*
صدر مؤخراً كتاب جديد عن سيرة حياة سيلفيا بلاث الشاعرة والأديبة التي ما زالت تثير الكثير من الاهتمام بعد مرور خمسين عاماً على وفاتها. الكتاب بقلم أندرو ويلسون ويحمل عنوان (الفتيات المجنونات يحببن الأغاني- حياة سيلفيا بلاث قبل تيد). الجزء الأول من العنوان مستوحى من قصيدة لسلفيا بليث تحمل عنوان (الفتيات المجنونات يحببن الأغاني).
في الخامس والعشرين من شهر فبراير عام 1956 دعيت فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، اسمها سيلفيا بلاث لحضور حفل اجتماعي وما ان دخلت القاعة حتى رأت تيد هيوز. كان لقاءً وصفته بتفاصيله في مذكراتها ليصبح من أشهر ما كُتب حول تعارف الأدباء في التاريخ الحديث. إذ تصف بلايث هيوز بأنه “شاب ضخم غامق البشرة ومثير”. ولم تتغير نظرة بلاث لتيد هيوز بل عاشت معظم حياتها في ظله الضخم المثير. بل لقد سيطرت علاقة بلايث وهيوز العاطفية على المشهد الثقافي حتى تحولت حكايتهما إلى ما يشبه الأسطورة المعاصرة. عاشت بلايث قبل أن تلتقي بتيد هيوز حياة معقدة مثمرة ومتقلبة، فقد توفي والدها وهي في الثامنة من العمر وعرفت مئات الرجال وقبلتْ خطوبات كثيرة بشكل غير رسمي وجربت الانتحار وكتبت أكثر من مئتي قصيدة. وقصيدة (الفتيات المجنونات يحببن الأغاني) تتحدث عن تلك السنين وتجاربها، وتكشف مصادر بعض من عدم توازنها العقلي وكيف تكاتفت العوامل الاجتماعية والاقتصادية في حياتها على تكوين شخصيتها ومفاهيمها الفكرية ورؤيتها الشعرية.
الكتاب يعتمد على مقابلات مع عدد من أصدقائها وعشاقها الذين تحدثوا لأول مرة عن بلاث بصراحة. كما يستعين الكاتب بمادة من الأرشيف لم يسبق استعمالها من قبل لأنها لا تتوفر قبل مرور خمسين عاماً على وفاة الشخص المعني. وعليه فهذا أول كتاب يركز على السنين المبكرة من حياة واحدة من أكثر شاعرات القرن العشرين شعبية والتي بقي شعرها متداولاً حتى اليوم. بل إن هذا الكتاب ينتشل سيلفيا بلاث من تعقيدات ارتباطها بشخصية معروفة ومهيمنة مثل تيد هيوز ليقدمها كإنسانة لم تعرف الاستقرار العاطفي في حياتها وفي عماها وإنتاجها الأدبي.
قبل رحيلها بعام واحد أجرى الناقد الأمريكي بيتر أور حواراً صحفياً مع الشاعرة جاء فيه: (*)
* كيف بدأت كتابة الشعر؟
– لا أعرف لكني كتبته في مراحل مبكرة من عمري، أظن أغاني الأطفال استهوتني وأحسست أني أستطيع تأليف ما يشبهها، فنشرت أول قصيدة وأنا في الثامنة، بعدها أصبحت شاعرة محترفة.
* وما هي الموضوعات التي استهوتك في البداية؟
– الطبيعة الطيور والنحل والربيع والخريف والنجوم وأول هطول للثلج، أمور تعتبر محفزات مجانية، هدايا للفكر والخيال، لمن لا يمتلك تجارب حقيقية يكتب عنها.
* الآن بعد كل هذه السنين ما الذي يحفزك على كتابة الشعر؟
– ربما كأمريكية أجد أن الدراسات التي ظهرت مؤخراً عن حياة روبرت لويل، والتفاصيل الخاصة الصغيرة التي لم تكن معروفة وما كتبه لويل من شعر عن الحياة في مشفى للأمراض العقلية، منحتني فرصة نادرة للتأمل، وأظن أن هذه الخصوصية الحميمة تسللت إلى الشعر الأمريكي. الشاعرة آن سيكستون مثلاً كتبت عن تجربتها الشخصية كأم عانت من الانهيار العصبي، وجاء شعرها مفعماً بالعاطفة كأم شابة تروي تجربة فريدة جديدة بجرأة وتعبير شعري مؤثر.
* كيف تقيمين نفسك كشاعرة أمريكية عبر شعرها المحيط؟
– لا شك أني أتحدث بلهجة أميركية، وأنا أميركية تقليدية، ولذلك أعيش في إنكلترا وسأظل أعيش فيها، بعد أن تأجل قراري لخمسين سنة ومع ذلك الشعراء الذين يمتعوني هم الشعراء الأمريكيون ولا يعجبني سوى قلة من الشعراء الإنكليز المعاصرين.
* هل معنى ذلك إنكِ ترين أن الشعر الإنكليزي المعاصر متخلف عن الشعر الأمريكي؟
– لا، ولكني أعتقد أنه سجين التقاليد والنظام والانضباط الإنكليزي. أنا لست منتظمةً ولا أريد أن أكون كذلك. لأنها في نهاية الأمر قيود علي وعلى شعري.
* ألا تعتقدين أن الشعراء الإنكليز المعاصرين ينوؤون تحت حمل ما كتبه أسلافهم من صناع تاريخ الأدب الإنكليزي؟
– تماماً فحين كنت في جامعة كامبريدج كانت بعض الطالبات يسألنني من اين تأتين بالجرأة لتكتبي وتنشري ما كتبته؟ ألا تخشين النقد الحاد الذي يعقب النشر؟ والنقد ليس نقداً للقصيدة، فقد كتب عني أحد النقاد منزعجاً من أني بدأت قصيدة على طريقة جون دون ولم أتمكن من إنهائها على حد تعبيره بنفس الأسلوب. يومها شعرت بثقل كل تاريخ الأدب الإنكليزي على عاتقي. أعتقد أن المشكلة هي أن النقد يدرس في الجامعات الإنكليزية على أساس عملي وليس على أساس تاريخي موضوعي. في أمريكا ندرس الشعراء ونفهم أساليبهم من تي إس إليوت إلى شكسبير مروراً بييتس وديلان توماس لكنا نضع كل واحد منهم في مرحلته التاريخية، وننقده على هذا الأساس، لذلك لا يرتعب الشاعر الشاب في أميركا من دراسة الشعر وكتابته ونشره كما يحدث في إنكلترا.
* لكنك كشاعرة أمريكية تتحدثين في إحدى قصائدك عن المحارق اليهودية وكتاب هتلر “كفاحي” فهل يهتم الأمريكي بمثل هذه الأمور؟
– أنا لست أمريكيةً عاديةً فأنا من أصول نمساوية وألمانية. والدي ليسا أميركيين، وعليه فأن هذه الأمور تعنيني. كما أني معنية بالسياسة.
* وكشاعرة هل يعنيك التاريخ؟
– لست مؤرخةً لكن اهتمامي بالتاريخ يتزايد مع السنين. أنا حالياً مهتمة بنابليون بونابرت وبالحروب وأظن أنه مع تقدمي في السن سيزداد اهتمامي بالتاريخ بشكل عام.
* هل معنى ذلك أن شعرك صار أكثر تأثراً بما تقرأين؟
– لا أظن ذلك فشعري ينبع من تجاربي الحسية والفكرية الخاصة، رغم أني لا أستطيع التعاطف مع التجارب الذاتية البحتة لأني أومن أن علينا أن نتلاعب بتجاربنا حتى أكثرها قساوة كالجنون أو التعذيب الجسدي وندعمها بقوة العقل على التحليل، لأنه رغم أهميتها كتجربة ذاتية، يجب أن لا تتحول إلى رؤية ذاتية شديدة النرجسية، تعزلنا عن التجارب الكبيرة المهمة حولنا مثل ما حدث في هيروشيما مثلاً.
* وماذا عن الكتّاب الذين تأثرت بهم أو من لم يعنون الكثير لك؟
– هم قليلون بحيث يصعب البحث عنهم. حين كنت في الجامعة أذهلني المحدثون أمثال ديلان توماس وييتس وأودين بحيث أني كتبت الكثير الذي استوحيته منه. الآن عدت إلى الماضي الأبعد وبدأت أبحث عن وليام بليك على سبيل المثال وطبعاً شكسبير. فيكفي أن تقرأ وليام شكسبير حتى تتأثر به.
* هل تؤمنين أن الشعر الجميل هو الشعر المؤثر حين نسمعه يقرأ؟
– الآن أصبحت أؤمن بذلك، خاصة بعد أن بدأت بتسجيل قصائدي بصوتي وقراءة شعري في الأماسي والاستماع لقصائد الشعراء الآخرين مسجلة بأصواتهم فهذا يسعدني لأنه استعادة لدور الشاعر التقليدي أن يقرأ شعره أمام الناس، أو حتى ينشده.
– هل كتبتِ شيئاً خارج الشعر؟
– أحب النثر وقد نشرت في شبابي المبكر قصصاً قصيرة، وكنت دائماً أتمنى أن أكتب قصة قصيرة طويلة أو رواية. الآن في هذا السن أنا مهتمة بالنثر، فالروائي يمكن أن يتناول بالحديث كل ما يخطر له على بال من فرشاة الأسنان إلى طبق الطعام، الشعر لا يتيح ذلك. الشعر يملي قواعده التي تفرض الحدود على الانطلاقة بلا قيود، وأنا امرأة أحب الحديث عن الصغائر والدخول في التفاصيل الدقيقة والرواية تسمح لي بكل ذلك. الرواية تتيح لي أن أستكشف خبايا صغيرة في الحياة وأتحدث عنها بلا قيود. وعليه، نعم أنا مهتمة بكتابة الرواية.
* هل تجدين نفسك كشاعرة في صحبة الكتاب والشعراء؟
– أفضل صحبة الأطباء والقابلات المأذونات والمحامين أو أصحاب أي تخصص آخر غير الكتاب. فالكتاب والفنانون أناس شديدو النرجسية ، رغم أني أحب العديد منهم وكثيرون منهم أصدقاء مقربون ولكن لا بد أن من أقول إن أكثر ما يعجبني هو تمكن الشخص من المهنة التي يحترفها لأنه يصبح قادراً على تقديم بعض المعرفية من تجاربه للآخرين. فالقابلة في حينا مثلاً علمتني كيف أربي النحل، ورغم أنها لا تفهم كلمة مما أكتب، أفضلها على معظم الشعراء بل يستهويني كل أصحاب المهن من بناة القوارب إلى الأطباء الجراحين . فالشاعر يعيش في عالم خاص ومن المفيد أن يجد من يعيده إلى واقع الحياة.
* لو لم تكوني شاعرة ماذا كنتِ تريدين أن تكوني؟
– كنتُ أتمنى أن أكون طبيبة فهو عمل على الجانب الآخر من الحياة وحين كنت شابة كان لدي العديد من الأصدقاء المقربين من الأطباء وكانوا يدعوني أضع كمامة وأراقب عمليات الولادة أو أشاهد عملية جراحية وقد استهواني ذلك لكني لم أتمكن من تعلم التفاصيل التي أحتاجها لأصبح طبيبة، تتعامل مع التجربة الإنسانية الحقيقية تشفي وتجعل الجروح أقل إيلاماً. عزائي الوحيد هو أنني أكثر سعادة ككاتبة من العديد من الأطباء الذين عرفتهم.
* هل أرضتكِ إذاً تجربة كتابة الشعر؟
– الرضا شيء لا يمكنني العيش بدونه هو كالماء والهواء أساسي في حياتي. وأنا أشعر بالرضا الكامل حين أكتب قصيدة خاصة أثناء كتابتها، وبعد الانتهاء منها أتحول وبسرعة من شاعرة إلى شاعرة في حالة استرخاء والفرق بين الحالتين كبير. نعم الشعر أرضاني وأسعدني.
_____________________________
المصدر: The Poet Speaks
* نقلاً عن المدى .