عاجلاً أو آجلاً كلُّ المدخِّنين يتوقفون! ذكريات مُدَخِّن سابق

عاجلاً أو آجلاً كلُّ المدخِّنين يتوقفون! ذكريات مُدَخِّن سابق

أمجد ناصر *

في زمنٍ عربيٍّ اختلط فيه الحابل بالنابل ويصعب تصنيفه الآن، طيَّرت وكالات الأنباء من نيويورك خبر وفاة شاعر ‘المقاومة الفلسطينية’ راشد حسين محترقاً بسيجارة كان يدخِّنها وهو يغفو غفوةً لم يفق منها.. بعد ذلك كان علينا أن نقرأ في صحف الصباح خبر احتراق الفنان التشكيلي السوري المتمرد لؤي كيالي بسيجارة في منزله بمدينة حلب. لا شيء يربط، هنا، بين وفاة الشاعر الفلسطيني في نيويورك والرسام السوري في حلب سوى الموت بسيجارة ..ليست بالضرورة من النوع نفسه!
محتملٌ جداً أن تكون هناك صلاتٌ ثقافيةٌ، تشابهاتٌ مزاجيةٌ، تطلعاتٌ تحرّرية ربطت، على نحو غير مباشر، بين شاعر فلسطيني يقيم في نيويورك ورسام سوري من حلب، ففي تلك الأيام لم يكن العرب قد بلغوا ‘سنَّ اليأس’ الوطني تماماً رغم تلامع نذر الخروج المصريِّ الرسميِّ من الصراع مع اسرائيل في الأفق، فقد كانت هناك أحلام، بل مشاريع مشتركة، بوسعها أن تحمل على أجنحتها المحلِّقة شاعر فلسطيني يقيم في نيويورك ورسام سوري من حلب.

هذه الكلمات ليست عن الشعر أو الفن التشكيلي، ولا هي عن راشد حسين الذي لم يقبل قسم من الفلسطينيين أن تكون سيجارة مشتعلة سبب موته المفاجىء، فليس هكذا يموت شعراء المقاومة!، ولا هي عن لؤي كيالي الذي قيل إنه أراد الموت حرقاً عندما تمدَّد على فرشته وتناول حبَّة فاليوم عيار عشرة ملغ وأشعل تلك السيجارة الأخيرة، كما أن هذه الكلمات ليست عما يسببه التدخين من كوارث ‘جانبية’، بل عن التدخين نفسه، أو بدقة أكبر: الإقلاع عن التدخين.
وعلى النحو الذي استهل فيه غابرييل غارسيا ماركيز مقالته ‘ذكريات مُدخّن متقاعد’ أبدأ مقالتي، أو بحسب تعبير ماركيز، ذكرياتي.
***
‘لم أترك التدخين لأيِّ سببٍ معين، ولم أشعر مطلقاً بأني أصبحتُ أحسن حالاً أو أسوأ حالاً، ولم يتعكَّرَ مزاجي، ولم يزد وزني، واستمرَّ كلُّ شئٍ كما لو أنني لم أدخن في حياتي أبداً، أو كما لو أنني ما زلتُ مُستمِرَّاً في التدخين’!
هذا ما يقوله ماركيز بعدما أقلع عن التدخين، ومثل معظم مقارباته المحتدمة للأشياء فإنَّ ما قاله يبدو لي غير قابل للتصديق. أعني بحسب المعنى الحرفي لتلك الكلمات. أو بتعبير آخر: بحقيقتها الواقعية، إذ غالباً ما ‘تضيع’ الحقيقة عند ماركيز تحت قصفه البلاغي وتزاحم مجازاته وتلاطم ألفاظه. المجازات، الصور، الكلمات هي، تقريباً، ‘حقيقته’ الأدبية، إنها ‘التحويل الشعريُّ للواقع’ الذي يصرف النظر عن ‘الحقيقة’ الواقعية. يغريني الكلام عن سيِّد الواقعية السحرية فأسترسل، أو أصاب بعدواه. لأبقَ، إذن، عند ذلك المقتبس الذي استهللت به حديثي.
أصدِّق الجملة الأولى من كلام ماركيز ويصعب علي، بل يستحيل، من ‘واقع التجربة’ كما يقولون، تصديق ما تبقى. قد لا يكون هناك سبب مباشر وضاغط دعاه، أو غيره، للتوقّف عن التدخين. هذا ممكن. لكن أن لا يشعر مطلقاً بأنه أصبح أحسن حالاً أو أسوأ، بأنَّ مزاجه لم يتعكَّر، بأنَّ وزنه لم يزد، كأنَّه لم يدخِّن في حياته قط، أو كأنَّه (يا لإلعابه اللفظية المدهشة): مستمرٌّ في التدخين!!
طيِّب. سأتحدَّث عن نفسي الآن وأروي تجربتي مع الاقلاع عن التدخين، وهي، على ما يبدو، أكثر درامية من تجربة الأستاذ ماركيز.
في عام 1998 تحدَّاني صديق أقلع عن التدخين توّاً بأنَّي لن أستطيع أن أحذو حذوه. قلت له إني أستطيع، أملهني بضعة أيام ريثما أفرغ من بقايا ‘كروز’ المارلبورو الذي لديّ الآن! قال متى يعني؟ قلت له يوم الاثنين القادم! كان ذلك يوم الأربعاء أو الخميس. أعطيت موعداً حاسماً لا مجال للتراجع عنه مع بداية الأسبوع (الغربي). مع آخر سيجارة، من آخر علبة من ‘كروز’ المارلبورو، انتهت علاقتي بالتدخين لتبدأ علاقتي مع كلِّ ما قال ماركيز إنَّه لم يعرفه بعد اقلاعه عن التدخين: التوتر، النرفزة، تعكرّ المزاج، ازدياد الوزن، التفكير بالسيجارة طوال الوقت، والأسوأ طُرَّاً: التوقف التام عن القراءة والكتابة.
……………………………………………………
كلُّ فعلٍ حيويٍّ في حياتي ارتبط بالتدخين. إنه الناظم السريّ (هل أقول السحريّ؟!) لحبَّات سبحة الحياة اليومية: الصحو صباحاً لا يكون صحواً من دون فنجان قهوة، وهذا الفنجان لن يكون له طعم من دون السيجارة الأولى التي تُعَزَّزُ، سريعاً وتلقائياً، بالثانية فالثالثة إلى أن أكاد أشعر بانسداد في حلقي. أكره التدخين للحظات بعد متوالية السجائر الصباحية. ثم سيكون عليّ التوجه، بمزيج من السعال والكره المضمر للتدخين، الى مكتبي (الركن المخصص لي في البيت) حيث تنتظرني مشاريع مقالات، قصائد، نصوص تبحث عن تجنيس لها. هناك مواعيد مقطوعة ينبغي أن تُوفى. هناك زوايا تنتظر أن تُملأ في يوم محدَّد من الأسبوع. أعرف تراتب ‘مسؤولياتي’ الكتابية. أبدأ بالمهم. وهو ليس بالضرورة قصيدة أو نصاً ملتبس التجنيس بل لعله أن يكون مقالاً كتبت عنوانه فقط، أوبضعة أسطر منه. أعرف من أين أبدأ، وكيف. لديَّ ‘خارطة طريق’ كتابية واضحة ولديَّ من يقودني في متاهاتها الداخلية: السيجارة. من دون السيجارة، ذلك الضوء الساطع في ليل الكلمات، لا كتابة. بل لا طرف خيط ‘أردياني’، إبنة مينوس ملك كريت، الذي قاد حبيبها ‘ثيسيوس’، ابن ملك أثينا، داخل المتاهة العظيمة. ‘خيط أردياني’ لا غنى عنه للتجول داخل المتاهة والخروج منها. قد يقيض لي قتل ‘الميناتور’، في جولتي داخل المتاهة، وقد يظل يخور، بصوته النحاسيِّ المؤرق، إلى جولة قادمة. لكن الخروج، بفضل الخيط السحريّ، مضمون.
المعدة التي لم تتلق، حتى الآن، سوى جرعات متواصلة من القهوة العربية المركَّزة تستسلم الى العادات المزّمنة، فلا تثور، بل تستكين بلا احتجاج يُذكر. ثلاث إلى أربع ساعات تتواصل، كل صباح، أمام الكيبورد بفضل الدخان الذي يتلوّى بين أصابعي ‘كالأفاعي الصغيرة’ سعياَ وراء ‘الميناتور’. المنافض المتنوعة ضرورية لتحسين شروط التدخين وتزيينه، لذلك يكون عليَّ أن أختار منفضة معينة كل صباح. يستحسن أن تكون زجاجية. لا رماد فيها ولا أعقاب، تلك النفايات التي سرعان ما تكتظ بها المنفضة فأقوم بإفراغها، بقرف مّنْ لم يعرف التدخين يوماً، في سطل النفايات محكم الإغلاق معطلاً، في الأثناء، حاستين على الأقل: النظر والشمَّ في حالٍ من التواطؤ المكشوف مع الذات.
الأمر المؤكد بعد نحو ثلاث ساعات أمام الكيبورد (لاحظوا أني لم أتحدث عن القلم فهو يتنسب الى زمن آخر ذي غنائية مجنَّحة!) أنني دخَّنت عشر الى اثنتي عشرة سيجارة! هذا هو ‘انجازي’ المؤكد، و’المضمون’ الذي لا أفاجأ فيه، ما يفاجئني، حقاً، أن أكون قد أكملت ما كنت أعمل عليه: مقالة، قصيدة، فقرة من كتاب. أقمع، في حالٍ من النكران الكامل، أسئلةً يطرحها عليَّ الجانب ‘المسؤول’ فيَّ، من نوع: لا تربط السيجارة بالكتابة، بـ ‘الإبداع’، فها أنت دخَّنت عشر الى اثنتي عشرة سيجارة حتى الآن (أكثر من نصف علبة) ولم تكتب سوى خمسمائة سبعمائة كلمة في أفضل الأحوال، وأحياناً، أحياناً كثيرة، لا تكتب بضعة سطور! أسئلة كهذه تُقْمَع في الحال. التواطؤ بيني وبيني يعمل بكفاءة منقطعة النظير كي أصل الى الظهيرة. أتناول غداء (سريعاً) وأفكر متى سينتهي الغداء ليأتي وقت الشاي! وهذا وقت للتدخين من غير أسئلة وشكوك وريب. لا مجال مع كاسة شاي بعد الغداء لأيِّ تساؤلات يطرحها الجانب ‘المسؤول’ فيَّ. الشاي والسيجارة صنوان لا يفترقان، ولضمان ‘شرعية’ هذا القران يحلو لي أن أستحضر أشخاصاً في أفلام أو مسلسلات أو كتب يرتشفون في استرخاء سعيد، أمام برندات بيوتهم أو وهم جالسون إلى طاولات المقاهي، كاسات الشاي مع ‘سحبات’ طويلة، ومحبوسة، من الدخان. ولأمر ما فإن معظم هؤلاء الذين تستدعيهم ذاكرتي مصريون. قد تكون الأفلام، أو المسلسلات التلفزيونية، أو قراءاتي للكتاب المصريين المتحدرين من الأرياف هي السبب.
بحكم عملي الصحافي فإن دوامي بعد الظهر. أصل الى المكتب فأجد طاولتي نظيفة. مرتَّبة. منفضة السجائر الزجاجية تلمع. أصنع كاسة شاي سريعة ولتبدأ معها متوالية التدخين لما تبقى من النهار، ففي تلك الأيام لم يكن التدخين ممنوعاً في المكاتب (الأماكن العامة عموماً) في لندن.
هذا وصفٌ تقريبيٌّ لروتيني اليوميِّ المنضبط، كعسكر الانجليز أيام عزِّهم ، بالسيجارة. هناك تفاصيل عديدة لا حصر لها يستعان عليها بالتدخين. مع كلُّ استثارة حسيِّة أو عقلية أجد يدي تمتدُّ، أوتوماتيكياً، إلى علبة السجائر. لا تتم الاستثارة في الفراغ. لا بدَّ لها من وسيط أو بيئة تقع فيها: التدخين. هذا يعني أن الخبر الجيد يتطلب سيجارة، وكذلك الخبر السيىء. المابين يحتاج، أيضاً، إلى سيجارةً لتمريره باعتباره حالة لا معنى لها سوى توسّطها بين استثارتين! ما يعني أن التدخين مستمر طوال الوقت. الوقت الوحيد الذي لا تدخين فيه هو النوم، ولكن يحصل حتى في وقت يتم الامتناع فيه عن التدخين، قسراً، أن أرى نفسي في حالة تدخين!
باختصار يمكن القول إن السيجارة تشبه (ولكن على نحو معاكس) انبوب الأوكسجين الذي يديم حياة بعض المرضى. إنها ضرع الحياة الذي لا فطام منه.. أو هكذا بدا لي الأمر الى أن جاء ‘يوم التحدي’ ذاك.. فتوقفت، تماماً، عن التدخين.
……………………………………………………
كلُّ ما ادعى ماركيز أنه لم يعرفه بعد توقفه عن التدخين ولم يمرّ به.. عرفته ومررت به حرفياً. لنتفق أنني أقلعت عن التدخين يوم الاثنين. أول اختبار كبير لـ ‘مركزية’ التدخين في حياتي كان يوم الخميس الذي أكتب فيه زاويتي الاسبوعية. يمكنني، في حالتي المتوترة هذه، غضُّ النظر عن مشاريعي الأدبية التي أعمل عليها ولكن لا يمكنني، إطلاقاً، تأجيل هذا الاستحقاق الاسبوعي. الزاوية ينبغي أن تكتب ولن يكتبها أحدٌ غيري.. الأصحّ: لا يكتبها أحدٌ غيري.
استغرقني الاقتناع بفكرة معقولة لزاوية ذلك الأسبوع، من بين عشرات الأفكار الطائشة، يومان وفي اليوم الثالث كان وقت كتابتها. بعدما كتبت عنوان المقالة ثم سطرين أو ثلاثة منها راحت مطارق من حديد تهوي على رأسي. ضربات سريعة ومتواصلة اضطرتني الى التوقف عن الكتابة ومغادرة المكتب الى الشارع والمشي فيه كيفما اتفق. المهم أن تتوقف تلك المطارق التي تتناوب على رأسي. بعدما أخذت نفساً عميقاَ أكثر من مرة وتمشيت لنحو عشر دقائق تراجعت حدَّة تلك الضربات فعدت الى المكتب. كتبت بضعة أسطر إضافية ثم عادت المطارق تهوي من جديد. تركت المكتب ونزلت الى الشارع مرة أخرى. مشيت على غير هدى. أخذت نفساً عميقاً وأنَّبت نفسي على ضعفها. شددْت أزري ، عدلت قامتي المتطامنة، سرت، كأني في مارش عسكري، عائداً الى المكتب. وهكذا دواليك الى أن انتهى المقال المارثوني الذي لا أتذكره الآن ولكني متأكد أنه أصعب (وربما أسوأ) مقال كتبته في حياتي.
يمكنكم الاستنتاج أن حدَّة المطارق تراجعت. خفَّت تدريجاً بمرور الأيام إلى أن تلاشت تماماً. هذا دأب الإقلاع المفاجىء عما هو أشقُّ من العادة: الإدمان. الأيام الأولى هي الصعبة. تَحَمُّلُ انهيالُ المطارق، التوتّر لأيِّ أمرٍ، النرفزة لأسخف سبب، العالم الذي يتراءى لك من خرم إبرة، تلك الذبابة الطنَّانة، غير المرئية، التي تقف على مقدمة أنفك إلخ.. قد لا يحصل، لآخرين، شيءٌ مما ذكرت، فالأمر له علاقة بمدى التواطؤ بينك وبينك. بين دماغك ويدك. بين نقص النيكوتين وقدرتك على تجاهل نداءاته الصاهلة في دورتك الدموية.
وعلى عكس ادعاء ماركيز زاد وزني نحو سبعة كيلوغرامات. قفز خصر البنطلون نمرتين الى الأمام. لم يعد ممكناً لي لبس معظم ثيابي السابقة. مع وزني المعتبر الجديد، وزن الوجاهة!، كان عليَّ أن ابتاع ثياباً جديدة، لكن بالمقابل لم أعد أشعر بتسارع دورتي الدموية كلما شممت رائحة السجائر أو رأيت شخصاً يدخل الى رئيته شيئاً غريباً عجيباً يسمَّى: الدخان!
راحت، تدريجاً، تلك الأيام التي لم يكن الصحو فيها صحواً حقيقياً من دون فنجان قهوة وهذا لا طعم له من دون سيجارة، وتبدَّد وهم التلازم التام بين الكتابة والسيجارة، بل بين تدوين رقم هاتف في مفكرتي واشعال سيجارة كما كنت أفعل سابقاً. لم أعد أنتظر، بتلهفٍ، شاي ما بعد الغداء.. في الواقع تراجعت ‘مركزية’ الشاي والقهوة في حياتي على ما كانت عليه من قبل، والأهم أنَّ هذين المشروبين المقترنين، طويلاً، بالسيجارة تحرَّرا من ارتباطهما بها. كلُّ ما كان مرتبطاً بالسيجارة فكَّ ارتباطه بها بمرور الوقت. ولكن ذلك لم يحصل إلا بإحداث تغيرات دراماتيكية في ايقاعي اليومي وفي نظرتي الى كثير من الأمور حولي ترقى إلى حدِّ تبني منظور فلسفي جديد، ولو من قبيل الذرائعية. صار للحياة، ما بعد التدخين، ايقاع مختلف، وخلق هذا الايقاع معه عادات ومشاريب ونكهات وتذوقات جديدة، منها على سبيل المثال:
العيش في بيت لا تشمُّ منه رائحة السجائر على بعد أمتار،
تخلّص ثيابي، شاربيّ، يديَّ، فمي من رائحة السجائر التي عشَّشت فيها طويلاً وصارت علامتها المميزة،
معرفتي برائحة الهواء من دون دخان،
شحذ حاستيّ الشمِّ والطعم، خصوصاً حاسة الشمِّ التي أتباهى بها وأدين لها بنصف شِعري،
تردّدي الى المكتبة العامة التي لم أعرف الطريق اليها يوماً،
ففي المكتبة العامة ممنوع، طبعاً، التدخين،
معرفتي بدواخل المطاعم والمقاهي وبعض الزوايا
التي كانت محظورة على المصابين بالجذام أمثالي، أقصد المدخِّنين،
سهولة سفري بالطائرات ولمسافات طويلة،
تذوقي للقهوة (من أجل القهوة لا لأيِّ سبب أخر) بكامل رائحتها، طعمها، قوامها،
عثوري على جذور مقدَّسة وقديمة للشاي، أقدم من السجائر ومن اخترعها،
فوق كلَّ ذلك: كتابتي لأهم عمل في حياتي الأدبية ‘حياة كسرد متقطِّع’ من دون سيجارة واحدة.
هناك سجائر في بعض قصائد الكتاب ولكني لست من يدخِّنها!
………………………………………………
انقطعت عن التدخين نحو خمس سنين متواصلة.. نسيت فيها السجائر وما ترتبط به من عادات وطقوس إلى أن حلَّ ذلك المساء المشؤوم الذي أصرَّ فيه بعض الأصدقاء، وقد كنا في جلسة سمر، على أن أدخِّن سيجارة.
سيجارة يا رجل مش رايح تخرب الدنيا!
سيجارة واحدة مش حترجعك ع التدخين!
شو ضعيف الارادة، خايف تدخن سيجارة واحدة؟!
قاومت بقدر ما استطعت تلك الدعوات المستهترة، لكن وسوسةً شيطانيةً كانت تهمس إليَّ بصوتها الخفيض، المغوي، الماكر أن جامل أصحابك بسيجارة. سيجارة واحدة فقط. لن تخرب الدنيا فعلاً!
كأني أقلعت عن التدخين قبل يوم أو يومين وليس أكثر من خمس سنين شعرت بتقلصٍ في أعماقي، تسارعٍ في دورتي الدموية، احتشادٍ لرغباتٍ مقموعةٍ أو محرَّمةٍ تجسَّدت في تلك السيجارة الشيطانية، الممدودة اليّ. تناولت السيجارة التي لوَّح بها أحد الأصدقاء (يا له من صديق؟!) أمام أنفي وأشعلتها. أخذت نفساً خفيفاً، ثم آخر أكثر عمقاً، ثم عميقاً ومتمهلاً إلى أن لفظت السيجارة أنفاسها. لم أعرف في حياتي خدراً، لذيداً، مديداً يتمنى المرء أن يستمر العمر كله، مثل الخدر الذي أصابتني به تلك السيجارة اللعينة. لم تنته تلك السهرة بسيجارة واحدة. دخَّنت أكثر من سيجارة. لم يكن لها نفس خدر السيجارة الاولى بعد انقطاع طويل. شعرت، طبعاً، بالندم. بل بأكثر من ذلك: بالتفاهة. وظننت أن ما فعلته في تلك السهرة لن يتكرر. بل أقسمت أني لن أعود الى التدخين مهما كانت الظروف. لكن السمَّ تسلل اليّ. رجع التلوّث إلى دمي ثانية. عاد اليه النيكوتين الذي كافحت طويلاً للتخلِّص من كلاليبه. ظلت الوسوسةُ الشيطانيةُ تطوف حولي. تشبَّثت ذاكرتي المتآمرة بتلك الأنفاس المُدوِّخة، وطردت الأنفاس الأخرى التي حاولت أن تستعيد الخدر مرة ثانية ولم تفلح.
قد يُدخِّنَ منقطعٌ عن التدخين سيجارة مثلما فعلت ولا يعود الى التدخين، بل قد يكره السيجارة ويفعسها في المنفضة بعد نفسٍ أو اثنين، فالبشر ليسوا متساوين أمام الإغراء وليسوا متساوين في الميل الى الإدمان. أنا، لسوء الحظ، شخصية إدمانية. بسهولة يمكن انجراري الى الإدمان الذي لم أعرفه، لحسن حظي، إلا في التدخين. هذا هو إدماني الوحيد. لو أنَّ ظروف حياتي وضعتني في مناخ قمار أو مخدرات لربما صرت أحد أسوأ المدمنين على هذين الداءين. أشكر ظروف حياتي، محيطي، صداقاتي الأولى التي لم تكن لها علاقة بهاتين اللعنتين الأبديتين.
لم ينته الأمر عند تلك السيجارة. صرت أمدُّ يدي إلى علب أصحاب المدخنين، ثم خلجت من هذه العادة التي كنت أمقتها في اولئك النتنين الذين ‘يُنفِّخون’ على حساب غيرهم. ابتعت نصف علبة سجائر. ثم نصف علبة أخرى. استمر الوضع على هذا النحو أياماً. لم يعد نصف العلبة يكفي. فعدت الى العلبة الكاملة.. لكن تلك السيجارة المُخَدِّرة، الأولى لي بعد انقطاع نحو خمس سنين، لم تتكرر. عاد التدخين ليصيح إدماناً. بلا طعم خاص. بلى هناك طعم التبن. هناك الاحساس بانسداد الحلق. هناك اللهاث عند صعود بضع درجات.
لا جديد أقوله عن تلك العودة غير الميمونة سوى إنني عرفت، مرة أخرى، كل ما كرهته في التدخين، فقد عاد المدخن الذي انقطع لخمس سنين مريحة، صحيّة، مثمرة كي يكبِّل كلَّ تفاصيل يومه ومعظم نشاطه الانساني بالسيجارة. عاد الى التواطؤ مع أضعف جوانب ذاته وأقلها شعوراً بـ ‘المسؤولية’.
***
لا أدري كم كنت سأستمر في التدخين، بعد عودتي البائسة إليه، لو لم يجبرني ظرفٌ صحيٌّ على التوقف. لقد قيل في صريح العبارة: عليك الآن التوقف عن التدخين، وهذا ليس خياراً. أنت حرٌّ طبعاً في أن لا تفعل ولكن تذكَّر أنك لم تعد تملك ‘ترف’ التدخين!
حدث ذلك في آذار (مارس) الماضي، وها أنذا منقطع عن التدخين مذ ذاك. ها انني اكتب هذه السطور في مقعد مريح داخل مقهى وأمامي كوب قهوة سوداء بلا سكَّر، فمن منافع الاقلاع عن التدخين توقفي، تقريباً، عن تناول السكريات الصناعية بأنواعها، وهي التي تشكل، كما قرأت مرةً، غذاء ضرورياً لدماغ المبدعين!
أقبلُ أن يتضوَّر دماغي جوعاً على أن أعود الى السكريات المصحوبة، حتماً، بالتدخين. وعلى ذكر المبدعين والتدخين فقد خطر لي، بعد قراءتي مقالة ماركيز عن اقلاعه عن التدخين، الوقوف على تجارب كتاب آخرين في هذا الصدد فلم أعثر على شيء ذي بال لكني مررت بأقوال مأثورة لكتاب وفنانين تتعلق بالتدخين أذكاها القول التالي المنسوب الى الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين: عاجلاً أو آجلاً كل المدخنين يتوقفون عن التدخين!
صحيحٌ يا مارك توين، يا مَنْ لم يوقفه عن التدخين إلا الموت!
لكن ليس بهذا أود اختتام كلماتي هذه بل بحكاية لطيفة قرأتها عن التأمل الآسيوي بوصفه دِيناً أما يشبه الِدين.
يحكى أنَّ مُريداً سأل معلمه:
هل أستطيع التدخين خلال فترة التأمل؟
فأجابه المعلم: كلا، لا تستطيع.
فرفع مريدٌ آخر يده وسأل المعلم: وهل يمكنني التأمل وأنا أدخِّن؟
نعم، ردَّ المعلم مدركاً أنَّ هذا المريد في الطريق الصحيح الى الاستنارة.

* القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *