الطيب بشير
كتب الرئيس التونسي الدكتور محمد المنصف المرزوقي مقدمة هذا الكتاب «عن العشق والثورة» لمؤلفه المحامي والناشط السياسي والحقوقي خالد الكريشي، وقد تعمد المؤلف أو الناشر الإشارة في غلاف الكتاب إلى أن رئيس الجمهورية التونسية هو كاتب المقدمة، ولعل ذلك من باب الدعاية للكتاب أو من باب إبراز العلاقة الشخصية أو «النضالية» التي تربط بين المؤلف والرئيس، حتى أن اسم الرئيس على الغلاف كان بحروف أبرز وأكبر من الحروف التي كتب بها اسم المؤلف. وإذا كان أمراً نادراً أن يتولى رئيس دولة تقديم كتاب؛ فلا بد من الإشارة إلى أن الدكتور المرزوقي هو طبيب أعصاب ولكنه أيضاً كاتب ومفكر، وقد أصدر العديد من الكتب من بينها كتاب «الطبيب والموت» وهو من بواكير إصداراته، ثم توجه في كتبه اللاحقة إلى المؤلفات ذات المضمون السياسي.
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى أن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك كتب – عندما كان في قصر الأليزيه- مقدمة كتاب عنوانه «في مدح القيلولة» لمؤلفه برونو كومبييه ناصحاً الفرنسيين من خلال تجربته الشخصية بأخذ قيلولة لا تتجاوز ربع ساعة لتجديد نشاطهم، وحلل الرئيس فوائد القيلولة ومنافعها.
تباين مواقف
أما الرئيس التونسي محمد المنصف المرزوقي فإنه في تقديمه لكتاب «في العشق والثورة» يحلل أخطاء القوميين العرب وينقد تصوراتهم ونظرياتهم مستعرضاً تجربته معهم ومعاناته من أنصارهم، يقول إنه قرأ مخطوطة الكتاب بكثير من التأني رغبة منه في معرفة الكيفية التي عايش بها المؤلف كل المحطات التي أدت للثورة في تونس والتي عاشها الرئيس نفسه بكثير من الأمل والألم على امتداد ثلاثة عقود من صراع لم يتوقف يوماً على حد تعبيره.
أما السبب الثاني الذي ذكره الرئيس لإبراز اهتمامه بالكتاب، فيعود لرغبته في معرفة كيفية تفكير من أسماهم الجيل الجديد من العروبيين التونسيين.
ويضيف الرئيس التونسي: «بخصوص الجزء الأول أي معايشة خالد الكريشي المحامي والمواطن والمقاوم للاستبداد، وجدت نفسي تقريبا في كل شهاداته مع بعض التباين الذي يفرضه الاختلاف في العمر وفي الموقع الذي كنا نناضل انطلاقا منه»، مشيراً إلى أن ما أثار اهتمامه وجود مقالة في الكتاب عنوانها: «ردّ متأخر على مقال الدكتور منصف المرزوقي في يوم محاكمة حبيب عيسى» (19/08/2002)».
اطراء يعجب الرئيس
ولا يخفي الرئيس استحسانه لكلمات الإطراء التي جاءت في المقال المشار إليه، ويؤكد أن «لا أحد فوق عبارات الود الخاصة إذا كانت تفوح برائحة الصدق، لكن كما هو الحال دوما لا بدّ دون الشهد من إبر النحل، كما يقول أبو الطيب، وإبر النحل هذه كانت مدبّبة، فخالد الكريشي يبدأ بوصفي بقومي قديم (مهترئ، غير صالح للاستعمال ـ للوضع في المتاحف)، ثمّ يتهمني بالسّطحيّة والكاريكاتوريّة إذ «أخلط بين من ربطوا بين الدولة الإقليمية والقومية». كأني به يريد بنا العودة لمقولة محمد عبده «ما أجمل الإسلام وما أقبح المسلمين».
ويرد المنصف المرزوقي على المؤلف قائلا: «ما يجهله أو ما يتجاهله أنه لا توجد أفكار ومشاريع فوق أو خارج من يحملونها، وأن التاريخ حاسب الماركسيين على ما تحقق ولم يحاسبهم على النظريات والنوايا وكذلك يفعل وسيفعل مع الإسلاميين ومع القوميين. وإن تأمّلنا لحدّ الآن أداء بعض هؤلاء القوميين لهالنا ما فعلته بأحلامنا وأمانينا أنظمتهم التي ساندوها وحتى إلى اليوم بقاياها المؤهلة قريباً، إن شاء الله، لمزابل التاريخ.»
ويشير صاحب المقدمة إلى أن صرخاته ـ كما يسميها- ضاعت سدى في الثمانينيات عندما نبّه إلى أنّ ربط المشروع القومي بأنظمة عائلية فاسدة ومستبدة هو أكبر خطر على المشروع القومي، مضيفاً: «لم يشفع لي أنّني كتبت في بداية الثمانينيات: «لماذا ستطأ الأقدام العربية أرض المريخ» أو أنني شرعت في تعريب الطب ونلت جائزة المؤتمر الطبي العربي سنة 1989. كلا.. فقد بصق مجهولون عليّ في الشارع بعد موقفي من غزو العراق للكويت وتنبيهي إلى أن الأمر سيكون كارثة على الأمة».
من حسن الحظّ أنّ أغلبيّة القوميين بدأت تعي بما يكتب خالد الكريشي؛ أي أنّ «بناء المشروع القومي لا يتوقف على موقف البعض سواء كان إيجابيا أو سلبيا بل هو مشروع أجيال».. نعم هو مشروع أجيال خاصة هو مشروع في تحوير مستمر يأخذ من تجارب الفشل والنجاح ليطور أساليبه والهدف واحد».
ويصل المنصف المرزوقي إلى الاستنتاج بأن «ما يترتب عن هذا القول أن تعويل القوميين على الدولة القطرية التي تغلّف استبدادها بالمشروع القومي رهان انتهى، وأن علينا البحث عن طرق كثيرة أخرى قبل أن نصل للهدف الذي نريد، وهو أن يكون لهذه الأمة التي تسكن الفضاء فضاء ثقافيا واحداً وحق السكن في فضاء اقتصادي وسياسي موحد، دون أن يعني ذلك تحقيق النموذج البروسي البسماركي للوحدة وكان السراب الذي جرت وراءه أجيال من القوميين».
ويروي د. منصف المرزوقي: «سنة 1984 أتاني بعض القوميين وطلبوا مني أن أساهم في بناء حزب قومي جديد في تونس. قلت على بركة الله ودبّجت نصّا أقول فيه إنه يجب إدانة الاستبداد باسم القوميّة مثلما ندين الاستبداد باسم الدين أو باسم الوطنية، وإن هذه الوطنية اليوم لا تفصل عن المواطنية، وإن هدف القوميين هو إرساء الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأنّ الإنسان العربيّ الحرّ والشعوب العربيّة الحرة هي الطريق لوحدة لا علاقة لها بالتصور الاستبدادي، وإنما هي اتحاد لشعوب مستقلة تعيش في ظلّ دول ديمقراطية يبنى على شاكلة الاتحاد الأوروبي».
مضيفا: «من يومها لم أسمع بهؤلاء القوميين الذين انخرطوا في تشكيل حزبيات أصبح البعض منها واجهة للدكتاتورية وتشرذمت القوى الباقية».
ويبين المنصف المرزوقي أنه سعيد اليوم بأن يرى أطروحاته تعود إلى السطح وأن الأطروحات البالية والتصورات – التي يصفها بالعقيمة – تتراجع إلى الخلف. ولا يخفي كاتب المقدمة تأييده لما أورده المؤلف عن موقف جمال عبدالناصر من مسألة الانفصال عن سوريا وفي نصّه يقول الكريشي: «لقد تعامل جمال عبد الناصر مع جريمة الانفصال بروية وحكمة فائقة تعكس الرؤية الواضحة لما يجب أن يكون عليه المشروع الوحدوي في المستقبل؛ إذ رفض بشدّة استعمال القوّة العسكريّة لسحق الانقلاب الانفصالي رغم إلحاح الوزراء السوريين، رافضاً الدخول في حرب أهلية تسفك الدماء العربية بلا حساب، فالوحدة العربية يجب أن تتحقق بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى القوة والانخراط في بناء مشروع يجب أن يكون عن طواعية ويحظى بإجماع جميع القوى السياسية».
ويعلق المنصف المرزوقي على هذا التحليل قائلا: «إنّها نقطة بالغة الأهمية فاتحاد الشعوب العربية المستقلة الذي دعوت له في كتابي» حتّى يكون للأمة مكان في هذا الزمان» لا يكون إلا خارج منطق الغزو والفرض والتآمر على الدول والأنظمة. قد يأخذ الأمر وقتا أطول لكن النتيجة أن البنيان سيوضع على أسس صلبة».
وختم الرئيس التونسي تقديمه للكتاب معرجاً على ثورات الربيع العربي، قائلا: «وفي الأخير أريد أن أركّز على أنّ الثورة العربيّة المباركة التي انطلقت من تونس جاءت لنا بالكرامة وبالديمقراطية وبالاستقلال وفتحت لنا أيضا باب الاتحاد على مصراعيه. إنها مهمة الأجيال الجديدة. بدأ المشروع حلما جميلا في عقول بعض المثقفين، تبلور في خيارات سياسية اتضح أنها لم تكن الطريق. خرجنا منه وقد وضع التاريخ أمامنا تقاطعات جديدة. لنمشي في هذا الجزء من المسار واعين بأهمية الهدف وبصعوبة تحقيقه لكن بأمل متجدّد رائدنا مقولة أحمد شوقي:
وما اسـتعصى علـى قـوم منـال
إذا الإقـــــدام كان لهـــم ركابــا
فصول الكتاب
جاء الكتاب في أربعة أجزاء في كل منها عدد من الفصول؛ وعنون المؤلف الجزء الأول بـ «حديث عن الحرية:» ومن أهم فصوله: «فرنسا الوفية دائما لمصالحها الاستعمارية»، أما الجزء الثاني فخصصه المؤلف للحديث عن العروبة ومن بين فصوله: «المستقبل للمشروع الناصري؟» وفصل آخر عن ثورة 23 يوليو، ومن ضمن فصول هذا الباب: «لماذا نحن وحدويون وناصريون؟»، وحلل مستقبل القضية الفلسطينية بعد العدوان الأخير على غزة كما تعرض لمسألة انتهاك حقوق الأسرى في سجون العدو الإسرائيلي، كما خصص المؤلف – وهو محام – جزءا من كتابه سماه «حديث في المحاماة»
رواية شاهد عيان
أما الجزء الرابع فهو الحديث الأخير وتصمن فصلا واحداً عنوانه: «هكذا عشت يوم 14 يناير 2011»، وهو اليوم الذي أصبح يؤرخ به للثورة التونسية والذي فر فيه الرئيس المخلوع من تونس. وجاء هذا الفصل شهادة للتاريخ عن يوم مشهود من تاريخ تونس.
يقول المؤلف: «مساء يوم 13 يناير 2011 قمت بإيصال الزميل شكري بلعيد المحرر، والذي تم اغتياله يوم 6 فبراير أي بعد صدور هذا الكتاب، لمنطقة «نعسان».. وكنا متفقين على تنظيم مسيرة تخرج من شارع «باب بنات» في اتجاه وسط العاصمة وتلتحم مع مسيرة اتحاد الشغل.
وفي صباح 14 يناير 2011 استيقظت باكراً واصطحبت معي شكري بلعيد في سيارتي، وتوجهنا لشارع الحبيب بورقيبة حيث وجدناه مقفراً، والتقينا بعبيد البريكي عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل ثمّ توجهنا لشارع «باب بنات»، حيث خرجنا في المسيرة المتجهة إلى شارع الحبيب بورقيبة مرورا بـ «باب سويقة» ثمّ شارع المنجي سليم ثمّ «باب بحر» إلى أن استقر بنا المطاف أمام وزارة الداخلية. كانت أروع لحظة تاريخية في حياتي حين صعدت فوق منصة الحراسة أمام وزارة الداخلية لإلقاء كلمة وتحريض الجماهير، وشاهدت أمواجاً بشرية من ساحة ابن خلدون إلى ساحة 14 يناير وطوفانا شعبيا يهتف كلّه: «إرحل إرحل». وحين كنّا مجتمعين أمام وزارة الداخلية ولا نعرف ما هي آفاق هذا التجمع وعدم إمكانية التحكم فيه؛ خاصة أمام محاولات البعض اقتحام مقر الوزارة. كنا مختلفين بين من يقترح الاعتصام أمام مقرّ الوزارة على أن يوفر اتحاد الشغل وهيئة المحامين اللازم من خيام ومؤن وبين من يقترح التوجه لقصر قرطاج (القصر الرئاسي)، وأظن أنّ هذه المعلومة تمّ إيصالها خطأ لعلي السرياطي مدير الأمن الرئاسي، فتدخلت قوات الأمن وفضَّت التجمع.
بعد فض الاعتصام وجدت نفسي محاصراً فوق سطح إحدى العمارات صحبة العشرات من المواطنين والمواطنات، وبت ليلتها هناك تحت وطأة تهديدات قوات الأمن وبحثهم عنا بعد أن تسرب نبأ حصارنا لوكالات الأنباء، ولم أستطع المغادرة إلا صباح السبت 15 يناير 2011 بعد تدخل عضو الهيئة الوطنية للمحامين الأستاذ أحمد الصديق. من بين الطرائف التي ما زلت أذكرها أنه حين قضينا الليل فوق سطح العمارة محاصرين من قبل قوات الأمن قمنا بإغلاق هواتفنا الجوالة، ولم نتحدث معاً ولم ننبس ببنت شفة إلا القليل القليل حتى لا يفطنوا لنا. كنا معزولين عن العالم الخارجي وليست لدينا معطيات وأخبار كافية؛ فكان الكلام ممنوعاً، وحين علم الحضور بصفتي كمحام طلبوا مني وألحوا في معرفة تفاصيل التغيير على رأس الدولة والاختلاف بين الفصلين 56و57 من الدستور، وإلقاء محاضرة في ذلك!!!».
* ( الاتحاد الثقافي )