عبد الستار ناصر *
لا فرق، أنا متأكد بأنني في الطابق العلوي، مع بعض الشك أنني في الطابق السفلي، وثمة احتمال مضحك يقول إنني في الطابق الوسطاني من العمارة 10 المرقم بابها 321 ومرة 123 وأكثر من مرة 312 ودخلت في معارك ومشاحنات مع أصحاب الشقق، يعتقدون أنني مدمن خمور أو أتعاطى نوعاً من الحشيشة مع أنني تركت المشروب منذ ثلاث سنوات واكتفيت بالسجائر والبكاء على قبور الموتى وأطلال المحبين الذين رحلوا بسرعة، والذين أمضي معهم العطل الرسمية وأيام الجمع والخميس أحياناً.
الجلوس مع الموتى يجعلني في نشوة ما بعدها نشوة أين منها احتساء الخمرة أيام زمان قبل سبعة أعوام، أعود الى سكني وأنا أذرف الدموع منذ سنوات غابرة، بصراحة، أنا أشكو من ذاكرة محروقة أذيالها، ذاكرة معطوبة، تختلط الجمعة مع الثلاثاء، يختلط الخميس مع الأحد، لم أعد الى الخمرة منذ عامين أحسبها بقسوة على جلدي، سأبحث عن مأوى غير هذا، زبائن العمارة كسروا لي أكثر من ثلاثة أسنان وخربوا حياتي طوال بقائي بينهم، بل صارت أيامي في المعسكر أرحم من المعارك معهم، والغريب أن ذاكرتي في تمام صحوها عندما أدخل في صميم الرصاص وأتمنى أن أبقى سنة أخرى حتى أموت ويكف رأسي عن الحساب، وأكف أيضاً عن الذهاب الى القبور في الزيارات أبكي وأذرف الكثير من الدموع، ها أنا في المقبرة أغسل بعض أطلال المحبين وأقرأ سورة الفاتحة وعادة ما يأتي ذلك الشخص نفسه يسألني ويقول: ماذا تريد؟ عمّن تبحث؟ والعجيب أنني أترك المقبرة فوراً، لا أحب أن يسألني أحد، المكان شاسع يمتد من باب كبير الى باب أكبر، لماذا يأتي هذا الكائن ويرمي أسئلته بلا سبب، وما بين البابين رحت أدخن سيجارة سبق أن دخنت جزءاً منها قبل قليل، ودون أن أدري كيف دخلت شقتي المرقمة 321 وهذه المرة تأكدت من رقمها، لم يعترض أحد ولم أسمع صراخ أحد، كان الممر خالياً ومظلماً، رميت جسدي على فراشي مع أنني في حالة جوع يكاد يأكلني.
مسني وسواس أسقطني عن فراشي، ضربني رجل على رأسي بعصا غليظة، كيف دخل الغرفة وأنا متأكد من أقفالها، ثلاثة من الداخل واثنان من خارجها، رأيت الشاهد الذي (مشفش حاجة) أيام كان عندي تلفزيون، صرخت بقوة قبل أن يضربني بعصاه مرة ثانية: ماذا تريد؟ من أنت؟ كيف دخلت؟ رفع العصا وكاد أن يضربني فعلاً، لكنه، هكذا لا أدري كيف ترك الغرفة دونما كلمة ورحتً بعده أقفلها وعدت الى الفراش وأنا أزداد جوعاً، الجوع الذي ينهش أمعائي ويكاد يأكلني، سوف أخرج الى أقرب مطعم لئلا يأكلني الجوع.
مشيت بين المشائين صوب مطاعم تحمينا من الجوع، لا أحد مثلي يفكر في وجبة شهية، عندي نقداً ما يكفي من (قوزي على تمن) أشهر وجبة في بغداد، جلست بين الزبائن أنتظر دوري في طابور قصير، قال صاحب المكان إن الطعام (خلص تعال غداً) ثم أوشك أن يغلق الباب، بينما كدت أبكي من الجوع الذي بات يأكلني.لا يهمني نوع الطعام، المهم أن أضع شيئاً في معدتي، فلافل، باقلاء، عنبة مع صمون، حتى لو كان عظاماً منقعة في الماء، وقفت عند فرن يعجنون فيه خبز (التفتون) على الطريقة الطهرانية، كل زبون يأخذ عشرة أرغفة أو أكثر، ثم، دون كلام أو سبب أغلق الخباز باب الفرن وأقفله من الداخل، صرخت (لماذا أغلقت الباب أيها الحمار) ولم يسمعني أحد، حتى إذا كررت (الحمار) ألف مرة، وبدأ الذعر يتملكني ويضغط على أنفاسي، ماذا يحدث في هذا العالم؟
شيء ما يحدث، أنا متأكد أن الدنيا تحترق ونحن لا نرى سوى قشرتها، على أي حال، ليس من العسير، مادامت الدنيا تحترق، أن نعثر على رغيف محروق، سمعت صراخاً خلف ظهري يذكر اسمي، أخذني الى مطعم محترم، ربما كان محترماً، وأكلت وجبة شهية وكوباً من الشاي، كوباً كبيراً على الطريقة المصرية، قال الرجل: هل شبعت؟ قلت: شكراً، بارك الله فيك، لا أدري لماذا يضحك؟ ثم عافني دون أن يخبرني عن الوجبة الشهية والشاي، وأيضاً لم يدفع الحساب وحتى لم يسأله أحد، هكذا تحدث الأشياء في بغداد، مفاجأة في بطن مفاجأة، مع ذلك غسلت جلدي ورأسي وهذا وحده ما طلبه مني الرجل الذي غاب فجأة بعد أن أشبعني بارك الله فيه.
أسمع صوتاً شجياً يقول: (يا جارة الوادي طربتُ وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراكِ) والمكان شقق متفرقة، واحدة أبعد من واحدة، غسلت جلدي بقوة كأنني أحارب في معركة، أتذكر أيامي الوسخة التي أمضيتها في الجبهة، أيام متسخة فعلاً، رماد ورمال وعادم كثيف وحشرات وزواحف وأشياء كالحة لا مثيل لها تتسلل بين الثياب وتمشي وراء الحزام وليس من أحد يصرخ، كيف تصرخ وأنت شاخص بين العدو؟ عليك الصبر مهما حدث، مات (كم) من الجنود بسبب الزواحف القاتلة؟ لا تظنني سأنسى ما جرى، بعض المقاتلين أطلق الرصاص على رأسه وأنهى حياته في لحظة، وأنا ذهبت بجثثهم، أكاد أكون مجرد جثة، جثة بعدها جثة، وأحياناً ثلاث جثث مرة واحدة تليها ثلاث جثث مرة أخرى، وأخرى، وأخرى، ولا تشبع المقبرة، سنوات وأنا أحملها في شاحنة، والشاحنة تأخذني الى بيوتهم، ومن بيوتهم الى المقبرة.
طردوني من الجيش، أعني جيّشوني من الطرد، أعني بقيت هكذا، أذهب مع الجثث الى البصرة إذا كان أهل الجثة من البصرة، وأذهب مع الجثث الى السماوة إذا كان أهل الجثث في السماوة، الجثث لا تناسبها الحقائب، في البداية بكيت مع أهل الشهيد في الحلة والصويرة ونينوى والناصرية، وبعد عامين رحت أعطي الجثث دون مواساة، لم أصدق عدد الجثث التي أعطيتها الى أهلها، لم أصدق كمية العويل والبكاء وتمزيق الأجساد، لم أصدق ما رأيت، كنت أنسى نفسي وأصرخ معهم، حتى جيّشوني من الطرد، أعني، معذرة، طردوني من الجيش مع نوط (جبان) مازلت أحمله على صدري، ممنوع رميه مع الفضلات، لكنني يوم رميته في المزبلة غضباً عليه، جاءت جمهرة من الجندرمة والشرطة السرية أحاطت مسكني وأنزلتني بقوة أمام الناس تضرب شمالاً وشرقاً حتى لم أعد أشعر بأي أذى، أريد أن يأخذوني الى غرفتي، فقط، أريد أن يأخذني أحد من الناس الى غرفتي، لكن الشجاعة صارت عملة نادرة، وبقيت هكذا حتى الفجر، شعرت بمن يحملني ويرميني على فراشي، وبعدها رأيت نوط الجبان في مكانه ولم أعد أمد يدي اليه، أخفيته بطريقة شيطانية، مرة بالثياب الرمادية التي تشبه النوط، ومرة إذا نزل المطر وهبت العواصف، ومرة أبقى أطول ما يمكنني من الوقت في البيت، أي حياة أعيش؟ مطرود من الجيش، ممنوع من السفر مادمت أحمل أسوأ نوط، الدنيا عجيبة وبالنسبة لي هي أغرب مدن الشيطان.
لم أفهم ولم أسأل من أخذ التلفزيون من غرفتي؟ لم أعرف لماذا يتغير رقمها، أنا في الرقم 321 وبعد ذهابي الى مشوار عسكري بين مئات الجثث تراني في الغرفة 123 وبعد سنوات الحرب رجعت الى الغرفة 312 وكان التلفزيون قد عاد أيضاً، من ترى يلعب معي لعبة (عسكر وحرامية) وقد شبعت منها في طفولتي؟ أضحك على طفولتي، أضحك على شيء لا وجود له، أنا طفرت الى الصبا مثل حصان، مثل غزال، مرة قفزت كما النمر ومرة مثل سلحفاة، لكنني لم أعش الطفولة حتى أتذوق معناها، مع هذا شبعت من العسكر وشبعت من الحرامية.
أبكي دائماً على قبور الموتى بالمناسبات الدينية، وأبكي دائماً على أطلال المحبين في أيام الجمع، وعلى الجثث التي أخذتها في الشاحنة العسكرية الى أصحابها، وها أنا أشبه ما أكون بالمتسول أو البهلول أو القرقوز يضحك مني (الرايح والجاي) وهم مستغربون بكائي وعويلي على من؟ البعض يضحك ويرمي شيئاً من النقود، البعض يتقدم نحوي يسألني هل أحتاج الى شيء؟ وأنا لا أفعل أي شيء سوى البكاء على الموتى والمحبين، واليوم ذكرى رحيل أجمل أصدقائي، فماذا يمنعني من ذرف الدموع إذا كان أحب الأصدقاء قد رحل؟
أخفيت قنينة خمرة قلت سأشربها في آخر الليل، لكن الليل لم يأت هذه المرة، كيف يتأخر الليل؟ على كل حال أستطيع أن أدخل في ماء دجلة وبين لحظة وأخرى أحتسي شيئاً من الخمرة، معي في جيب المعطف بعض الباقلاء المطبوخة وفي الأيسر شيء من الطماطة الحارقة المنقعة بالزيتون، من يراني لا يعنيه أمري، وأنا لا أعبأ بأمر أحد، دخلت النهر بثيابي العسكرية السميكة، كان البرد يسخر مني، نحن في الشتاء، والناس قابعة في مساكنها ويمكنني أن أشرب وأنا في الطريق أو في مسكني، وهذا ما فعلته أخيراً، وبعد وقت ليس بالطويل بدأ الصراخ، صراخ من كل مكان، طرقوا بابي، لكنني لم أعبأ بهم، ماذا يريد هؤلاء؟ لم أشرب لكنني أتهيأ، بينما الضرب على الباب يزداد قوة، أنظر الى كأس الخمرة والى الطماطة الحارقة المنقعة بالزيتون وكذلك الباقلاء نظرة عاشق ولهان عاف عشيقته من زمان بعيد، وأسمع الصراخ، الليل هذه المرة جاء بسرعة، بينما تأخر كثيراً فيما سبق، حتى الطبيعة تحاربني في حياتي وتسخر مني، سأذهب وأفتح الباب ، ربما أخطأت في العنوان ودخلت غرفة إنسان آخر غيري.
اقتربت من الباب، ليكن مايكون، سأفتح الباب وأمري الى الله، مددت يدي وفتحتها، الممر لا أحد فيه، ليس من أحد خلف بابي، معقول؟ رجعت الى الباقلاء والطماطة والخمرة التي عشتها من سنوات، أسمع صوتاً عذباً يقول: يا جارة الوادي….. وغفوت عليه حتى الصباح كمن ينام في حقيبة….. ما يشبه الأحلام من ذكراكِ
في الصباح، فتحت باب الشقة، الشقة التي رقمها 321، الرقم الذي يتغير بمرور الزمان، الزمان الذي لا أعرف عنه أي شيء غير البكاء على قبور الموتى وأطلال المحبين، الذين أحملهم على ظهري الى شاحنة الموت وأعود وحدي مع رائحة الموتى التي تبقى في الشاحنة، أقطع المسافات في الشاحنة المرقمة 123 وأدخل بالرائحة نفسها، أغسل جلدي بقوة وأرجع الى مكاني، وهذه المرة في الغرفة 312 ودائماً يبدأ الضرب بالصوت حتى يحمر جسدي، وفي كل سوط أسمع صوتاً عذباً شجياً يقول: يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراكِ…. ولا فرق عندي، الآن، إن كنت في الشقة 321 أو الغرفة 123 أو السرداب الذي رقمه 312 أعيش بذاكرة مدهشة أو بذاكرة معطوبة، بطعام بائس فقير أو بطعام لذيذ، بمقبرة خالية من البشر أو بمقبرة مزحومة بالموتى، المهم، أن الحرب قد انتهت!
* أديب من العراق يعيش في كندا
( الدستور الثقافي )