مجدي ممدوح *
تحولت الفيزياء في القرن العشرين إلى رواية أشبه بروايات الخيال العلمي، وتحولت النظريات العلمية الفيزيائية المتلاحقة إلى مسلسل يشعل الفضول ويحبس الأنفاس، وقد بلغت الغرائبية أقصاها في فيزياء الكم وتداعياتها الصادمة لكل قوانين العقل والمنطق، وبالرغم من أن النظرية النسبية كانت أفرزت الكثير من الأعاجيب والغرائبيات، وخاصة تلك القصة المدهشة التي شيدها اينشتين حول تباطؤ الزمن على الأجسام المتحركة بسرعات عالية جدا، قصة الشاب الذي يسافر بسرعة عالية على مركبة افتراضية تقترب سرعتها من سرعة الضوء ثم يعود ليتضح أن عمره اصغر من عمر ابنه الذي تركه على الأرض، أقول بالرغم من كل ذلك، إلا أن تداعيات الكوانتم كانت أكثر غرائبية وأكثر سوريالية، لان تداعيات النسبية ومع غرابتها، الا أنها بالنهاية قابلة للتعقل من قبل العقل البشري بشيء من التأمل والفهم العميق للنظرية النسبية، لان نظرية النسبية هي في النهاية تخضع لقوانين السببية العلمية والحتمية الفيزيائية، ولكن الوضع سيبدو مختلفا وصادما للعقل والمنطق عندما ندخل في نطاق فيزياء الكم، وهو المجال المدعو بالمجال ما دون الذري، في هذا المجال تتحطم قوانين العقل الثلاثة، قانون الهوية، وقانون عدم التناقض وقانون الثالث المرفوع.
لقد أفرزت فيزياء الكوانتم حالة جديدة في الفيزياء عرفت بالاحتمال، وهو مفهوم معاكس لمفهوم الحتمية الذي ظل موجودا في الفيزياء الكلاسيكية ومتسيدا لكل الظواهر الفيزيائية، فحركة أي جسم وموقعه ومساره وسرعته هي كميات فيزيائية محددة بدقة تامة وبحتمية فيزيائية لا يمكن التشكيك بها على الإطلاق، وكل كمية من هذه الكميات لها قيمة واحدة ووحيدة في أي نقطة من نقاط المسار، هذه الصورة الواضحة والجلية تختفي بالكامل عندما ننتقل إلى المستوى دون الذري، فالجسيم عندما يتحرك فان القوانين الجديدة لفيزياء الكم تخبرنا أن الجسيم يمتلك احتمالات لا حصر لها في مساره، وهذه القوانين تعطينا عددا هائلا من الاحتمالات للمسارات التي يسلكها الجسيم في حركته، دون أن يكون لدينا أي تأكيد مسبق بمحطته النهائية التي سيتواجد عندها، كانت الفيزياء الكلاسيكية قادرة على التنبؤ بالمحطة النهائية بكل دقة ووثوقية، الآن لم نعد نملك هذه الوثوقية، ما نملكه هو تخمينات بالموقع النهائي، تخمينات تعتمد على معادلة احتمالية لا تختلف كثيرا عن عجلة روليت افتراضية، هل يمكن أن تكون قوانين الفيزياء بهذه الاعتباطية وعدم التحديد، لقد صدمت هذه الفيزياء الجديدة اينشتين وأورثته الهم والحزن، اينشتين الذي تربى عقله على القوانين المتسقة والدقيقة والصارمة، وصرخ بوجه كل الشباب العابثين الذين حولوا الفيزياء الى دعابة سمجة (ما خطبكم، هل تعتقدون أن الله يلعب النرد). ومع كل النجومية التي كان اينشتين يتمتع بها في الأوساط الفيزيائية ومكانته العلمية الخطيرة، إلا أن هؤلاء الشباب العابثين من أمثال نيلز بور، وبول ديراك، وهايزنبرغ، وشرويدنكر، وبولي، قد مضوا قدما في هذه الفيزياء الشيطانية، والتي بدت وكأنها من أفعال إبليس اللعين، وعانى اينشتين ما عاناه في أخريات حياته عندما عزلته الأوساط العلمية لأنه أبى أن يعترف بالطبيعة الاحتمالية الاعتباطية لحركة الجسيمات على المستوى ما دون الذري، وظل يردد بان هناك متغيرات خفية غير مكتشفة ستؤدي في حال اكتشافها إلى توصيف مسارات الجسيمات ومواقعها النهائية بكل دقة وحتمية كما هو الحال في الأجسام الكبيرة، وظل اينشتين يعمل دون كلل أو ملل على إيجاد فيزياء واحدة تحكم عالم الأجسام الكبيرة والجسيمات دون الذرية في قوانين واحدة، او ما عرف بنظرية التوحيد، ولكن إخفاق اينشتين في إيجاد هذه الفيزياء الموحدة جعل فيزياء الكم ذات الطبيعة الاحتمالية تتسيد الفيزياء المعاصرة، كانت نهاية اينشتين نهاية تراجيدية بالفعل، فلقد وجد أصدقاؤه كما هائلا من المعادلات على شراشف المستشفى الذي كان يرقد فيه، معادلات طويلة تحاول إيجاد صيغة جديدة للمجال الموحد الذي حلم به، وتوفي اينشتين العظيم وهو يردد بان الرياضيات لا تسعفه في إيجاد النظرية الموحدة، لقد اعتقد أن الرياضيات لا زالت قاصرة على استيعاب هذه الحالة الجديدة
بالمقابل سطع نجم الفيزياء الجديدة، فيزياء الكوانتم، واستطاعت المعادلات المنبثقة عنها والتي وضعها شرويدنكر ان تحقق انتصارات مذهلة، وتفسر وتتنبأ بدقة مذهلة بكل الظواهر الفيزيائية على المستوى دون الذري، وفسرت كافة التفاعلات الكيميائية وحسبتها بدقة وفسرت لنا اسرار التوصيلية والتوصيلية الفائقة، ولا زالت انجازاتها تتحقق يوما بعد يوم دون ان تسجل أي اخفاق.
عندما دخلت فيزياء الكم الى علم الكون أفرزت غرائبيات جديدة لم تخطر ببال أي مخيلة بشرية، حتى سلفادور دالي لا يستطيع بكل سورياليته ان يتخيل المنحى الجديد الذي نحاه علم الكونيات، لقد أدخلت معادلات الكوانتم لتوصيف سلوك الكون في اللحظة صفر، اللحظة الدراماتيكية التي انبثق فيها الكون من العدم، والحقيقة أن الكون انبثق في البدء من نقطة صغيرة جدا دعيت بالبذرة الكونية، هذه البذرة ضئيلة بشكل لا يمكن للعقل تخيله، إنها تعادل جزءا واحدا من الف مليار مليار جزء من حجم النيوترون، كانت كتلة الكون كلها محبوسة في هذا الحجم الصغير، هذه البذرة الكونية بالطبع لا تنصاع لمعادلات المجال الاينشتينية، لسبب بسيط أن معادلات اينشتين ليس لديها ما تفعله في هذا الحيز الصغير، حيث لا زمان ولا مكان، ومعادلات اينشتين هي معادلات في هندسة الزمان والمكان، ما الذي يترتب عليه دخول الكوانتم للعمل على سلوك البذرة الكونية في اللحظة صفر من عمر الكون؟، انه يعني ببساطة أن هذه البذرة ستسلك سلوكا كوانتيا احتماليا يأخذ عددا هائلا من الاحتمالات في سلوكه، مما يعني بداهة انه سيتخذ مسارات متعددة لحظة انبثاقه من لحظة الصفر، اعتقد بعض العلماء بما فيهم عالم الكونيات الانكليزي ستيفن هوكنج ان هذه المسارات المحتملة تمثل تواريخ مختلفة للكون، وليس من الصواب إهمال هذه التواريخ، لان كل تاريخ من هذه التواريخ يمثل كونا محتملا يسير بشكل مستقل، والحقيقة أن قطب الكوانتم ريتشارد فاينمان كان أوحى في صياغته للنظرية الكوانتية بهذا التعدد، ولكن الذي ذهب بالشوط إلى أقصاه هو ايفيريت، الذي اقترح ان التواريخ المتعددة للبذرة الكونية قد نمت بشكل مستقل وشكل كل واحد منها كونا مستقلا موازيا لكوننا، ولا يوجد أي اتصال فيزيائي بين هذه الاكوان وكوننا، وعرفت هذه النظرية بنظرية الأكوان المتعددة، ومع أن الذين يتبنون هذه النظرية ليسو أغلبية في الأوساط الفيزيائية، الا انها تحتل حيزا وتمتلك حجية علمية تستند إلى قوة نظرية الكم وتماسك نتائجها وتوقعاتها.
كان علم الكون قد اقترح قبل ذلك سيناريو لأكوان متعاقبة، بمعنى أن كوننا الحالي سوف ينهار في سيناريو يدعى سيناريو الانكماش العظيم، ويرتد إلى حالة النقطة الصغيرة جدا مرة أخرى، هذه القناعة تولدت لدى العلماء من خلال رصدهم لظاهرة تمدد الكون، نعم. لقد اكتشف العالم هابل بواسطة تلسكوب المائة بوصة أن الكون يتمدد، بمعنى أن المسافة بين مجرة وأخرى كانت تزداد كلما تقدمنا بالزمن، ومن هنا استنتج العلماء أن الكون كان قبل عصور سحيقة اقل واقل حجما، وصولا إلى الافتراض انه انبثق من هذه النقطة في الحادثة الدراماتيكية المسماة الانفجار العظيم، كان ذلك قبل حوالي أربعة عشر مليارا من السنين، وبما أن قوة الانفجار البدئية التي جعلت مكونات الكون تهرب مبتعدة عن بعضها، هي قوة غير متجددة، فان من المفترض ان تتغلب القوة التثاقلية لمكونات الكون المادية على هذه القوة الانفجارية في نقطة ما، وهذا سيؤدي إلى إيقاف تمدد الكون ثم التحول إلى الانكماش، هذا الانكماش، اعتقد العلماء بأنه سيستمر بلا توقف، إلا أن ينهار الكون في حادثة دراماتيكية أخرى هي ظاهرة الانكماش العظيم، ثم بعض وصوله إلى هذه النقطة الصغيرة جدا، سيعاود الانفجار مجددا مشكلا كونا جديدا وحاملا عذابات جديدة لكائنات لا تدري من أين أتت ولا إلى أين تسير، ومع غرائبية هذا السيناريو (سيناريو الأكوان المتعاقبة)، إلا انه يمكن تمثله وفهمه من قبل العقل، وهو لا يخرق قوانين العقل والمنطق، ونود التنويه إلى أن هذا السيناريو كان تم اقتراحه في العصر الوسيط من منطلقات فلسفية دينية بحتة، كان الفيلسوف والفقيه ابن تيمية قد اقترحه لحل الإشكال والحرج الكبير عن دور الإله بعد قيام الساعة وفناء كوننا الحالي، ما الذي سيفعله الإله بدون كون ومخلوقات، وهل أن إلوهيته ستبقى فعالة عندما يختفي المألوه، ولنفي البطالة أو العطالة عن الإله، لجأ ابن تيمية لاقتراح أن هناك عددا لا نهائيا من الأكوان، كل كون جديد ينبثق بعد فناء سابقه، ومع ان منطلقات ابن تيمية كانت منطلقات لاهوتية بحتة، إلا أن السيناريو الذي اقترحه لا يختلف في جوهره عن سيناريو الانفجار والانكماش الذي شيده علم الكونيات الحديث.
إن سيناريو الأكوان المتوازية يختلف في منطلقاته الفيزيائية والفلسفية عن سيناريو الأكوان المتعاقبة، ما الذي حدا بالعلماء الى تبني هذا السيناريو الصادم للعقل والمنطق، هل يعقل أن أكوانا أخرى تتواجد الآن موازية لكوننا في الزمان والمكان ولا نعلم شيئا عن مادتها وقوانينها الفيزيائية التي تحكمها؟ هل أن وجود احتمالات متعددة لمسارات البذرة الكونية الأولى في اللحظة صفر يبرر لنا القول أن كل احتمال من هذه الاحتمالات قد تحقق على هيئة كون مستقل، يعتقد الكثير من علماء الكونيات أن هذا الافتراض غير مطابق للواقع، وهو نتاج عقول تسممت بالتجريدات الرياضية الاحتمالية لفيزياء الكوانتم، والحقيقة أنني اميل من وجهة النظر الفيزيائية والفلسفية للاعتقاد بان سيناريو الأكوان المتوازية هو بالفعل نتاج عقول طغت عليها التجريدات الرياضية الاحتمالية حتى فقدت صلتها بالواقع، ان البداهة العقلية تخبرنا أن كافة المسارات المحتملة التي تتنبأ بها فيزياء الكم هي مسارات متأتية عن جهلنا المطبق للمسار الحقيقي للجسيم، حيث يجعلنا هذا الجهل لا نهمل ايا من هذه الاحتمالات، ولكن علينا الانتباه اننا عندما نرصد موقع الجسيم الجديد بالقياس أو بملاحظة تأثيره من خلال إحدى الوسائل الفيزيائية، فان الاحتمالات الأخرى لن تعود موجودة، وان حالة اللا تأكد قد انتهت، وبالتالي لا يجوز الاستمرار بالقول أن الاحتمالات الأخرى والمسارات الأخرى لا تزال قائمة، نحن لا ننكر أن هذه المسارات والاحتمالات كلها كانت قائمة قبل أن نعرف المحطة النهائية للجسيم، ولكن بعد أن عرفنا هذه المحطة فان من المنطقي أن تنهار الاحتمالات الأخرى وتصبح صفرا، إن أي مراقب لعجلة الروليت وهي تدور يعرف أن هناك عددا كبيرا جدا من الاحتمالات لوضع الكرة النهائي، دون أن نستطيع الجزم أيها هو المرشح للحدوث، ولذا فإننا نضع سيناريوهات كثيرة للوضع النهائي للكرة أثناء فترة الدوران، ولكن في اللحظة التي تستقر فيها الكرة عند وضع معين، فان من الطبيعي ان تنهار كل الاحتمالات الأخرى، لأننا عرفنا النتيجة، هل يجرؤ أحد على الادعاء ان كافة الأوضاع الأخرى قد حدثت حقيقة وليس خيالا، لو كان هذا صحيحا لتعرضت الكازينوهات للإفلاس، لأنه يتوجب عليها أن تدفع النقود لكل المقامرين، لان كل مقامر يستطيع الادعاء أن الاحتمال الذي اختاره كان مرشحا للحدوث وفق قوانين الاحتمال، يبدو ان فاينمان وايفريت قد فقدا صلتهما بالواقع وضلا وأضلا، ويبدو أن هوكنج قد انجر إلى هذا السيناريو بلا مبررات كافية.
كان نيلز بور قد وضع تحديدات ونظم والزامات على العلماء العاملين على معادلات فيزياء الكوانتم، كان نيلز بور يدرك في قرارة نفسه أن المعادلات الرياضية، ومع دقتها في التنبؤ، لا تمثل واقعا فيزيائيا واقعيا، وظل ينصح العلماء بعدم أخذ الواقع الفيزيائي الذي توحيه معادلات الكم مأخذ الجد، والاكتفاء بالنتائج فقط،، لقد صرح أن الجسيم الذي تتعامل معه معادلات الكوانتم هو جسيم رياضي بحت ولا يمت بصلة للجسيمات المادية الواقعية ولا يمثلها، والحقيقة أن مبدأ التتام الذي وضعه نيلز بور قاد إلى حقيقة في غاية الأهمية، وهي معروفة بالفيزياء الكمية، وتتلخص في أننا لا يمكن أن نثبت الطبيعة الموجية والجسيمية لاي جسيم في تجربة واحدة، بمعنى ان السلوك الموجي الاحتمالي للجسيم هو سلوك صحيح قبل أن نرصد موقعه، ولكن في اللحظة التي نرصد موقعه فان السلوك الموجي يختفي تماما، ويبقى أمامنا فقط جسيم بزخم وموقع معين، بمعنى إن الاحتمالات الأخرى تنهار كلها وتذهب للعدم، هذا ما أوصى به عراب الكوانتم بور، والذي يعتبر أول من صاغ أولى الصياغات الفلسفية للكوانتم، يبدو أن واضعي سيناريو الأكوان المتوازية قد خرقوا كل الوصايا التي وضعها بور، كان بور يعلم أن معادلات الكوانتم هي معادلات شيطانية، بإمكانها ان تضلل العلماء إذا ما أساؤوا استخدامها وخرقوا القواعد التي وضعها لهم، الأمر يشبه بان تمنح طفلا لعبة ما وتوصيه الا يفتحها على الإطلاق، ولكن الفضول الإنساني لا حدود له، لم يكتف العلماء باستخدام المعادلات فقط واستخراج النتائج العملية، بل انهم غاصوا في ماهيتها وأسرارها وكسروا وصية بور، فتاهوا في غموضها وسورياليتها، وأنا اعتقد جازما أن الرجوع إلى النصوص الأصلية التي كتبها نيلز بور في العشرينيات كفيلة بان تحل الكثير من التناقضات، وسوف تكشف هذه النصوص أن المسارات والتواريخ الاحتمالية الأخرى هي مسارات واحتمالات افتراضية مؤقتة توضع في زمن عدم اليقين فقط، ولكن في اللحظة التي نتيقن من المسار النهائي والمحطة النهائية، فان علينا نبذ الاحتمالات الأخرى.
ومن الملاحظ ان هوكنج وكل الآخرين الذين أخذ عنهم، قد تأثروا بوجهة نظر واحدة في فيزياء الكم، وهي ما يعرف بتأويل كوبنهاجن، وهو البيان الذي أصدره علماء الكوانتم الشباب بعد انتهاء المعسكر العلمي الذي أقاموه في جامعة كوبنهاجن، والذي أكد على الطبيعة الاحتمالية الاعتباطية لحركة الجسيمات دون الذرية، وأكد أن هذه الطبيعة الاحتمالية هي ظاهرة متأصلة في الفيزياء وليست ناتجة عن قصور في فهم طبيعة الظاهرة، ان حالة عدم التأكد ستبقى قائمة حتى لو عرفنا كل شيء عن الجسيم، لقد كان هذا البيان صادما للفيزيائيين؛ لأنه اخرج الفيزياء من دائرة العقل والمنطق.
البعد الآخر الذي يجب أن يبقى حاضرا في هذه القضية، هو البعد السياسي، إن بيان كوبنهاجن ربما جاء تحت ضغط القوى الرأسمالية التي دأبت على محاربة العقل والعقلانية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لقد كان العقل هو اله الرأسمالية منذ انبثاقها وتبنيها الحداثة، ولكن هذا العقل- بعد أن استوى- استطاع من خلال استعمال مفاهيم العقل الغربي وآلياته الجبارة أن ينتج النقيض للرأسمالية، لقد أنتج الماركسية، وأنتج البيان الشيوعي، كانت الماركسية هي أنضج منتجات العقل الغربي في القرن التاسع عشر، وأعلى تجليات هذا العقل، ولقد تنبهت الرأسمالية ودقت ناقوس الخطر بعد اندلاع الثورات العمالية عام 1848، التي اندلعت في ألمانيا، واجتاحت الغرب، وكادت تطيع بالرأسمالية، منذ ذلك الحين انقلبت الرأسمالية على إلهها، العقل، الذي أصبح وبالا عليها، ودأبت على محاربة ومهاجمة العقل والعقلانية، والترويج للاعقل، ومن الواضح أن معسكر كوبنهاجن قد تعرض لضغوط لا حصر لها من قبل راعي المعسكر ودافع فواتيره، الرأسمالي الصناعي روكفلر، ولقد صرح هايزنبرغ في إحدى المناسبات النادرة لزملائه انه نادم على التوقيع على بيان كوبنهاجن المتعلق بالطبيعة الاعتباطية لفيزياء الجسيمات، ومن المرجح أن هؤلاء الشباب الفيزيائيين المندفعين قد وقعوا ضحية مكيدة أعدها لهم بإتقان الرأسمالي العتيد روكفلر، ولا ادري كيف صدقوا أن روكفلر حزين للمصير الذي آلت إليه الفيزياء بعد التمزق الذي ضرب الساحة العلمية بفعل تداعيات الكوانتم.
عود على بدء، أود التأكيد، ومن المنطلقات الفلسفية والفيزيائية التي افهمها، ان انهيار دالة الموجة الاحتمالية هو حقيقة وبدهية عقلية، وعلينا أن نبني كافة بناءاتنا الفيزيائية والكوسمولوجية استنادا الى هذه الحقيقة، وان لا ننجر وراء العقول التي تسممت بسبب مبالغتها في التجريد وانفصالها عن الواقع.
* كاتب من الأردن