حكايةُ ” أحلام “، حكايتي



يوسف خديم الله*

( ثقافات )

1
أنا، من أنفقَ البصرَ و البصيرةَ،مجانا تقريبا، في التلوّث الذاتي بما ارتفعَ و انحطّ من روثِ الكتبِ، غربيّها و شرقيّها، لي من الجرأة – و الحمد لله – أن أعترفَ أنني لم أقرأ بعدُ شيئا ممّا كتبت جارتُنا و أختنُا في اللّعنتين، الكاتبة الشهيرة أحلام مستغانمي، لا لترفّعٍ ذكوريٍّ غذّته نزعة مناهضةٌ للنزعات النسويّة أو جمعيّاتِ دعم المرأة أو الحملة الإعلامية التي أثارَها سعدي يوسف إبّان نشرِ روايتها ” ذاكرةُ الجسد” و تلقّفهَا خليطٌ من الإعلاميين المُهجنين، كتّابٍ و شعراءَ و قصاصين، صحفيين، هواةٍ مُندسّين و مُحترفين منحرفين على السواء..و لا لاحتساباتٍ إيديولوجية أونزَعاتٍ قومية تنتصرُ لقناعاتٍ دغمائية تُلحقُ الكتابة َبالجنسِ أو العرقِ أو الطبقةِ أو الطائفةِ، وإن كانت عناصرُ تقتحِم، بدرجة ما، منظومةَ الدلالة- و إن ضؤُلت .

2
لا..لا. الحكاية أبسط من ذلك بكثيرٍ، ربّما كان لها جذرٌ في بنيتي النّفسية أو في مزاجي و طبعي الملتبسين، لا غير.

أنا، و إن كنتُ ممن يوصفون بعلاقتهم الغريبة، بل المَرضيّة بالكتاب و، بالضرورة، بأهل الكتابِ،لا يجبُ أن يُفهمَ من ذلك أنني من عبيدِ الورقِ، تتلبّسُهم عبادة ُالمعرفةِ العمياء، فيعتدُون على حقّ العامّة المشروعِ في الجهالةِ، أو يتعَامَون على الوظائفِ الإجتماعية للرّداءة و الإحتياطي الإيديولوجي للوهم المُعمّم في بناءِ “الوحدة الوطنية” لأقطارنا العربية و قاطراتِها الإسلامية.. إذ لا يمكنني أن أنسى أنني حيوان آدميّ، يُكلفني “الخبزُ(و ملحُهُ) و الحشيشُ (و حُشاشتُه) والقمرُ (و فاتورتُه)” من الجَهدِ و الطاقةِ ما لا أحتملُ غالبا أو يحتمل فقري الهيكلي الذي للكتاَبِ و أهلِه، مرّة الأخرى، يدٌ بريئةٌ و آثمةٌ فيه، بلا ريب، حسب التوصيف الماركسي لإنتاجِ و إعادة إنتاج الفقرِ الرأسماليّ المعاصر.

3
أنا، و إن كنتُ كذلك، بدرجةٍ أو بأخرى، لستُ من المُهرولين في أي شيء، لا في سباقٍ و لا في عناقٍ، لا في شقاقٍ و لا في وفاقٍ. يغلُبُ عليّ الكسلُ، في العملِ طبعا، بل حتى في قطف اللذّة، حلالِها و حَرامِها، لا فرقَ. بل يصلُ- و قد حصل فعلا – إلى درجة الحرَنِ الحميريّ الذي بِتُّ به أُعرَفُ في الحقل الثقافي و السياسي أيضا، لا لتعفّفٍ مصطنَعٍ عن اجتلابِ المالِ و الجاه – كما أثبتَ زملائي و جيراني قبل “ربيع تونس” الشقيقة، و من بعده، سريعاً – بل لأنني، لكلّ ما ذكرتُ آنفا، أذهبُ دائما متأخّرا و بطيئا إلى أيّ شيء أحبُّ وهو ما يراهُ أولئك عين العجزِ و العطالةِ و الخمولِ ، بل اليأسِ و النّحرِ الذاتي الذي لا يطَالُني منه، مثلهم، لا قِرشٌ و لا شرفٌ..

4
أيّ عجبٍ إذن إذا ما كرّرتُ أنني لم أقرأ بعدُ شيئا لأحلام مستغانمي، و لا ندمَ أو حكّة ضميرٍ أو شعورٍ بغبنٍ أو معرّةٍ. بالعكس تماما:

أشعرُ بفخرٍ لقيطٍ مضاعفٍ لأن لا أحدَ، على ما أتوقّع، يحسدُني على ما أنا فيه. و الحمدُ لله، وحده. لم أقرأ لها شيئا ذا بالٍ لأنني، ببساطةٍ، مرّة أخرى، أذهبُ دائما متأخّرا جدّا، بل أمتنعُ تماما، عن الذهاب إلى الكتبِ التي يصنفّها العُرفُ التجاري ب”الأكثر مَبيعاً” أو، بلُغةِ السّوق الأنغلوسكسوني ب” البيست سيلّر”.. والتي تليقُ حقّا بأولئك المتعلّمين صُدفة ً، المُهرولين إلى الكتبِ تلك، يتّخذون محنتها التي أعاني حِليْةً في المحافلِ لاصطناعِ جاه ثقافةٍ مزعومٍ درءًا لتطبّعٍ مُتكتّم على ثقافة مالٍ لا يسعَون إليها، بالفعل، طالما أنها تأتي إليهم، بالقوّة ، على ظهر كتابٍ مُسعّرٍ و قابلٍ للتوقيع ..

5
غير إنني أعترفُ أنّ، بمجرّدِ استماعي- صدفةً، و الله – إلى صوتها في المذياع، وقعتُ على أمّ أذني، أي تحت إثارةٍ مبهمةٍ و عنيفةٍ في آنٍ، لا علاقة لها بالضرورةِ بما تقول، أو ،لمَ لا، بما تكتبُ.. إثارةٍ تفعلُ فعلها كلمعةٍ بلا ضوءٍ أو كوخزةٍ بلا إبرةٍ، يصعبُ تفسيرُها أو تأويلها، تماما مثل العلاقة المتوحشة بين زوربا اليوناني و رقصته، تلك.

6
ربما يقول قائلٌ مُتربّصٌ – بي طبعا – أنّ ذا مجرّدُ هرطقة إيروتيكية هي عرَضُ تصابي كهلٍ
هاجمتهُ “أزمةُ الخمسين”، هي أيضا صدًى متأخّرٍ لكبتٍ مبكّرٍ تعطّلت عمليّةُ إعلاءه – إبداعيا –
وهو ما سيفسّرُ به، بلا شكّ، أعطابي الإبداعية و ادّعاءاتي المتعالمة التي لم أتورّع عن إشهارها هنا أو هناك، و إن نادرا- لحسنِ حظه – في صحف أجنبية لا يصلها القارئُ إلاّ صدفةً، بعد أن تُداعبَها عناية السيد الرّقيب.

أنا لا أفقهُ في الموسيقى، غيرأن شيئا ما داخلي قد علِقَ بنبرةٍ في صوتها هي أقربُ إلى الإيقاع الذهني لموسيقى صامتةٍ لا تصمُد أمامها الكلمات التي بها تنطقُ، على وجاهتها. نبرةٌ لعلّها خلاصةُ تقاطعِ اللّهجاتِ المغاربية المتجاورة التي، بدلَ أن تتصارعَ، تصالحتْ فتناغمت، و إن غلبَت عليها اللكنات المميزة للّهجة التونسية التي تطفو أحيانا على خطابها، خالٍ من التكلّف و الإستعراض ذي المرجع السياحي العربي المشرقي،الخليجي المنافق،تحديدا، و الذي لا يحتاج منا أحدٌ الآن البرهنة عليه..
بدا لي أنّ في صوتها، في تلك اللحظةِ تمامًا، إيقاعَ طفولةٍ راشدةٍ، يتبّلُها استهتارٌ ناعمٌ هو أقربُ إلى أهواء الشاعرِ منهُ إلى الإنضباط الباردِ للناثر. لعلّ ذا سببُ جرّ نزار، وهو من هو، إلى حضيرتها و “تطوّعه” غير المشروط في إشهارها و الذي أظنّهُ لم يسلَم من موسيقاها تلكِ و من تداعياتها التي لا تليقُ إلاّ بشاعرٍ كبيرٍ مثلهُ : ألم يكتب : ” النصّ الذي قرأتُهُ يشبهني إلى حدّ التّطابق فهو مجنونٌ و متوتّرٌ و اقتحاميٌّ …” وهو ما لا يتوفّرُ لآخرَ أصغرَ، أصغرَ بكثيرٍ – الذي هو أنا، و لا فخرَ – إلاّ على سبيلِ تلصّصِ مُدّعٍ عاثرٍ، لأنه – ببساطةٍ – متعقّلٌ، باردٌ و جبان..
و عليه، فإنّ ما حصلَ له – مهما توهّمتُ أو ادّعيتُ – غير ما يحصُلُ لي أنا الآن عبر موجاتِ مضطربة و متضاربة لإذاعة ” تونس الثقافية ” التي ستحتقلُ بعيد ميلادها الرابع بعد شهرٍ، دون أن يصيبني من فضائلها شيءٌ عدا ما أدّعيتُ و ما توهّمتُ .

دخلت عليّ زوجتي و في يدها ” فوضى الحواس ” وقد أتتْ عليها لتوّها، قبلي كعادتها، في قضمتين أو ثلاثٍ.
كان ذلك كافيا لأن ” أنظّم” جيدا حواسي و أركنَ إلى بعض حقائقي :
ليس في صوتي أيّ إيقاعٍ، يثيرُ.
و نزارُ الذّي.. قد ماتَ.
و سهيل إدريس، أيضًا.

البحرُ الميّت، ماي، 2010 

شاعر سابق من تونس

( ملاحظة من محرر ثقافات : الصورة بالأبيض والأسود واقتراحات النص من الشاعر نفسه)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *