* فاطمة الناعوت
أخيرًا سأكفُّ عن العبث بالساعة البيولوجية التي تعملُ في رأسي منذ شهور. سأتوقّفُ عن إرغام عقاربها علي التلكؤ والتأخر عشر ساعات كلَّ يوم. سأكف عن الحياة المقلوبة: نهاري ليلٌ، وليلي نهار! سأنتهي من حساب الوقت ومعاتبة جرينيتش علي كل هذا العذاب. أخيرًا، أخيرًا عدتُ إلي مصر.
أمضيتُ الشهور الثلاثة الماضية بالجنوب الأمريكي في ولاية الذهب: كاليفورنيا. أقصي غرب الكرة الأرضية، حيث المحيط الهادي، المحيط الكهل، الذي اكتشفه الأسبانُ في بدايات القرن السادس عشر ومنحوه اسم “بحر الجنوب”، ثم أطلق عليه البرتغاليُّ فيردينادو ماجلان اسم: البحر الهادئ، عام 1521 .
شهورٌ ثلاثة، أنظرُ إلي ساعة الحائط، ثم أخصم ساعتين، ثم أقلب النهارَ ليلا، والليل نهار، فأعرف توقيت القاهرة. فالشمس تزور الشرق المصريَّ أولا، ثم تتهادي نحو الغرب لتصل حيث أكون بعد عشر ساعات، تفصل بين توقيت القاهرة وتوقيت كاليفورنيا. وما لي بتوقيت أمريكا؟! ذهني وقلبي وروحي مضبوطة علي توقيت بلادي التي لا أعرف ولا أحبُّ سواها. الساعة الآن في القاهرة الخامسة صباحًا لأنها في ساعة كاليفورنيا السابعةُ مساءً. وفي العاشرة صباحًا هنا، ستكون الساعة الثامنة مساء بتوقيت مصر الطيبة.
درّبتُ نفسي علي الحياة المعكوسة طوال الشهور تلك. أسهرُ الليلَ الأمريكيَّ لأعيش نهار القاهرة. وحين ينام المصريون ليلا، أنام نهار الأمريكان، فأنفصل عنهم بالمكان والزمان، لأن مكاني وزماني معقودان بناصية القاهرة. طقسٌ شاقٌّ عليك أن تمارسه بفرح، كي تخفّف من آلام الغربة وفراق الوطن.
حين اعتصم الثوّارُ أمام الاتحادية، كنتُ أسهر عليهم. أطلب لهم البطاطين والمياه عبر “تويتر”؛ فيستجيبُ أهالي مصر الجديدة الطيبون. وحين تم الاعتداءُ عليهم، أوجعتني كل وجيعة أصابت كل ثائر ضحّي بأمنه كي يحرر بلاده من لصوص البلدان والثورات. ضربني الرصاصُ الذي أسقط الصحفي النبيل “الحسيني أبو ضيف”، كما ضرب كلَّ مصريّ ومصرية. وأدمت جسدي السياطُ التي أدمت جسد “مينا فيليب” ورفاقه عذابُ المغترب عذابان، في لحظات قهر الأوطان. عذابُ تعذيب الوطن، وعذاب لوم النفس علي البعد الاضطراري. كان عليّ المكوث أكثر بأمريكا، لأنني لم أكمل علاجي هناك. لكن أوجاعَ الغربة أعسرُ من أوجاع الجسد. فاخترتُ الوجعَ الأيسر وعدتُ لأقف مع أشقائي علي باب 25 يناير، يوم العملية الجراحية الصعبة التي ستخوضها الأمُّ لانتزاع الورم السرطانيّ.
أخيرًا دخلتُ بيتي. النباتاتُ تتلفّتُ لي وتنظر إلي حقيبة السفر بعتاب! بعضُها حيٌّ وبعضها اختار أن يزيّن الجنةَ للراحلين. القطط كبرت جدًّا. يبدو أن أسرتي كانت تعوّضها عن فراقي بمزيد من الطعام حتي توحّشت وازداد الشعرُ كثافة وطولا. ساعة الحائط الخاصة بأمي معطلة؟! ألم أخبركم أن في صوتها يسكن صوتُ أمي؟ وأن في صمتها تأكيدًا علي رحيل أمي، هي الحقيقة التي أرفضُ تصديقها؟ لا تتركوا الساعة تتوقف عن الرنين كيلا يصمتَ صوتُ الأمهات اللواتي يتركن طفلاتهن ويطرن إلي حيث تطير الأمهاتُ ولا يعدن أبدًا.
ها هي تعمل من جديد، العقاربُ الفضيةُ تدور، وحركة الثواني تُصدر “التكتكة” المحببة، والبندول يروح ويجيء ليملأ البيت بالونس والنور. أمي تملأ المكان من جديد، وتجول بين الغرف لتشيع الدفءَ والمحبة.
الساعةُ الآن الثانية عشر ظهرًا، أي العاشرة مساء في مصر. تبًّا! أنا الآن في مصر! توقفي أيتها الحسابات في رأسي. أريحيني واستريحي. الثانيةُ عشرة ظهرًا تعني الثانيةَ عشرة ظهرًا. النهارُ يعني النهارَ، والليلُ يعني الليلَ، والعصرُ هو العصرُ. يا زمانَ مصرَ عدْ إليّ. فلا زمانَ إلا زمانُك. ولا مكان إلا مصر. ولا دفء ثمة، إلا دفء هذه الطيبة التي نهجرها كمدًا ونعود إليها فرحًا. عاد الزمانُ إليّ، وعاد المكان. فمتي تعودُ مصرُ التي أعرفها؟ وحشتيني، أوي يا مصر!
* شاعرة وأديبة من مصر