إنَّ الحياة التي تبحثُ عنها لن تجدها


حسن دعبل *


فرش المنام ومخدَّتهُ أنيستي في رقدةِ البيت، رداءهُ وكساءهُ، وأنا أسبح في رائحةِ الدّواء والعرق الذي غسل بدني، ولوّن مخدتي. وهو يصبغُ غطاءه ويُطهِّرُهُ من غيابي. تلك أعراضٌ طارئة أتذكرها، وأنا سادر في الليلِ والصمت، ورائحة الحبوب، وهول مُركَّبِه الكيمياوي.
يعافني النوم. خشنة جفوني مِن جزعتها. وهلع الحبوب التي تناولتها قبل رقدتي اليقظة، وتخلص جسمي من جرعة المُخدر الذي سافر بي إلى برزخِ الرُّؤى. أتلحّفُ بالصمت وزمهرير الشِّتاء، وطول ليله ووحشته. أنتظر غدي المُشرق بسقطةِ الشَعر من جسدي، وهذا ما زاد من جزعي وهلعي، وقلة ثقافتي الطبية عن كيفية علاج الأمراض السرطانية، والتي لم أعرف أنواعها – إلا لاحقاً ـ ، حيثُ لايتم علاجها إلا بالجُرعاتِ أو الجلسات الكيمياوية، والتي تُسقِطُ شعر الرأس والوجه، وتغير سحنته وتقاسيمه. زاد بي الهلع وتعرق الجسد مرةً أُخرى،
سافرتُ في الصمت والذهول والليل وأزيز الألم.
أخذتي الرُّؤية إلى فراديس الغياب. أتذكرُ الأسماء وتغيب الصُّور. عن أصحاب وزملاء، زرتهمْ في أسرّتِهم، وهم يرقدون بأبدية العزل والعذاب، داخل غُرفٍ معزولةٍ عن زُوّارها، زُرعتْ عليها علامات التحذير الطِّبية، مُلصقةً على أبوابها. أُلوِّحُ من البعيد، عبر زجاجٍ يبعدك عن الصوتِ والوجه والجسد وصرخة الروح.
أرى وجهي وقد تساقط شعرُ رأسي، وتساقطتْ رموشي، وحواجبي. أرى العينينِ مزروعتين من غير رماحها الجُفون في دائرةِ الوجه، وهو يهجرُ ضفافه ونهره الصافي، وقمرهُ المُضيء. أرى وجهي هيمَةً موحشةً قاحلة. جفَّ نهرهُ وضفافهُ، وتساقطت أوراق شجره، وسعف نخيله، وبقيتْ الجُذوع. أرى جسدي ضامراً هزيلاً، عطشاً أصفر اللّون.
روحي صفصافة وحيدة في صحراءِ العطش.
غسلت النّعاس بالخوف والأرق، وأنا أتحسّس الوجه. أُحدِّقُ ملياً في المرايا. وأنا أرش الماء على وجهي. أطيلُ النظر بانطفاءٍ، إلى إحمرار العينين وغياب بريقهما. أتثاقلُ بالجُلوسِ مصطنعاً الطمأنينة، وأنا أتناولُ ماتقدمه زرجتي لي من فطورٍ قبل تناول الدّواء. أتناولُ الكيس وهو يحفظُ بلسمي، أقرأ تعليمات العلاج مُلتهماً حبتين بغمضةٍ، ومُسرعاً بحبةٍ أُخرى تميل إلى بياض اللون، تلحقُ في سفرةِ ما قبلها في نهر الألم.
منطفيء وذابل في الصمت. أُطيلُ النظرَ في الفراغِ والغيم الذي أحبهُ فيما ما مضى، ولون الشِّتاء، وهو يهزُّ الجسد بلسعاتٍ رجفة، تساقط أوراق حنينه، وتغسلهُ من حرقة الصيف وعطشه. أوَّل الحسرة والغياب تعاودني، وأنا أتغرب بوجعي، في بيتٍ فُرش بليالٍ وأحلام وآمال، وبنات وزوجة وعصافير وغناء.
منطفيء، أتثاقل بمشيتي. أحمل كيس أدويتي. أتهادى في مشيتي لأزرع جسدي على كُرسيٍ وطاولة وأوراق مرسومةٍ بأسود وأزرق أقلامي، وهي مطروحة على بياضِ الورق. أتحسس جهازي ‘اللابتوب’، أو حاسوبي المحمول، هذا الذي رافقني في أسفاري وترحلي وترحالي في مطاراتٍ ومحطات، محمُولاً على كتفي، أو مجروراً في حقيبته تركض خلفي، مسوّرة ومغلفة بأسرارها وأسفارها، وشبح إسمي، وكلمة المرور.
أجلس في المكان بتثاقلٍ. هو المكان الذي ألوذ به ساعاتٍ وأيامٍ ولياليَ في وحشةِ الفراغ. أرى صُورَ الأصحاب والأحباب والغُرباء. وأرسل تراتيل الصباح وإنشاده، وعباراته، وهي تتقافزُ بنقرةِ أصابعي، وترجماتِ عقلي ورسوله، وما ينطق عني. أفتحُ الجهاز وأمررُ إسمي الشبح، وكلمة المرور، وهي تلوّح لي من شاشةٍ زرقاء، بتحيةٍ بعد الغياب. هي صفحتي وسطح مكتبي؛ هناك الكتب مسورة في بُيوتها الصفراء، هناك الصور، الأغاني، وهناك النصوص، وماكتبتُه منذُ وهلةٍ غائبة، وهُناك كتاباتٍ لم يزرها القمر ضغطتُ على ‘المُتصفّح’، لأتصفح بريدي الألكتروني، وماذبُلتْ به من رسائل، ومكاتيب لم تفضْ بِكارتها بصمتي وغيابي. أتخاذل بالهزيمة والإنكسار، وأضغطُ على مُتصفِّح ‘غوغل’ بحجة النِّسيان. أُديرُ البحث مُزيناً بإسم الدواء ‘ايماتينيب جليفك 100 ملغ’، باحثاً في فضائه، عن نُدماءِ الألم.
جال المُتصفِّحُ ‘غوغل’ في فضاءِ الكون بُرهةً، ورماني بصفحاتٍ من المعلومات والأخبار والناس والدليل. رماني بما يفيدني من جهلِ معرفةٍ في الطّبِ ومُلحقاته ومصطلحاته وعجائبه، وصرخة النّدماءِ وهم يتوزعون على خارطةِ الكونِ بأنينهم وفقرهم وعوزهم، ونداءاتهم عبر هذا الفضاء، لطلب المساعدة. ولم أكن أعرف أن هذا المُنتج من الدواء هو صرخة الطب في علاج الأمراض السرطانية بتنوعها. وهو صرخة طبية حديثة من العقاقير الطبية لعلاج هذه الأمراض المُرعبة. به السويسري والهندي، وفروقات السعر. حينها أمسكت بكرتون الدواء أتمعّن في سعره الباهض والمكلف، لمن لم يتيسرْ لهم هذا الدواء. تألمتُ كثيراً لتلك النِّداءات، والإستغاثاتِ البعيدة. وأنا أسمع صرخاتِ الناس داوية بحروفها. بتكسُّرها ورفعتها ونصبها، متشكلة بالأوجاع والآلام، تبحثُ عن كلمةٍ، مِبراةٍ، ومبضع. تأتي التجارب متقاطعة بحروفها؛ هناك من يبحثُ عن سعرٍ مُناسبٍ للدواء، هُناك من يستفسرُ عن زواجٍ مقبلٍ وإنجاب، وهناك من تُفكر في إجهاض جنينها بعد اكتشاف المرض، وخوفها من تشوهاتٍ الجنين. هناك من يصرخُ ويطلب العون لأمه المريضة، وهو لايملك سعر الدَّواءِ أو السفر. وهناك من يعرض ماتبقى له من دواءٍ للبيع بسعرٍ رخيص، وهناك من يمدُّ يد العون من البعيد.
أدركت أن الكون واسع ورحيم، والآلامُ كبيرة وكثيرة. تتمدَّد على مجرَّةِ السَّماء، وكُرَوِيَّة الأرض. أخذتُ إسم مرضي الذي أحفظهُ بحُروفه الثلاثة CML، مستخدماً هيئةَ نسخٍ ولصق، ومَهرتُ به صفحتي.
في الأيام الأولى لتناولي الدواء، أو العقار الكيمياوي، وبعد أن تزودت أو مازودني به ‘غوغل’ بما يُشبه المعرفة البسيطة للمرض وإختلاف مُسمياته، وتطور علاجه، زادتْ بي الوحشة والخوف والجزع. سمعتُ تلِك الصرخات وهي تملأَ الكون، وتُرسلُ أنّاتِها في الرِّيح وعلى وجهِ البسيطة، قرأتُ الأسماء والأعمار والسنين. هناك المتشائم والمتفائل. هناك المُحبطُ والمدفون. هناك من يحبو بمرضِه. وهناك من يرمي بالورود في بساتين الحبوب وإبيضاض الدَّم. وبنفس الرتابة التي سلكها نُدمائي في الألم، همّمتُ بركب القافلة معهم وهي تسير.
أتناولُ حبتين صباحاً، وحبتين مساءً بتوقيتٍ كحدِّ السَّكين. وبنهمٍ زرعتُ في فمي حبة تخثُرِ الدَّم. أشعر برائحة جسدي يغسله ماء آسن. عطر جسدي يتبدَّلُ برائحةٍ حادة. تلعقُ فمي أيضاً، وأُحسُّ برجليّ وقد زارهما الألم. وأُحسُ بالعظامِ وقد زادتْ أوجاعها. المشيةُ أيضاً تثاقلت، وزاد بي الخوف من تناول الطعام. وهناك مايُشبه الصُّداع والغثيان، ورغبة للتقيؤِ عند تناول الطعام. هناك دمٌ قليلٌ يخرجُ من فمي عند العُطاس، وقد زارني العُطاس والزُّكام توأمي في رحلةِ أمراض الجسد المُزمنة.
تذكرتُ ماتزودتُ به، بعضٌ من المعرفةِ للأثار الجانبية المُصاحبة لتناول هذا العقار: الصُّداعُ، الغثيان، التقيُّؤ، الإسهال، إنتفاخ حول العينين، طفح جلدي، آلامٌ بالعضلات، والعظام والمفاصل، وتشنُجاتٍ عضلية، والإعياء والمغص، وحُموضةً بالمعدة. هكذا سارت بي قافلة المرض مرةً أُخرى، وكأن فرحتي لم تكتمل، وأن خروجي إلى العالم العُلوي لم يصل بعد.
تذكرتُ وصية سيدوري ثانيةً:
إنَّ الحياة التي تبحثُ عنها لن تجدها.



‘ كاتب من السعودية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *