* نذير الماجد
ثمة وباء يتفشى في أنحاء المدينة التي تخيلها الكاتب البرتغالي “جوزيه ساراماغو”، هو وباء العمى الذي يفتك بمؤسساتها وقيمها وأخلاقها، عمى يتسم بخاصية فريدة هي النقاء، أو البياض في ذروته حيث تذوب الأشياء وتتناسخ في سيرورة موازية للعدوى التي تفتك بالمدينة.
هناك عتمة في رواية “العمى” لساراماغو، لكنها عتمة من بياض، حتى الكلاب لم تسلم، فهي مصابة بداء البكاء المزمن، تبكي المدينة التي صارت نقية مثل صحراء، والحضارة التي ارتدت لأبشع همجية يمارس فيها القتل، ويصبح فيها الإنسان آكلا للحوم البشر، هذه الصورة المعتمة والقاتمة تعيدنا إلى قلب إشكالية الحضارة أو التنوير الذي يبدو هنا في موضع تساؤل، فلئن كان التنوير شعلة تنتقل وتشيع النور فإن المدينة هنا تصاب بالعمى، والبياض هنا تشكيك بالشعلة ذاتها. فهل صار التنوير في مدينة ساراماغو ومعها كل مدينة تبشيرا؟
للعثور على إجابة سأبدأ مع ابن رشد، ذلك العقلاني الأندلسي الذي قدم بشروحه على فلسفة أرسطو هدية لا تعوض للآخر الغربي، فليس لفلسفته أن تتحول إلى واقعة اجتماعية، لسبب بسيط هو نخبويته، فالرجل أراد للفلسفة أن تكون حكرا على الصفوة دون أن تتعداها للعوام، وهو يقصد بالعوام كل ما ليس بفيلسوف.
ابن رشد لم يكن تنويريا، فمع تشطير المعرفة ونخبويتها، يصبح العقل اصطفاء، والفيلسوف متوحدا، قابعا في برجه العاجي يتأمل ويشيد مملكة الفلاسفة المؤهلين وحدهم لحمل شعلة براميثيوس، أما التنوير فيؤسس ذاته على افتراض الوحدة والمساواة في المعرفة والعقل، فكل إنسان مؤهل لخلافة براميثيوس شريطة أن يتخلى عن الكسل، كما كان يردد كانط.
تترك نخبوية ابن رشد مهمة التبشير للوظيفة النبوية، فيما يستحوذ عليها كانط ويسميها تنويرا، مع الأول نلمس تراتبية وازدواجا في كل شيء، فالحقيقة التي هي مزدوجة ليس بوسعها الانتقال والتعميم إلا من خلال ازدواجية أخرى هي ثنائية العوام والخواص، والمثقف إما فيلسوف أو نبي. أما كانط فقد عزم على توحيد العقل والمعرفة وأورث المثقف وحده المشعل التنويري. لكن الإشكالية الرشدية لا تزال تراوح مكانها، لصعوبة الارتفاع بالوعي العام والذي هو بطبيعته وعي مسطح إلى متطلبات المعرفة والتنوير، المثقف الرشدي يقر بهذه الصعوبة فينسحب، لكن التنويري الصامد يجابه الإشكالية بالانغماس في تودد “العامة”، على العامة أن تقرأ، وتحارب “عدوى العمى” بنور المعرفة! وبين واقعية المثقف الرشدي وسذاجة وطوباوية المثقف التنويري، لا بد من مجابهة الإشكالية بإعادة صياغتها عبر تمييز مغاير بين التبشير والتنوير.
سأتكئ بداية على استعارة اقتصادية، إذ يقال لمحاربة الفقر: “بدل أن تعطيه سمكة علمه كيف يصطاد”. هنا ثمة سؤال مركزي يقع في قلب فلسفة التنوير، حيث يلتبس بتلك الوظائف التبشيرية التي تحيله بعد كل محاولات التنزيه إلى أن يكون مجرد وصاية، وفيما يبدو التنوير بارعا في إخفاء وظائفه الأيديولوجية، تمارس هذه الاستعارة تنقيته عبر تمييزه بصورة أشد عما سأدعوه تبشيرا، أي تلك المهام التي تفرط في ممارسات التعمية، والفارق الأساسي يتأكد هنا، بين تعميم معرفي أو دعوة فكرية معبأة بمضمون أيديولوجي فاقع، وآخر يخفيه، وهكذا صار التنوير تبشيرا معلمنا، والمثقف نبي دنيوي، والانتلجنيسيا الناهضة صفوة آخذة في الانتشار وتذويب التراتبية الأنثربولوجية والطبقية الاجتماعية.
كل هذا سيعيد الإشكالية إلى المربع الأول، فالتمييز بينهما يحجب الطبيعة الموحدة رغم تفاوت الأسماء، إنه تمييز زائف، لا يرتفع إلا عند الاستعانة بالمدينة المتخيلة. يقول سارامغو على لسان أحد شخوص روايته: ” فأن يكون البشر كلهم عميانا فهذه حقيقة فاجعة لا تقع مسؤوليتها علينا” ربما لأنها تقع على عاتق الفرد ذاته، حيث هو وحده القادر على استعادة نعمة البصر، والبصر أداة، لكن النظر رؤية، فهو إذن في فلسفة التنوير فكر، فعلى التنوير إعطاء المنهج وعلى الفرد تعبئته بمضمون فكري، أما التبشير بوصفه وصاية، فهو عند سارامغو تعمية مضاعفة، إنه إمعان في التعمية، مثل عصابة على عين مكفوفة: “وكأن عمى واحدا لم يكن كافيا.. غريب أن عصابة كالتي فوق عيني تترك انطباعا رومانسيا عند الناس”.
مع سارماغو ستتقلص الفروق بين التبشير والتنوير إلى مجرد تفاوتات وظيفية، وستقود تلقائيا إلى تفاوت منهجي رغم الاشتراك في الهدف “إعادة البصر للإنسان الأعمى” وهو تفاوت يعيدنا إلى الاستعارة الاقتصادية، فبدل الترويج لهذا الفكر أو ذاك يتوجب إشاعة مناخ مشجع للقدرة على التفكير، لن يفتح المثقف التنويري الأبواب، بل سيوزع المفاتيح، فالنور لديه ليس مستعارا كما عند خصمه التبشيري، ولكنه أصيل متفجر من داخل الذات، إنه يساعد على بناء وتكوين المنهج دون التدخل في ملئه بمحتوى فكري. التنوير في جوهره إجراء تعميمي وسيرورة تنتهي باتصال وكسر للثنائية الممتدة بين نخبة وجمهور، بين خاصة وعامة، بين مبصرين وعميان.
هناك إذاً تنوير بالمنهج وتفكير أصيل، في مقابل منهج مستعار وتفكير زائف، هناك عمى بسيط وعمى مضاعف، فمدينة سراماغو، مدينة العميان، مدينة متشائمة يبدو العمى فيها قدرا محتوما، إنها مدينة الضباب، مدينة البياض النقي والعمى المراوغ، العمى الذي يندس إلى الحياة فيحيلها إلى كوابيس، أو يقظة مضللة. العمى الخادع والذي يبدو أحيانا مضاعفا، هو حال المستهلك الذي ديدنه استعارة الأفكار والقناعات والمناهج والرؤى، هذا الشخص الكسول هو عراب الإخصاء الذهني والإعاقات الفكرية، إنه ذاك التمثال الذي ليست له عينان وعلى رأسه عصابة، أو هو الذي يرى ولا يرى: “لا أعرف لماذا عمينا، فربما نكتشف الجواب ذات يوم. أتريد أن أخبرك برأيي.. لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون”..
أهو ذاك العمى المتأصل والفطري؟ هل ثمة جدوى إذاً من تعميم المعرفة؟ أيا تكن التسمية ثمة نموذجان، أحدهما تكريس للعمى والآخر إبصار، الأول تبشير لأنه يأتي من فوق، أما الآخر فتنوير يستمد وجوده ومبرره من المدينة ذاتها، المدينة التي “لا تزال في مكانها”.
*ميدل ايست اونلاين