جوخة الحارثي*
قبل أكثر من أربعين سنة، اقترحتْ زوجة جدي، على ربيبها، أبي، أن يتزوج أختها الصغرى. أرادت زوجة جدي أن تضم أختها الصغرى اليتيمة التي من عمر بناتها إلى جناحها، وأن تصنعها على عينها، فعرضت على ابن زوجها، الشاب الحائر، أن يتزوج من أختها، وهكذا تزوج الأب وابنه من أختين، أولاهما خالتي، زوجة جدي، والثانية أمي، زوجة ابنه، أبي.
انفتح ممر داخلي بين بيت أبي وبيت جدي، وخالتي -زوجة جدي وأخت أمي- متربعة أبداً على عرش الصالة في بيتها، تعرف عدد الشياه في المرعى، ولون الملابس الداخلية لبناتها، ومرمى النظرات لأبنائها، وعدد حبات الأرز في مطبخها، ونوع القماش الذي سترتديه غداً خادمتها.. تعرف كم جراباً للتمر ستبيع هذا الصيف، وكم فقيراً ستُطعم هذا الشتاء، وماذا ستقول لخاطب ابنتها الوسطى الذي تبين أن أحد أجداده البعيدين به عِرْق مدسوس.
على غفلة من ثلاثينياتها مات جدي، وفي خلسة من أمومتها اختُطِفَ رضيعها، بكت هذا وذاك، واشتدت عزيمتها. جاءها الخاطب الجديد فأوقفته في حوش البيت، وقالت له: «انتظر حتى ترى جوابي». فوقف الرجل وهي تملأ كفيها بالتراب، حثت التراب عليه، وقالت: «هذا جوابي لمن ظن أني سأكون لرجل بعد (خليفة)».
هذه خالتي، وجدتي، فاتحة ينبوع الحكايا في رأسي.
سهراتها تضم دوماً صديقاتها الأثيرات، ورجلاً عجوزاً يُشاع أنه جاوز المئة يأنس أحياناً بصحبتهن، وأنا أو إحدى أخواتي.. هناك الشاي والقهوة وأقراص الخبز المرشوش بالسكّر الخشن، ومشاكل السكّري والضحك على الدنيا والسخرية من الزمن، وهناك آلاف الحكايا، لا تبدأ الحكاية حتى تنتهي، ولا تنتهي حتى تدخل في حكاية جديدة.. أجداد غابرون وجيران حاضرون، أولياء تنفتح لهم طاقة ليلة القدر، وشهداء تسيل دماؤهم حتى البحر لتصبغه أربعين ليلة، كهول لاهون بالمتع العزيزة، وشيوخ مؤاخون للشياطين والجن، نساء يطرن على أجنحة بالليل ويجدن أنفسهن في فراشهن في الصباح، ورجال يهيمون في الصحراء فراراً من رعب الحياة فتؤويهم الذئاب، أطفال يولدون ويموهون لتضليل الموت، فلا يضل طريقهم، وبنات تزهر من أجسادهن المدفونة ظلماً شجرات النبق، فتاة تبكي أخاها أربعين سنة فتُمسخ بومة، وبومة تزور القبور لتتحول فتاة، عشاق تأكل النسور لحومهم وتشرب الطيور دماءهم في الطريق إلى المعشوق، ومعشوق لاهٍ بخليله عن عاشقه.
لكن بيت خالتي خبأ لي كنزاً آخر غير الحكايا: أتخيل الفتاة الصغيرة، بالكاد في الثانية عشرة، تستحمّ في الفلج، ثم تسرح شعرها على عجل، وقد نجا أخيراً بطرحته من مقص خالتها الدائم، ولا تملك مرآة، فلم تنظر لنفسها أبداً طوال سنوات مراهقتها، ولكنها تملك مرآة العالم، فقد عثرت على الكنز! كان لبيت خالتي حوشان، مثل بيتنا، ويضم الحوش الثاني حظيرة مهجورة وغرف مخازن مغلقة غالباً، لا أعرف كيف دخلتُ مرة في غرفة المخزن الوسطى فاصطدمت بمكتبة كاملة، أرفف وأرفف بلا نهاية مغطاة بالكتب والغبار، مجموعات كاملة لأرسين لوبين وأجاثا كريستي ونجيب محفوظ وروايات عبير الرومانسية وموسوعات عجائب العالم، كتب مختلفة تماماً عن الكتب التراثية المجلدة الفاخرة في مكتبة بيتنا، كتب غير موسوعات الفقه والعقيدة ودواوين الشعراء القدامى ومطبوعات وزارة التراث من كتب التاريخ التي كانت توزع مجاناً للولاة، كتب مخزن خالتي ملأى بالقصص والروايات وأدب الرحلة والأساطير، ربما جلبها الأبناء من رحلات للقاهرة أو جولات في مسقط، وربما نسيها الأصدقاء في سهراتهم، ثم انتهت في إهمال المخزن، أما أنا فهناك تمركزت كعبتي طيلة سنوات، بين صناديق التمر المخزن للشتاء، وشوالات الأرز والطحين وقارورات السمن والحبال والمعدات القديمة، وسط الغبار والظلام، هناك حجي: أتسلل بخفة، «أستعير» كتاباً أو كتابين، وأرجعه في اليوم التالي لأستعير آخر، مع أن أحداً لن يفقد شيئاً لو أخذت المكتبة برفوفها إلى غرفتي.
فتحت عيني فوجدتُ خمسة عشر عاماً قد مرت مر السحاب، أنا في السابعة والعشرين في أبعد بقعة في العالم عن أمي وخالتي والفلج والحكايا والعقاد والرافعي ونجيب محفوظ، أرى بعين خيالي خالتي في عرشها الأسطوري في صالة بيتها، حولها الأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات والصديقات، قد نال السكري والقلب من جسدها الفاره وضحكتها المجلجلة الصافية، ولكنه لم ينل من سخريتها وروحها الخارقة. وأنا أتصل بها، ألاطفها بطلب الزيارة، فتسخر مني، وتزعم أنها لو لم ترَ شمس بلادها يوماً واحداً ستموت، ولا تعرف كيف أتجمد أنا من الصقيع والملل والحنين في أسكتلنده، قد تولعتُ بأطروحتي للدكتوراه ثم كرهتها، وصادقتُ البشر ثم تركوني، طفلتي تركض وراء أي شيء في حجمها ولو كان جرواً لشدة توقها للعب مع أطفال، والأمهات يذدن صغارهن بإصرار عن الطفلة الغريبة، أو يمنحن الوقت المقطر المحسوب، وأنا التي قضيت كل طفولتي في حشد من الجيران والأقارب نلعب منذ الصباح حتى المساء، ربيتُ الغربتين بداخلي: غربة المكان وغربة اللغة.
أسير في الشوارع الأثرية لأدنبرة، ولساني لا تعتدل لكنته، وطفلتي لا تخفت وحدتها، تاريخي بعيد، ولوني قاتم، وحين أصعد إلى مكتبي في الطابق الخامس لبناية بلا مصعد عاش فيها «والتر سكوت»، أخبط رأسي في الجدار حين تتدفق كل الكلمات في رأسي وتعجز عن الدخول في اللغة الأخرى.
قلت لأمي في الهاتف: «هذه المدينة فاتنة، قد حفظت مسارحها ومتاحفها وحدائقها»، وقلت في نفسي: «إن لم أستحم في الفلج مرة أخرى سأموت اختناقاً، إن لم أرَ خواتم أمي وأقبّل حناء كفيها سأموت حسرة»، قلت لأمي: «دراستي تتقدم واللغة جميلة»، وقلت في نفسي: «إنني أشبه شيء بالمتجول على كرسي المقعدين، أنا بلا لسان، أنا معاقة».
عدتُ للشقة الباردة الصغيرة، واختبأتُ تحت السرير، عبثاً حاول زوجي إخراجي، أخبرته أنني في كهفي، يجب أن أعود لرحم أمي، يجب أن أولد من جديد، بلا إعاقة، بلسان يفصح عما في رأسي، حتى أستطيع العودة للحياة. أنا أتنفس لغتي ولكني محرومة منها، ومهما توغلت في اللغة الأخرى أحس بالحرمان، أريد أن أظل في كهفي، في رحم أمي، في صالة خالتي وغرف المخزن التي منحتني الكنز.
هكذا وُلدت «سيدات القمر»، روايتي. كانت الكتابة هي الرحم والمخزن واللسان المقطوع، أفرغ من أطروحتي، أنيم طفلتي، وأدخل في الرحم السري الذي سيمدني بالحياة ويدفئني لأتحمل الصقيع، كتبتُ فصلاً وراء فصل، أستلهم الصور البعيدة، والألوان الصاخبة، والحكايات القديمة، والعلاقات المعقدة، وأعيد تشكيل كل ذلك بخيال لا يُحَد، وأمل لا ينتهي في إيجاد عالم داخل العالم، وحياة موازية للحياة، في القبض على ينابيع الدفء وإيداعها الورق، في الاتصال بروح الفلج وسر النخلة وعظمة اللغة التي عذبني حبها..
هكذا كتبت روايتي، أضواء «الكريسمس» تلوح من النافذة والثلج يغطي إفريزها وأنا أستحضر الصحراء وأرواح أجدادي الشهداء، الناس يهرولون بالمعاطف وأنا أُلبِس الطفل أحمد الراكب على كرب نخلة، الدشداشة الخفيفة والحروز الحارسة من سطوة الموت، جارتي تدعوني لشاي العصر في بيتها فاتح اللون وأنا أغوص في غرفة خالتي بصبغها القاتم وروازنها المليئة بالأواني الأثرية، الراديو يبث الموسيقى الأسكتلندية الشعبية وأنا أترنم بالأمثال مع «ظريفة»، وأردد الأهازيج مع «عبدالله» و»منين».
تصالحتُ مع غربتي، أحببتُ أدنبرة حين أعطيتها لغتها في الدكتوراه ومنحتني لغتي في الرواية، وأحببتُ شخوصي، بكيتُ لآلامهم وضحكتُ لمزاحهم.
نجمتان تحرسان روايتي ولهما أدين بالبئر الأولى: أمي، وخالتي التي هي جدتي، التي ماتت في السنة التي صدرت فيها روايتي، قبل أن أعطيها كتابي، قبل أن تسألني كما كانت تفعل دائماً ما الذي استفدته من كل هذه الكتب وألم يكن من الأجدر بي إنجاب المزيد من الأطفال؟
* قاصة وروائية من عُمان
( الرأي الثقافي )