمطاً معيناً من السلوك والولاءات، خصوصاً الأخيرة، حتى صار الانشقاق عن “الصف” تاماً في فترة مبكرة من حياتي. حدث ذلك من دون تفكير مسبق مني، ثمة ميل غريزي فيَّ للتمرد، ولعله ميل بدوي أصلاً، وضعني هذا الميل على طريق غير طريق الأهل تكفّلت هذه الطريق، وحدها، بدفعي في مسار بدا أن لا رادَّ له ولا رجعة عنه. كأنها تلك الطريق التي لا تردُّ سالكها على حد تعبير مماثل لوالدتي البدوية حتى الصميم، بل الأكثر بداوة بيننا لأنها الوحيدة، في عائلتي المباشرة، التي لم تتعرض، مثلنا، للتأثيرات “الخارجية”، و”ثقافة” المحيط المديني الذي وجدت نفسها فيه بعد زواجها وانتقالها للعيش في المدينة. أظن أن هذا هو صراعي الأول مع الإرث، وقد حدث هكذا، لمجرد أني اخترت، من دون وعي بمصائر هذا الاختيار، طريقاً أخرى غير طريق العائلة التي كانت تؤدي، يومذاك، حتما الى الجيش.

تقول في “رحلة في بلاد ماركيز” كتابك الصادر مؤخراً، وهو من أدب الرحلات، أو أدب الأمكنة كما يحلو لك تجنيسه: “إنها شعرية الواقع والطبيعة لا شعرية الكلمات، وكان لها أربابها ومتلقوها وسادرون في أنحائها ومنغمرون فيها. ليست الكلمات أرض الشعر الوحيدة. هناك أرض أخرى، بل قل أولى، للشعر. ولعل الكلمات لا تفعل شيئاً سوى محاكاتها”.. هل تكتب هذا النوع لأنك تبحث عن أرض الشعر؟
ـ لعلني تحدثت من قبل عن ميلي إلى النثر، ليس قصيدة النثر، ولكن الى النثر بمعناه العريض، وقلت إن طريقي الى الشعر، الآن، تمر بأرض النثر. وهذا هو واقع الحال في الفترة الأخيرة على الأقل. قد أجد نفسي عائداً، في فترة لاحقة، إلى كتابة قصائد حرة على نحو ما فعلت في أعمالي الشعرية الأولى، أو حتى قصيدة شذرية أو تشبه الهايكو على نحو ما فعلت في عمل شعري لي هو “كلما رأى علامة”.. ولكن مزاجي الآن ليس كذلك. إنه مزاج نثري حتى في بحثه عن القصيدة، وليس في بحثه عن الشعري الذي يتحقق، كما تعلمان، في النثر في أشكال مختلفة عن القصيدة. هذا الكتاب ليس بحثاً عن الشعر، إنه نوع أدبي مختلف عن القصيدة قد يتوافر على شعريٍّ ما، ولكنه ليس شعراً.. التسميات مختلفة لأعمال كهذا العمل، فهناك من يسميه أدب رحلة، وهناك من يسميه أدب أمكنة، وهناك تسمية له بالانكليزية أكثر عمومية non-fiction.
وهذه التسمية العمومية تعني ما هو غير روائي. وهي التسمية الأفضل في نظري ولكنها لا تفهم عربياً بالمعنى نفسه. المهم أن كتابتي لأعمال كهذه نابعة من ميل قوي لدي للنثر، للجملة الطويلة الملتفة، للمعاينة المباشرة للواقع، لمعرفة “آخر” أيضا ليس بالضرورة أجنبياً.. هذا “الآخر” قد يكون وجهاً من وجوه الذات المتعددة.. فإذا اعتبرنا أن هناك ذاتاً عربية (أنا لا أعتبر ذلك تماماً) فنحن نعرف بعضها ولا نعرفها كلها، فماذا نعرف، مثلاً، عن المغربي والعماني والسوداني والجزائري والموريتاني؟ نعرف القليل. نعرف أكثر عن “مراكز” هذه الذات، أو ما اصطلح على تسميتها كذلك، مثل مصر، لبنان، سورية، وربما العراق.

كتابة مثل كتابي هذا، وكتب أخرى لي غيره مثل “تحت أكثر من سماء”، “خبط الأجنحة”، “الخروج من ليوا”.. هي محاولات لمعرفة “آخر” ما ومعرفة ذات أيضاً، لأننا بمعرفتنا للآخر (النسبي أو المطلق) نعرف ذاتنا.
أعمالك الأولى كانت مشوبة بالرفض، وكان فيها قصائد عن رفاق الشعر والنضال، بعضهم انقلب على حلم القصيدة.. كيف تنظر إلى الشخص الذي أهديته قصيدة وخان جوهرها (قصيدة: أيها الأقليم اعلن العصيان)..؟
ـ أزعم دائما أن أعمالي الشعرية تمضي في مسار مختلف عن علاقتي المباشرة بالشأن العام، ولكن سؤالكما هذا يؤكد لي أن ذلك لم يكن صحيحاً مئة بالمئة. لم تخض قصيدتي بالشأن العام مباشرة ولكنها قطعاً تأثرت به، أو تسللت إليها شظايا منه بطريقة أو أخرى، لا تُكتب القصيدة، في كل حال، في عزلة مطلقة عما يحيطها. هذا لم يحدث ولن يحدث، ففي نهاية المطاف هي منتج خاضع لما هو تاريخي، ليست منتجاً تاريخياً، ولكنها قطعاً خاضعة للتاريخي. من هنا يمكن لنا أن نتلمس انشغالات زمن ما في قصيدة ما، بل ويمكن تلمس لغة تلك الفترة وما كان يطبعها من تفكير وسلوك.

تكتب نثراً فيه صلات حلمية مدمجة بوقائع يومية، قرأنا بعضه في “أخبار الأدب” وذكرنا ببعض نصوص “حياة كسرد متقطع”. لكنك في هذه النصوص تذهب إلى النثر القصصي.. ماذا عن هذه التجربة؟
ـ لعلني كتبت نثراً أكثر بكثير مما كتبت شعراً. طبعا الإبداع لا يقاس بالكم، ولكن هذا الكم يعكس انشغالاً وانهماكاً ما لكاتبه، وعلى عكس محمود درويش الذي أبدى ندماً على أنه لم يعط لنثره هوية واضحة فقد فعلت. نثري ليس فائضاً كتابياً كما هو عند درويش وهو يعترف بهذا في حديثه الطويل مع عبده وازن الذي صدر لاحقاً في كتاب عن دار الريس. لنثري هوية. هناك نثر وظيفي تماما كما هو في المقالات، ونثر في أدب يسمى الرحلة أو الأمكنة أو غير الروائي (حسب التعبير الانكليزي السابق) وهناك نثر روائي كما تبدى في روايتي “حيث لا تسقط الأمطار”. ما تشيران اليه من كتابة نثرية حلمية بدأ فعلاً في كتابي “حياة كسرد متقطع”، ولكنه ذهب في أعمال لاحقة الى الرواية الكاملة، أو في “فرصة ثانية” الذي لم أضع عليه تصنيفاً معيناً فظل حائراً عند تلقيه، فهناك من رآه رواية، وهناك من رآه استمراراً لحياة كسرد متقطع.. وأنا أميل الى الرأي الثاني.. على الأقل هذا ما كان في ذهني عندما بدأت تتضح لي خارطته أثناء الكتابة.

هناك اشتغال دائم على الترقية والتعزيم، حالة صوفية تتجاور فيها مفردات السحر والعرفان، خصوصاً في “كلما رأى علامة”.. هل هي استعارات شعرية أم إيمان بعلاقة مع الكون؟
ـ أظن أنها تتجاوز الموضوع الشعري الى نوع من علاقة سحرية، بل خرافية أحياناً بالكون، وهذا متناقض مع ما تبقى فيَّ من ماركسية السبعينيات. كيف تكون لك نظرة مادية من ناحية، ونظرة مشوبة بالسحري والخرافي أو التعزيمي من ناحية ثانية؟ هذا ما لا أستطيع تفسيره، غير أني أعيشه. يصعب التخلص من الحمولات القديمة، الدينية أو الطقوسية. لا أزعم أني عشت حياة مليئة بالطقسي والخرافي والسحري، هذا لم يحدث تماماً، وإن كان هناك دائما ما هو غير قابل للتفسير في عقائد الأهل والمحيط وطقوسهم. مع أن عائلتي المباشرة لا تميل الى الطقسي عموماً، وتحاول أن تكون على “صحيح” الدين، إلا أني شاهدت أمي مراراً تستخدم ما يسمى شعير المولد النبوي للتبخير في حالة مرض أخ أو أخت، هذا عدا عما كان لدى البدو من اعتقاد شفائي بالأعشاب، وهو اعتقاد صحيح في معظمه، فضلاً عن الحُجب وما شابه ذلك من رقى. كان هذا موجوداً في المحيط الواسع ولم يكن ينظر إليه باعتباره خرافياً أو سحرياً كان، في الواقع، سلوكاً عادياً ومقبولاً.

أردتَ لروايتك “حيث لا تسقط الأمطار” أن تكون رواية سيرية، نصوصك الشعرية والنثرية، كتابتك في أدب الرحلات.. كلها لا تخلو من جوانب من السيرة لا تنفك تتسلل. هل الكتابة سيرية؟ أم أنك ترددت حيال كتابة السيرة فرحتَ تناوشها هكذا طوال الوقت؟
ـ كلا، لم أرد، في الواقع، لروايتي أن تكون سيرية، هذا اعتقاد خاطئ تماماً، كما أنها ليست سيرية بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. رواية السيرة الذاتية، أو السيرة الذاتية الروائية، هي التي تقوم، حسب فهمي، على معطيات سيرية يجري تطعيمها بما هو تخييلي لصنع نوع من المباعدة بينها وبين حياة كاتبها، وهذا ليس ما تفعله الرواية عموماً، حتى وإن كانت تستمد بعض مادتها من حياة المؤلف، لأننا هنا بصدد عمل أدبي وليس وثيقة. ثم إني فعلاً لا أفهم هذا التعبير: سيرة روائية أو رواية سيرية. فهو يجمع بين شكلين أدبيين معاً، الرواية بوصفها عملا تخييلياً، والسيرة الذاتية بوصفها قصة حياة مكتوبة بقلم من عاشها، وتتحرى الحقيقة الواقعية أو تقاس بها على أقل تقدير. أن تكون حياة المرء ذاته موضوع معاينة روائية، أي التعامل مع الذات بوصفها “آخر” إن جاز التعبير، فهذا ليس جديداً. إنه ما قام به مرسيل بروست، مثلاً، في “البحث عن الزمن الضائع”.. وهي رواية، حسب تعبير كونديرا على ما أظن، تقوم على تفاصيل كل واحد منها حقيقي في حياة بروست ولكنها مع ذلك لا توضع، أبداً، على رف السيرة الذاتية بل الرواية، والرواية الطليعية أيضا.
وفي ما يخص روايتي “حيث لا تسقط الأمطار” هناك استفادة من هيكل سيريّ يلم بين جوانبه بشظايا من سيرتي الشخصية وأخرى من جيل ومرحلة، ولكن في إطار سردي لا يرمي، البتة، الى أن يحكي قصة حياتي الشخصية، فلا الشخصية الرئيسة هي أنا، ولا أصدقاؤها الأوفياء أو الخونة هم أصدقائي ولا عائلته عائلتي، إذن أين هي سيرتي؟ المهم في النهاية هو كيف يقرأ هذا العمل بل كيف يتلقاه من لا يعرفني شخصيا، وهذا له علاقة بالتعاقد غير المكتوب بين الكاتب والمتلقي انطلاقا من صفحة الغلاف الأولى. المهم فعلاً هو مقاصد العمل وما الذي انتهى إليه.

أعمالك المنجزة صدرت مرتين. مختارات بالعربية وبلغات أخرى صدرت عنك. احتفى بك “كتاب في جريدة”. إلى أي حد تشعر بأنك مقروء..؟
ـ لا أعرف كم أنا مقروء، ولا أظن أن كاتباً عربياً يعرف كم هو مقروء، إذ ليست هناك معايير يمكن الركون إليها في هذا الشأن. ولكن إن كانت مبيعات الكتب تعتبر مقياساً فلا أنا ولا غيري نعتبر مقروئين، أو هذا على الأقل ما يقوله لنا الناشرون. لاحظت، وأرجو أن أكون مخطئاً، أن الاجيال الجديدة لا تقرأ السابقين عليهم، ربما يعرفون أسماء الشعراء السابقين ولكنهم لا يعرفون نتاجهم، فهم يكتفون، على ما يبدو، بقراءة ما يكتب أبناء جيلهم. شهرة أسماء شعرية معينة لا تعني أن هذه الأسماء مقروءة، فمعظم الشعراء الشبان يعرفون على الأغلب اسم السياب ولكني أشك أنهم قرأوه يوماً، اللهم إلا ما هو مقرر من شعره في المنهاج التعليمي. لم يكن السياب من الجيل السابق على جيلي عندما بدأت الكتابة، فقد كان هناك أكثر من جيل يفصل بيننا، ولكني بدأت تدريباتي الشعرية، إن جاز التعبير، وقراءتي المنهجية من السياب، والشعر العراقي المعاصر عموماً، وشعر المقاومة الفلسطينية وصولاً الى أدونيس والماغوط وأنسي الحاج وأقطاب مجلة “شعر”. كان ذلك لازماً لأي شاعر يبدأ الكتابة. هل يحدث هذا اليوم؟ أي هل نشكل نحن أبناء جيل السبعينيات والثمانينيات مادة ملزمة للشعراء الشبان اليوم؟ لست متأكداً، ولا أعرف إن كان ذلك ضرورياً أصلاً.

لماذا تصر على الظهور كمحلل سياسي على الشاشات، في حين أنك من الموقع النقدي للمثقف تستطيع الخوض في الفكر والأسئلة السياسية دون الوقوع في عمل التنجيم هذا؟
لا أصر على الظهور في التلفزيون كمحلل سياسي بل ككاتب وصحافي يعمل في الصحافة اليومية ويكتب باستمرار في الشأن العام. هذا الظهور المتكرر، الذي زاد مع ما نسميه الربيع العربي، يعكس انشباكي الكامل بما يحدث في العالم العربي اليوم. ربما يجب عدم نسيان أنني قادم من اليسار، وقد تلقيت تربية ماركسية منهجية في معهد الاشتراكية العلمية في عدن أيام عزها الماركسي، ومجيئي إلى الصحافة كان من باب الالتزام السياسي، ثم إني أكتب على نحو متواصل في القضايا العامة ولا أجد غرابة في تعليقي على أحداث تخص حياتنا العربية. وهذا لا يتناقض مع الدور النقدي للمثقف الذي يمكن أن يتخذ أشكالا متعددة.

منذ ثورة تونس ونحن نعيش زمناً عربياً جديداً، فعلى مدار عامين يتواصل الاشتعال الثوري هنا، والاحتجاجي هناك. كيف ترى هذه اللحظة؟ بأي عين تقرأ تحولاتها؟ ما صورة الغد القادم؟
كنتُ أكثر حماسة مع بدء الانتفاضات العربية وأكثر تفاؤلاً بما ستفضي إليه، ولكن يبدو أن الدم الغزير الذي سفك في ليبيا، وشلال الدم المتواصل في سورية، والقوى التي أمسكت بأعنة اللحظة في مصر وغير مكان.. جعلتني أكثر واقعية وحذراً. لقد كشف ما حصل عربياً عن مجتمعات لا نعرفها نحن المثقفين، إذ بدا واضحاً أننا كنا نعيش في عالم غير عالم أناسنا، وإلا كيف انصعقنا بما أظهرته أحشاء المجتمع المصري من أصولية وسلفية متوارية عن الأنظار. لم يخلق هؤلاء في يوم وليلة بل كانوا هناك منذ وقت طويل وتغلغلوا في أمكنة لا يعرفها المثقفون ولم يعيشوا فيها قط، مثل التجمعات العشوائية وأحزمة الفقر التي كانت تطوق المدن العربية التي أوصلتها الأنظمة القادمة من الجيوش والانقلابات أو أنظمة العائلات الى درجة مريعة من الفقر والتفكك. علينا أن نكون أكثر واقعية وأن نبدأ معركة ثقافية وفكرية انقطعت مع مجيء العسكر إلى الحكم وقطعهم للتطور المجتمعي الطبيعي، وصنعهم لمجتمعات على مقاس بيانهم العسكري وعدتهم الفكرية الضحلة.. يعني علينا أن نعود الى حيث انتهى علي عبد الرازق ومن هم مثله، لنواصل معركة بدأت تفرض على مجتمعاتنا بعد سقوط الاستبداد. المعركة التي بدأت في مصر، وسيكون هناك ما يشبهها في أكثر من بلد عربي، هي في قلب الفكر والثقافة، إنها معركة التنوير التي خاضها أسلاف لنا في مطلع القرن العشرين، معركة ما سمي النهضة العربية التي انقطع مسارها لمئة سبب وسبب.. وعلينا أن نحاول استعادة ذلك التراث القريب ودمجه مع معطيات لحظتنا إن أمكن.

كتابك “بيروت صغيرة بحجم قبضة اليد” صدر أخيراً، يستعيد حصار بيروت بعد كل هذه السنوات.. ما ظروف هذه التجربة؟
هذا كتاب مؤلف من ثلاثة أشكال أدبية: اليوميات، النصوص الشعرية، الرحلة.. وقد اجتمعت بين دفتي كتاب. اليوميات هي التي كتبتها أثناء حصار بيروت صيف عام 1982 والنصوص كذلك، أما الرحلة الى بيروت فقد تمت بعد خروجي من المدينة بأربعة عشر عاماً. هناك نصان في الكتاب ليسا لي، الأول قصيدة مشتركة بين محمود درويش ومعين بسيسو، والثانية لسعدي يوسف، ما عدا النصوص التي لي وقد نشرتها في حينها، ولكني لم أضمها الى مجموعة من مجموعاتي السابقة. عندما وقّعتُ الكتاب في عمان مؤخراً كان بين الحاضرين ممن عاشوا التجربة من الناس العاديين والكتاب، وقد لاحظنا بغرابة شديدة ندرة الكتب التي كتبت عن تلك التجربة. الصاعق في الأمر أننا أحصينا كتاباً أدبياً واحداً كتب عن الحصار هو “آه يا بيروت” لرشاد أبو شاور، الصاعق أكثر أن المثقفين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب الذين شهدوا الحصار كانوا بالمئات. كيف سقط هذا الحدث الخارق والاستثنائي من ذاكرة كل أولئك الشعراء والكتاب والسينمائيين والتشكيليين؟ هذا هو السؤال الذي لم نجد له إجابة.
__________________________
* صحيفة (الأيّام) الفلسطينيّة.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *