«رسالة من كندا» لرينيه الحايك.. كهف الرموز


عناية جابر *


ما يجعل «رسالة من كندا» رواية رينيه الحايك الجديدة عن «التنوير للطباعة والنشر والتوزيع» رواية فعلية، هي وحدة الحدث، ومن الصعب تخيّل رواية من دون تلك الوحدة، حتى تجارب «الرواية الجديدة» قامت على وحدة الحدث (أو اللاحدث). كثرة الشخصيات والأسماء لم تنل من تلك الوحدة، بل تبدى لي ان الحايك، تستمتع في سردها بجعل تلك الوحدة متشظية تماماً من خلال الأحداث الكثيرة والمتلاحقة ومن خلال أبطالها، سوى انها تعود إلى البؤرة الأصل، وهي رحيل كارلا، الزوجة التي فقدت زوجها الطبيب انطوان، إلى كندا مخلّفة وراءها ابنها روبير الذي لم يكد يتجاوز العاشرة، وأختيه الأصغر منه سناً كارلا وجاين: «الآن أنت رجل البيت. والدك رحل إلى السماء عند الرب». مع هذه الجملة، قامت الرواية على أكتاف أشخاصها، في طريق طويلة رفض فيها روبير ان يكون رجلاً في عمره الصغير، كما رفض ان يرحل والده حتى لو كان المكان في السماء جنة، وحتى لو جلس مع يسوع.
رحلة الأولاد للسكن مع جدتهم وجدهم بعد رحيل الأب وسفر الأم إلى كندا، تشكل الجزء الأصغر من رواية الحايك، انها مجرد حجة ظريفة، صندوق من الحكايات لحمل مجموعة من الإضاءات والقصص والكشف والتأملات على الحرب اللبنانية التي تتبين الرواية في زمنها (موت الأب لم يبد خالصاً من الحرب) سوى ان سكنى الأطفال في بيت جدهم وجدتهم أتى ضرورياً لإعطاء السرد حسّ الرواية، أو على الأقل محاكاة ضرورية لحدث فاصل ما. سوى ان شخصية الجدة التي كافحت لتربية أبناء ابنها المتوفى، يعطي الرواية ككل وحدة داخلية أيضاً، وهو الأقل رؤية والأكثر أهمية. التحام السرد نشأ عند رينيه الحايك من وحدة موضوعات (الحرب، الحب، اليتم)، أو موتيفات قليلة، تتطور غنى، وترى من خلال بيئة وظروف شخصيات واقعية.
حلم الذهاب إلى كندا عند الأولاد، للحاق بوالدتهم التي تعني لهم حياة الرخاء التي عاشوها في بيت الأسرة حين كان والدهم على قيد الحياة، أو حلم العودة إلى الرحم/ الأم، ظل مؤجلاً وممضاً ومتراوحاً بين الرجاء والإنكسار، والتعلق برسالة من الأم تعلن عودتها إليهم أو تدعوهم من خلالها للحاق بها، هو شريان الرواية الرئيسي الذي بنت عليه الحايك «رسالة من كندا» إلى ان انقطع، فأنقطع الرجاء من قيامة البلد ككل.
في روايات الحايك، التي قرأنا حتى الآن، الحرب واقعة بكل فجائعيتها، لكن البكاء محجوب بغطاء من الغموض، ويتخذ شكل الحكاية الميتافيزيقية. في الفصل الأخير، تصل رسالة الأم من كندا فعلاً، لكنها مخيبة إلى درجة البكاء، إلى درجة تفريغ انتظارها من كل مضامينه رسالة باردة لا تلامس ما عاشه الأولاد ولا ما عانوه من عسف داخلي وخارجي، ولا يقارب كل الفجيعة التي لاقاها البلد، بل تتكلم بلغة باردة، لغة (أجنبية مادية) إن صح التعبير، لا تعير صراخ الوطن أذناً. روبير الصغير الذي عانى كثيراً من وجدان الحياة التي لم يخترها (وهذا ينطبق على كل الحياديين في هذا البلد) هي التي حددت له اليقين الجمعي ضد الشك الفردي، وحين واجه القيم في مرحلة ما، القيم التي كانت يوماً صلبة، غلبته فانسحب إلى الدير برأس محني، بدون ولاء ولا عائلة ولا وطن ولا حب.
في هذه الحفلة التنكرية الكبيرة التي هي الحرب اللبنانية وضعت رينيه الحايك أشخاص روايتها، فخارج البيوت تقوم مملكة الشر (الحرب، الطائفية، القتل) وفي الداخل ثمة القلوب العطوفة (الجدة، الجد، الأقارب) مع كل الانفعالات الصاخبة التي تحتاجها الحياة في الحرب. نقرأ الرواية بانتباه لكن ببطء، ونتوقف عند الأحداث (التي هي أحداثنا بشكل أو بآخر) بمنطقها ومعقوليتها معاً، فندرك نظاماً خفياً سرياً، هو الحرب، وهو الأساس لقرارات الكاتبة في ترتيب سردها.


 


( السفير )

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *