نديم جرجورة *
عند شيوع نبأ رحيله، استعاد كثيرون تحفته السينمائية «أمبراطورية الحواس». غريبٌ أمر المشاهدين والمهتمين. غريبٌ أمر هؤلاء تحديداً، الذين تنبّهوا سريعاً إلى فيلمه هـذا، قبـل أي فيلم آخر. نسوا أنه أثار فضائح بأفلام لا تقلّ أهمية وجمالاً عن هذا. نسوا أنه سليل بيئة اجتماعية وثقافية خصبة بالمختلف والمحرّض على فهم تلك القوّة الإبداعية في تحطيم أصنام وتقاليد وثوابت. «أمبراطورية الحوّاس» دروس في فيلم واحد: في السينما والحب والإحساس والجنس. في ثقافة الجسد وتحريره من ورطة العقل أحياناً. في ابتكار لغة خاصّة لبوح حميمي موارب. في معنى السلطة المنقلبة من ذكرية إلى نسائية.
«أمبراطورية الحوّاس» (1976) فيلم بديع. لكنه ليس الفيلم الوحيد الذي وضع مخرجه ناغيسا أوشيما، المتوفّى قبل يومين عن واحد وثمانين عاماً على خارطة السينما في العالم. «فوريو» (1983) أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السينمائية والثقافية والاجتماعية. منح المغنّي الإنكليزي ديفيد بووي «أجمل دور سينمائي له». توغّل في مزيج الحرب والاعتقال والجنس والسادومازوشية، محرّضاً كثيرين عليه، وفاتحاً بؤرة واسعة على مكامن الألم والقهر والفردانية والمتاهة الذاتية. عنوانه الأصلي: «ميلاد مجيد سيّد لورنس»، قبل أن يحمل الفيلم تعبيراً أكثر تلاؤماً ومناخه الدرامي. فالكلمة اليابانية «فوريو» تعني، ببساطة شديدة، «أسير حرب». والفيلم يلتقط تفاصيل الحياة اليومية داخل معتقل وُضع فيه أسرى حرب، فانفتحت أبواب الجحيم على الجميع: أسرى وآسرين معاً. انفتحت أبواب الأسئلة كلّها، المتعلّقة بالجسد والروح، كما بالتعذيب والمثلية الجنسية والوجع الذاتي. بالإضافة إلى هذا كلّه، لم يتردّد ناغيسا أوشيما، المولود في 31 آذار 1932 في كيوتو، عن طرح مسألة «أكل لحوم البشر» أيضاً. هذا، وحده، كفيلٌ بشنّ حملة عنيفة ضدّه، انتهت بانتصار السينما، وبتأكيد المكانة البديعة لمخرج لم يُنجز يوماً المبتذل أو المسطّح. لمخرج وُصف بأنه: «محطّم التابوات» (الصحيفة الفرنسية اليومية «لو فيغارو»، 15/ 1/ 2013).
ابن فترة ما بين الحربين العالميتين، وجد أوشيما نفسه سائراً في طريق الفن السابع «صدفة»، كما قال مرّة: «من دون رغبة خاصة بصناعة السينما». «صدفة»؟ ليسوا نادرين أولئك السينمائيون العظماء، بالمعنى الحرْفي لكلمة «عظماء»، الذين رفعوا شأن الإبداع السينمائي من دون أن يُخطّطوا سابقاً لهذا. من دون أن يُخطّطوا لمسار سينمائي لهم أصلاً. ابن كيوتو، الذي عاش طفولته وشبابه مع أمه وشقيقته الصغرى إثر وفاة والده في العام 1938، درس العلوم السياسية والحقوق، قبل أن «يجد نفسه» في وظيفة «مساعد مخرج» في استديو «شوشيكو» في «أوفونا» لغاية العام 1959. في مقالته المنشورة في الصحيفة الفرنسية اليومية «لو موند» قبل يومين، كتب توماس سوتينل انه بفضل هذه الـ«صدفة»، بل لأنه لم يملك أدنى «رغبة خاصة بالسينما»، وُسِمَ مساره المهني كلّه بـ«سمة الرغبة». هذا ما جعل أوشيما، بالإضافة إلى كونه «محطّم التابوهات»، باحثاً سينمائياً دؤوباً في الرغبات، في معانيها وأشكالها وانفعالاتها وحالاتها وتفاصيلها وعوالمها وأوهامها، في مصائرها، ومصائر ناسها المقيمين فيها، والمتماهين بها، والساعين إليها. فيلمه الثاني «حكايات شبابية قاسية» (1960)، الذي جعله «رأس حربة» ما عُرف لاحقاً بكونه «السينما اليابانية الطليعية» أو «الموجة السينمائية اليابانية الجديدة»، مليء بهذا الشغف الإنساني والحياتي والانفعالي للرغبة: عن جيل شبابي محطّم وباحث عن منفذ له للتنصّل من قيود بيئة مقيم فيها.
يستحيل اختزال السيرتين الحياتية والمهنية لناغيسا أوشيما. بل وجب القول: «السيرة الحياتية المهنية»؟
4 أفلام قصيرة. 25 فيلماً طويلاً. 25 عملاً تلفزيونياً. تاريخ بلد وتحوّلات واحباطات. مشاركة فعلية في إضفاء كل جديد على تقنية صناعة الفيلم الياباني. إسراف في تفكيك الموجود، وإعادة بنائه. كشف المخفيّ في الذات، أو بالأحرى إظهار مكامنه. هذا كلّه جزء من تلك السيرة. هذه دعوة إلى إعادة مشاهدة إنجازاته البصرية.
( السفير اللبنانية )