1 .لوحة مفاتيح ذكيَّة في سَرنديب
(اعتذار مُتأخر إلى والت وِتمان)
‘إلى أين نذهب، والت وِتمان؟ الأبوابُ ستُغلَقُ في مدى ساعة.
إلى أيِّ طريقٍ تُشيرُ لحيتكَ الليلة؟’.
آلَن غينسبرغ
بعد إدماني الحواسيبَ النقَّالة يا شيخي والت وِتمان
قرَّرتُ العودة للكتابة بقلم رصاص، دونما اكتراث لضربات
الآباء السّرياليِّين اكتفاءً بثيمتين ثمينتين بسيطتين:
امتداح صرير أقلام الرَّصاص
وطقطقة الآلات الكاتبة التي استخدمتَها
مثلما فُجِعنا بانقراضها السَّريع بُعيد مُنقلب الألفيَّة الثالثة
برغم أنني ورثت واحدةً من أبي لأتلذذ أيَّام الشباب
بطقطقة مفاتيحها
راقناً قصائد عموديَّة كنتُ أقلِّد فيها الشعراء الجاهليِّين.
بيد أن الحواسيب النقالة أضحت زاداً ومؤونة
لا غنى عنهما في الحِلِّ والترحال..
وبسببها عادت محاكم التفتيش من جديد
وصارت كِلابُ المطارات البوليسية تتشمَّمُها
بعد أحداث 11 سبتمبر، كأنها ‘تولات’ حشيش مُهرَّبة
من العالم الثالث إلى فراسة قصيدةٍ كُتبت لتقريظ
قصيدتي ‘أميركا’ و’عُواءِ’ حفيدك آلَن غينسبرغ
بعد أن هبطتُ، ذات صباح، من طائرة كانت في طريق العودة
من أرخبيلات فراديسها المُعتقة إلى مسقطها هذا
لأبصر في لؤلؤة العودة نجمةً تلألأت سلفاً في عيني صديقي
البدويّ في الرِّمال
بعد أن تركنا خيمته وناقته الرُّعبوب لنمتشق واحدةً من
سيارات الدفع الرُّباعي في رحلة صيد
لأرانب الكلمات المُخاتلة.
(تماماً كما فعلتم في عصركم، حين تركتم أحصنة رُعاة البقر
وامتشقتم صفير القاطرات البُخارية).
بيد أنك لا تعرف يا شيخي، لا تعرف خيانتي لك وللمُتنبِّي
الذي ربما تناهت إليك أخبار سيفه وقلمه
في بوادي العالم الجديد
ذاك الذي كتب قصائده على غُرَّة حصانه الملأى بالفراشات
كلحيتك الكثَّة بفراشاتها التي أُسْطِرَتْ في أنطولوجيات
الشعر الامريكي بعد رحيلك عن هذه الفانية.
***
نعم، نعم طلقتُ الحواسيب عودةً لبساطة الكتابة بقلم رصاص
‘لأنَّ في الخمر سِرّاً ليس في العِنب’
لكنَّ رَبعي المُتربِّعين في مقاهي الفيسبُوك أغروني مُؤخراً
باقتناء حاسوب التفاحة اللوحيّ
برغم يقيني بلا جدوى تفاحة مقضومةٍ سلفاً
ولا بآخر بدائل سامسُونغ اللوحيَّة المُنافِسَة
)لا سيَّما، بعد رحيل ستي’ جُوبز(…
وحين تعلَّلتُ بفشلي الذريع في استخدام
لوحة المفاتيح المُنزلقة تلقائيّاً
من الشاشة لم يقتنع الرَّبعُ؛ فقالوا يأساً مني ومن قلم الرَّصاص:
‘لا بأس أيُّها الشاعر المُتفنِّق في جاهليَّته الثانية
سنؤازر حاسوبك اللوحيَّ بلوحة طباعةٍ ذكيَّة تنقسم نصفين، دونما حاجةٍ بك لقضم تفاحة ستي’ جُوبز في مُخيخ مُخيِّلتك التي عَشَّشتْ فيها عموديَّات المُتنبي مدَّاح المُلوكِ والعبيد ذاك…
خذ لوحة المفاتيح الرَّقيقة هذه وضعها بعد طيِّها في جيب قميصك كأيِّ هاتف نقال بعد عودتك من خيمةِ صديقك البدويِّ الذي ترضعُ حليبَ ناقتهوامض في رحلةٍ إلى هاواي أو إلى واحدةٍ من جُزرك العذراء التي لم تكتشفها بعد’.
***
هكذا عدتُ لاستمراء قيلولات ساحليَّة
في رحلةٍ إلى سَرنديب أتمرَّن خلالها
على إجادة استخدام لوحة مفاتيح البلوتوث
تحت نخلةِ جوز هندٍ باسقة
جعلتني أصدِّقُ وأكذِّبُ ما أخفاهُ بيتُ
أبي عُبادة الوليد بن عُبيد:
‘يُخفي الزُّجاجَةَ لونُها فكأنَّها | في الكَفِّ قائمةٌ بغيرِ إناءِ’
لأعود بعد تلك القيلولات السَّاحليَّة بقصائد نثر وقصائد عموديَّة أتسلى فيها بوَصف الرَّشأ الغُلام والرَّشأ الغُلامَة، فضلاً عن كتاب رحلات يُحاولُ عُكَّازاه بَختَرَةَ مفاتن جزيرة سريلانكا، واصِفاً (كأنني البُحتري) حقول الشاي ومعابد بُوذا وحديقة بيت محمود سامي البارودي الذي نفتهُ حماقات الإنكليز الكولونياليَّة إلى نعيم ذلك الفردوس…
مُتقهقِراً عن مدائحي الرُّومنسية للآلات الكاتبة وقلم الرَّصاص
الذي تعوَّدتُ سماع صريره في ‘أوراق العشب’
التي خُنتها كما خنتُ حصان المُتنبي
لأتركه وحيداً في براري البرابرة.
هكذا، هكذا بضغطةِ زِرٍّ على لوحةِ مفاتيح
مطويَّة في جيب قميصي.
2. المُصطفى
تُنشِدُ أثوابُنا مَدائحَهُ | بألسُنٍ ما لهُنَّ أفواهُ
إذا مَرَرْنا على الأصَمِّ بها | أغنتهُ عن مَسْمعَيهِ عَيناهُ
المُتنبِّي
يا مالئ الدُّنيا ويا شاغلَ الناس:
اصطفيناك في آخر الزمان؛ لا لمُطوَّلاتِك
التي أعيتنا الحيلةُ فيها
ولا لمدائحكَ في هذا وذيَّاك من نُبلاء العبَّاسيِّين أو أوغادهم
بل لبيتين قَدَحْتَهُما بزناد الفنتازيا
بأذُنيه يراهُما الأعمى وبعينيه يسمعهُما الأصَمُّ
حتى إنَّ الشعراء السّرياليين
)بألسُنٍ ما لهُنَّ أفواه) انتسبوا
واحداً بعد الآخر لمُعجز أحمدَ الفتَّان بعد أن هداهُم
إليه أندريه بروتون على ضِفاف ‘السِّين’ في مكتبة شِكسبير
ليضربوا عرض النَّهر بلاهوتِ مُعجزاتٍ
مَسكوبٍ من فمِ الرَّب.
3. فأس التشذيب هذه..
‘لا أهتم بالقوافي. من النادر أن تجد شجرتين، جنباً إلى جنب، مُتساويتين’ .
فرناندو بيسّوا
تعليلك بديعٌ ومُقنِعٌ يا شاعر اللاطمأنينة
مُقنعٌ وبديعٌ تعليلك العليلُ هذا؛ لأقتفي خُطاك
مُطمئنّاً في الوصول عارياً
إلى عُذوبة نهر الخطيئة الدفَّاقِ بكمالِها؛ بيد أن الكلمات
تخذلني أحياناً
لتصطفَّ تلقائيّاً في قوافٍ بعد أن تزنَ أمواجَ بُحورها
في ميزان فَراهيديٍّ معطوب؛ لولا عمليَّات قيصريَّةٍ
يستمتعُ أتباعهُ
بإجرائها مجاناً في مُستشفيات الطُّمأنينة.
قد أخذلُ الخليل بن أحمد، قد أخذله لكنني لن
أخذلك في هذه القصيدة
فالعلاقةُ بين الشجرة والفأس
ليست جَبريَّة دائماً
لذلك سأرتاح اليوم بين شجرتي الأمثولة
لأتشرَّبَ قهوةَ التَّعليل
وقريباً، قريباً سأتخلَّصُ من فأسِ التشذيب هذه.
4 . وَثَن
‘مِمَّن قال الشِّعر من أهل عُمان في القرن الثالث عشر من الهجرة الشيخ العالِم الكاتب النبيل الفصيح القاضي أبو الأحْوَل سالم بن محمد بن سالم الدَّرمكي الإزكوي، وكان مُعاصِراً للسيِّد الهُمام حمد بن سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد. قال المؤرِّخ ابن رزيق إن السيِّد حَمَد هذا طلب الشيخ سالم من بَلدِهِ إزكي وأقرَّهُ ببلد بركا، وفوَّض إليه الكِتابة بين المُسلمين والأحكام الشرعيَّة وأمَرَ أن يُبنى له بيت خارجاً من السُّور؛ فلما كمُل بناؤه أفعَمَهُ بالأرز والتَّمر والسُّكَّر والصناديق والأواني وغير ذلك، بغير عِلم من الشيخ سالم. ولم يُخبر البنَّائين ولا غيرهم عما أضمَرَهُ بشأن هذا البيت، ثم أرسل إلى أهل الشيخ [يقصد أهل الشَّاعر أبي الأحوَل] أحداً من أهلِ الرِّكاب ومعهُ كِتابٌ يستدعيهم للوصول إلى بركا، ونسَبَ الكِتابَ من الشيخ [أي الشَّاعر الدَّرمكي]، وأمَرَ مَن أقرَّهُم بالبيت إخبارَهُ متى وصلَ أهلُ الشيخ، كما أنه أخبر حامِلَ الكِتاب أن يُنزلَهم فيه، وأن يُخبرَه متى وصل. فلما وصلوا وأخبروا السيِّد حَمَد طلبَ الشيخ سالم ومضى به إلى البيت كأنهم خارجون للنُّزهة، فقال السيِّد حمد للشيخ سالم: هذا البيت لك، هو وما فيه، ورجع السيِّد حمد ودخل الشيخ سالم البيت، فرأى أهلَهُ وما أودعه له فيه السيِّد المذكور، فحمد الله وأثنى عليه، وشكر السيِّد حَمَد شُكراً بليغاً، فنظم له هذه القصيدة التي شاع ذِكرُها عند الأدباء، ولهجَ بها الخاصُّ والعام’.
من كتاب ‘شقائق النُعمان على سُموط الجُمان’ للأديب الفقيه محمد بن راشد بن عزيّز الخصيبي
***
‘ما بَينَ بابَي عَينِ سَعنَة واليَمَنْ | سُوقٌ تُباعُ بهِ القلوبُ بلا ثمَنْ
تَجَروا بما احتكَروا بهِ وتحكَّموا | فجوابُ من يَستامُ فيهم: لا ولنْ
المِسْكُ مِن أبدانِهم، والعُودُ من | أردانِهم، والزَّعفرانُ مِنَ الوُجَنْ
وشذا القُرنفُلِ هاجَ مِنْ أنفاسِهم | سَحَراً، وماءُ الوردِ مِنْ عَرَقِ البَدَنْ
حازوا جَمالاً لا يُقالُ له كَما… | لكنْ بهم شُحٌّ عَليَّ بهِ كَمُنْ
ومُورَّدِ الوَجناتِ سَنَّ ليَ الجَفا | مِنهُ فحَرَّمَ مُقلتي طِيبَ الوَسَنْ
شاكَى السِّلاحَ؛ فكَم بسَيفِ لِحاظِهِ | ضَرَبَ الحَشا وبرُمحِ قامَتِهِ طَعَنْ
صَنمٌ عليهِ الخلْقُ أثنوا كلُّهُم | لولا التُّقى؛ لعَبدتُ ذلكم الوَثَنْ’
أبو الأحوَل سالم بن محمد الدَّرمكي الإزكَوي
***
ما الذي أبقيتَ لنا أيها الشَّاعرُ ما الذي أبقيتَ لنا نحنُ فُقراءُ أقمارِ الله، فُقراءُ قصائد النثر، فُقراءُ السَّادة السّرياليِّين، وفُقراءُ ميزان التَّبَخْتُر المَيَّاس في بُحُور الخليلِ بن أحمد الفراهيدي…
ما الذي أبقيتَ لنا بعد هذه النُّونيَّة
التي سَحَرتْ غفوة الزمان
كما سَحَرتْ يقظةَ المُؤرِّخ ابن رُزيق
لينسجَ على منوالها نُونِيَّتين…
هذي التي هاج شذا قُرنفلها بِعَسَلِ غزَلٍ فوَّاحٍ
بمِسْكِ وعُودِ زعفران جَمَالٍ عبيطٍ
لا يُوصَف بأدوات التشبيه
بعد أن شاكى الأسلحةَ كُلَّها، بعد أن شاكاها
بسيفِ لِحاظِهِ ورُمحِ قامَتِهِ الطَّعَّان…
لنظفر نحن بما لم تظفر به أنت في سُوق القلوبِ المُباعَةِ
بين بابي عينِ سَعنةَ واليمَن
بفضل قصيدتك، بفضلها يوم أدارَ الزمنُ رَحَاهُ
يوم أدارها؛ لتدورَ به الرَّحى تلو الرَّحى
إثر رحيلك أنتَ وَالسيِّدُ المَمدوح
بعد أن لم تبقَ من البيتِ الهديَّة حتى إطلالةٌ
على أطلالِهِ الدَّارِسَة
لكنَّ مطلع أبياتِ قصيدتكَ أيُّها البُلبُلُ الصَّداحُ كامِنٌ أبداً
في بُويضاءِ النُّفوس ودشاديشِها.
بعد ذلك تَسَلَّ، واسأل نفسَكَ أيُّها الشاعر:
أيُّ صَنمٍ خلاّقٍ لأسلِحةِ جَمالِهِ أبقيتَ لنا؟
وأيُّ تُقى قد تتخلَّقُ بهِ دشادِيشُنا حين ترعوي أحياناً
وأبداً لا نرعوي عن عِبادةِ وَثنِ قصيدتك.
– شاعر من سلطنة عمان