محمد صابر عبيد *
((1))
كان يقال فيما مضى لأولئك الذين تصل جرأتهم إلى حدّ الإعلان المهرجاني عن قرب دخولهم إلى نادي الشعر والشعراء، وأنهم غامروا بكتابة الشعر مبكراً: ((الشعرُ صعبٌ وطويلٌ سلّمهُ))، من أجل المعرفة والإيحاء بأن كتابة الشعر ليست بالأمر السهل، فكلمة ((صعب)) تنطوي على شبكة هائلة من الدلالات التي تقضي بأن يتخطّى كاتب الشعر حواجز ومصدّات وعوائق وحدودا واختبارات لا حصر لها كي يتجاوز مساحة هذه الكلمة، حيث يتمكّن من أدواته، وتنضج رؤيته، وتصقل موهبته، ويتشكّل خطابه، وتتخصّب لغته، ويخوض تجارب ساخنة مؤهّلة لتمثيلها في كتابة شعرية أصيلة. وجملة ((طويل سلّمه)) الملحقة بفضاء الصعوبة الشاسع والعميق ترسم تماماً طريق الرحلة الدامي بلا هوادة إلى عالم الشعر، فالسلّم طويل والصعود مضنٍ، ومن يملك يا ترى ذلك الصبر الباسل الذي بوسعه أن ينتج شاعراً تنقاد له مهرة الشعر البريّة العصية على الانقياد، مخترقاً كلمة ((صعب)) بجدارة واستحقاق، وقادراً على اجتياز السلّم الطويل الصاعد نحو الأعلى بنجاح وتفوّق دائماً، حيث يبلغ القمة وحيث يجد أن عرقَه النازف تحوّل إلى شعر أصيل.
فكيف بالرواية إذن وهي أصعب وسلّمها أطول؟ فإذا كان الدخول إلى عالم الشعر يحتاج إلى كلّ هذا الجهد والكدّ والمثابرة والتعب والصبر، فماذا يمكن أن يقال عن الرواية بكل ما تحتاجه من إمكانات ومعرفة ورؤية وإحاطة ونَفَس كتابي طويل، فضلاً على القدرة الهندسية العالية على ضبط حركية الزمن، وحدود المكان، وفاعلية الشخصيات، وبقية عناصر السرد الأخرى، والهيمنة على إيقاع مكونات السرد وعلاقاتها وسبل تجانس الحراك المتفاعل فيها، وأسلوبية التعبير والتشكيل والتدليل والتصوير الروائي التي تحتاج إلى كاتب متمرّس وبارع يدرك أهمية اللغة الروائية والخطاب الروائي والصنعة الروائية بكلّ أشكالها وقضاياها وحدودها.
كيف يمكننا إذن بعد اجتياز هذه المرحلة المرتهنة بالصعوبة وطول سلّم الوصول أن نتيقّن منهجياً في مرحلة لاحقة أكثر صعوبة وتعقيداً في صعود السلّم، من فرضية وجود سرد خاص للمرأة وشعر خاص للمرأة، وبما أننا نعتقد بأن الكلمة الإبداعية لها لون وطعم ورائحة مثلما يصف الصينيون الطعام الجيد، فإن مثل هذه الفرضية الثقافية لوجود سرد خاص للمرأة وشعر خاص للمرأة في خطاب أنثوي بالغ الحساسية والتميّز والتفرّد، له لون المرأة وطعمها ورائحتها قابلة للبحث والنقاش والسجال والتداول والبرهنة، طالما أن العملية الإبداعية هي تمثيل حيّ للرؤية والتجربة والحسّ والعاطفة والخبرة والثقافة بمنطقها الذاتي الشديد الخصوصية.
لكنّ الأمر بطبيعة الحال يحتاج إلى قراءات معمّقة على مستوى النظرية والتطبيق، وقد خاضت الكثير من الدراسات الحديثة في هذا الشأن غير أنّ نتائج واضحة وعميقة وذات شأن في هذا المجال لم تبرز على السطح حتى الآن، من شأنها أن تبرهن على صحة هذه الفرضية وقدرتها على النموّ والحياة والديمومة على النحو الذي تصبح فيه واقعَ حالٍ أدبياً يمكن تداوله بثقة واطمئنان.
يمكن أن تنفتح الفرضية السابقة على فرضية أخرى ذات طبيعة ثقافية بالغة الأهمية والخطورة، وتتمثل في عبارة أنّ ((الشعر ذكوري والسرد أنثوي))، وربما لو استعرضنا الآن الواقع الإبداعي العربي مثلاً على هذا الأساس سنجد أن نسبة الشواعر بالنسبة للشعراء أقل كثيراً من نسبة القاصات والروائيات إلى القصاصين والروائيين، وهذا يعدّ مؤشراً من بين مؤشرات أخرى يجب أن تحضر للبرهنة على صدق هذه الفرضية.
على هذا الأساس يمكن تحليل هذه الفرضية من خلال افتراض أنّ توغل المرأة في ميدان السرد إنما هو تعويض عن هزيمتها في ساحة الشعر، إذ ظلّ الشعر العربي ذكورياً طيلة عصوره الشعرية المعروفة حتى عصر الحداثة الشعرية، حين ظهرت نازك الملائكة أحد أقطاب الريادة الشعرية الحداثية وكتبت ما يمكن أن نصطلح عليه بـ ((قصيدة المرأة))، وقد أحدثت هذا الشرخ المهم في جدار الذكورية الشعرية العربية لأول مرة في تاريخها الطويل.
ومع هذا الانتصار الحقيقي لحقّ المرأة في كتابة الشعر الذي ظلّ مغيّباً على مدى أربعة عشر قرناً من الهيمنة الذكورية على مائدة الشعرية العربية، إلا أنه لم يستثمر على النحو الذي يخلق حالة شعرية أنثوية موازية للحالة الذكورية، وسرعان ما ارتدّت هذه الثورة وانتكست ليبقى الشعر من عمل الرجال، وهو ما فتح الباب واسعاً للمرأة للاحتماء من هزيمتها الشعرية باللجوء على أحضان السرد الدافئة.
((2))
طبعاً الرواية بحكم سرعة انتشارها وطغيان تداولها في الساحة الثقافية العربية الآن هي الأكثر حظوة وإثارة وسحراً من بين الفنون السردية الأخرى عند المرأة، لذا أصبحت ظاهرة (المرأة الروائية) من أكثر الظواهر حضوراً وبروزاً وشيوعاً في ميدان الإبداع السردي العربي الحديث على المستويات كافّة، وقد تشكّل هذه الظاهرة واحداً من أكثر أسئلة الثقافة العربية والأدب العربي تصدّراً للمشهد الراهن. ولا شكّ في أنّ العمل الروائي ينهض على شبكة كبيرة ومعقّدة من المقوّمات التي ينبغي توافرها بقوّة ورصانة وخصب كي تضمن له النجاح، ولا تتوقّف هذه المقوّمات عند حدود التوافر التقليدي الكمّي لها، بل يجب أن تحضر بوصفها فنّاً، فكلّ مقوّم من هذه المقوّمات يتدخّل في حقل العمل الروائي بوصفه ظهيراً فنياً مموّلاً قادراً على الإسهام في بناء العمل وتشييده واستكمال تشكيله الجمالي.
إنّ أول هذه الفنون هو ((فن الموهبة)) الذي من دونه لا يمكن مطلقاً إنتاج رواية حتى لو توافرت كلّ المقومات الأخرى وبالقوة والكفاءة المطلوبة، لذا نرى الآن الكثير من المنتج الروائي يفتقر إلى ما اصطلحنا عليه هنا بفن الموهبة، على النحو الذي يتحوّل فيه العمل الموصوف تجوّزاً على أنه رواية إلى مجرد ركام من الكلام لا علاقة له بفن الرواية لا من قريب ولا من بعيد مطلقاً، وقد زاوجنا بين كلمة ((فن)) وكلمة ((موهبة)) للارتقاء بمفهوم الموهبة إلى مستوى الإبداع الفني الذي يتجاوز الحالة الفطرية للموهبة. وثاني هذه الفنون المطلوب توافرها في مقومات الرواية هي ((فن المعرفة)) الذي يحوّل معرفة الروائي إلى فن، من أجل استثمار هذه المعرفة بخزينها الفني لا الكمّي العلمي الصرف الذي قد لا يصلح للنسيج الروائي، لذا فإن اقتران المعرفة بالفن هنا إنما يُعزى إلى حاجة الرواية إلى معرفة تتمثّل روح الفن في جوهرها.
ثم ((فن الوعي)) الذي بوسعه التعامل مع فن الموهبة وفن المعرفة تعاملاً إجرائياً عالي المستوى، داخل طاقة تنظيم وترتيب وتشكيل بالغة الدقّة والتركيبية تسهم عميقاً في بلوغ مرحلة مهمة جداً من مراحل إنضاج العمل الروائي، حيث يشتغل فن الوعي بوصفه ضابط إيقاع للحركات السردية وفعالياتها وأنشطتها.
أما ((فن التجربة)) فهو الفن الذي يتكشّف عند الروائي من خلال قدرته على تمثّل ذاته في علاقاتها مع الآخر، والمحيط، والماحول، واستدراج مضمون ومنتج هذه العلاقات إلى منطقة الفعل السردي وتشغيلها بأعلى كفاءتها، وفن التجربة هنا يمثل البنك الحكائي الأكثر خصباً وثراءً وديمومة لرفد المسيرة الروائية بما تحتاجه من معطيات حكائية متنوعة ومتعددة ومتوالدة ومتشظيّة لا تنضب. ثم يأتي ((فن الخبرة)) في نهاية هذه الفنون التي تشكّل المعطيات المركزية للعمل الروائي، وهو فن زمني تراكمي يتأسس عبر حركية وتفاعل الفنون السابقة التي تسهم جميعاً في تعميق الخبرة وتخصيبها وشحنها، على النحو الذي يتحوّل الروائي عبر حضور كل هذه الفنون أخيراً داخل إطار فن الخبرة إلى كاتب محترف، يستوفي كل شروط التشكّل والصيرورة ويمرّ بكلّ مراحل التكوين على النحو الذي يصبح فيه قادراً على الكتابة بثقة ومعرفة وإدراك وقوّة وإبداع.
ما هو الوقت الذي تحتاجه الرواية كي تولد من رحم كل هذه الفنون وهي تحتشد في سياق واحد لتكّون هذا العالم الحرّ؟ ربما لا يمكن وضع سقف زمني محدد لكتابة الرواية إذ إنّ لكلّ تجربة وضعها وطبيعتها وكيفيتها السردية والفنية، ولكلّ تجربة حاجتها عموماً إلى وقت يلائمها ويستجيب لمقتضياتها ومتطلباتها، غير أن هذه التجربة مهما كانت كثيفة ومحدودة في السياق العام فإنها تحتاج إلى وقت طويل نسبياً كي تتحوّل إلى رواية، ولاشك في أنّ الروائي لا يختلف كثيراً عن عالم الأحياء وهو يمضي السنوات الطوال في مختبره كي يكتشف مصلاً ما يعالج حالة مرضية معينة، بكل ما يقتضيه ذلك من تجارب واختبارات ومعلومات وبيانات ومصادر معلومات وغيرها، على هذا النحو لا يمكن كتابة رواية في أسبوع أو شهر أو شهرين كما يفعل الكثير من كتّاب الرواية الآن، فثمة الكثير من الروائيين والروائيات ممن لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين وفي جعبة كلّ منهم أكثر من خمس أو ست روايات أو أكثر، ولعلّنا نذكر في هذا السياق الروائي الكولومبي ماركيز الذي أمضى 15 عاماً من أجل كتابة رواية ((مئة عام من العزلة)) مثلاً، وكان يعيش أحداث الرواية مع عائلته ومحيطه، بحيث حين صعدت إليه زوجته مرسيدس في أحد الأيام وقد وجدته يبكي لمدة ساعتين قالت له على الفور: العقيد مات؟ إذ أدركت أن ماركيز يبكي على شخصية العقيد في روايته بعد أن أخفقت كل محاولاته لتفادي موته الورقي.
أما إذا أخذنا مثلاً عربياً على عمق العمل الروائي وضراوته وكدّه وحساسيته وزمنيته فيمكننا الذهاب فوراً إلى تجربة نجيب محفوظ، الذي كرّس حياته الطويلة لخدمة الرواية وكأنه خُلق ليكتب الرواية فقط، وكان عمله على رواياته لا يختلف عن عمل عالم الأحياء، إذ كان له مختبره أيضاً الذي يعمل فيه ساعات طويلة كلّ يوم، يضاف إلى ذلك طبعاً الضرورة القصوى لتمكّن الروائي من أدوات الصنعة الروائية بأقصى درجات تكاملها وفاعليتها وكفاءتها، ونظراً للأهمية الميدانية التي اكتسبتها تجربة محفوظ الثرية على الصعيدين الكمّي والنوعي في السردية العربية الحديثة، يمكننا أن نعدّه ممثلاً لمرحلة تاريخية فاصلة وحاسمة في هذه السردية، ونسمّي مرحلته بـ ((المرحلة المحفوظية))، تسبقها مرحلة ما قبل محفوظ، وتتبعها مرحلة ما بعد محفوظ. ولعلّ مرحلة ما بعد محفوظ هي المرحلة الإشكالية الأكثر خطورة واشتباكاً وتداخلاً وحيرة والتباساً، أما مرحلة ما قبل محفوظ فكان يتسيّدها محمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي برواياتهم الاجتماعية الواقعية التي تحوّل معظمها إلى أفلام تغذّت عليها السينما المصرية ردحاً طويلاً من الزمن، وكوّنت وعياً محدوداً وقاصراً لدى الكثير من القرّاء وروّاد سينما هذه الأفلام الروائية.
في السنوات القليلة الماضية ولدت جائزة البوكر العربية لدعم حركة التأليف والنشر الروائي العربي، وبالرغم من أهميتها لكنها تروّج ـ ربما عن غير قصد لروايات صغيرة ولروائيين صغار ووضع حصّة تشبه (الكوتا) للمرأة الروائية، وثمة أسئلة كثيرة تواجه عمل هذه الجائزة قد يكون في مقدمتها سؤال ((معيار انتخاب لجان التحكيم))، إذ شكك الكثير ممن تعرّض بالنقد للجائزة بكفاءة وتخصص وخبرة وعلمية لجان التحكيم على مرّ السنوات التي مضت من عمرها، وعلى الرغم من عمرها القصير وما رافقها من شائعات واعتراضات إلا أن جائزة البوكر العربية أصبحت اليوم حالة روائية ساخنة تغازل طموح الروائيين العرب جميعاً، المكرسين منهم، والحالمين بقفزة نوعية وضربة حظ تضمن لهم حضوراً لافتاً في فضاء الرواية العربية البالغ الإغراء.
إنّ الرواية على هذا المستوى أضحت اليوم أشبه بالأغنية التي تعتمد على ضربة الحظ لتنقل صاحبها من الخطوط الخلفية المهملة الهامشية إلى الصدارة والواجهة، ولم تعد المسألة بحاجة إلى سنوات مضنية، وموهبة كبيرة، وكدّ ذهني عالٍ، ومعرفة عميقة، وخيال واسع ونشيط وخلاّق، لكتابة رواية، إذ يمكن لأي راغب في تعلّم كتابة الرواية أن يطّلع على كتاب ((كيف تتعلّم كتابة الرواية في خمسة أيام بدون معلّم)) من أجل أن يتقن اللعبة، لأننا سبق أن تعلمنا كلّ لغات العالم بهذه الطريقة عبر كتب الجيب الصغيرة التي كانت تعلّمنا هذه اللغات في خمسة أيام، ولست أدري حتى هذه اللحظة لماذا هذا الإصرار المحرج على خمسة أيام لا أقل ولا أكثر، فثمة لغات عويصة كاليابانية أو الصينية بحاجة إلى أكثر من خمسة أيام ولهذا لم نتقنها جيداً في طفولتنا لأن الوقت كان ضيقاً للأسف.
الرواية الكبيرة هي ابنة المدينة والحضارة والديمقراطية والحرية، وأكاد أجازف بالقول هنا بأنه لا يوجد مجتمع عربي مديني وحضاري وديمقراطي وحرّ بهذا المعنى، الدكتاتورية بألوانها وأنماطها وأنواعها وأشكالها وأصنافها تعشش في ذاكرة وذهنية وحلم كل عربي، من الكنّاس إلى رئيس الدولة، ومن الجاهل إلى الفيلسوف، ومن المعتوه إلى الحكيم، ومن الصغير إلى الكبير، ومن المرأة إلى الرجل، ففي داخل كلّ منّا دكتاتور صغير كامن سرعان ما ينفلت من عقاله حين يتلقى أيّ فرصة ممكنة تستجيب لطموحاته في الهيمنة والسيطرة والتسلّط.
فكيف يمكن أن ننتظر رواية من هذا الطراز تكتبها المرأة، في ظلّ مناخ قد لا يسمح كثيراً للرجل بمثل هذا الإنجاز المحتمل؟ وفي ظلّ اتهام دائم بأن وراء كل كاتبة مبدعة رجل يكتب لها، من يكتب للمرأة يا ترى؟ ولماذا؟
ثمة استثمار إيروسي مجنون للجسد في كتابة المرأة لتوكيد أنثوية السرد وتسخير فعل الذكورة لخدمته، على النحو الذي يعطّل جسد الرجل ويحوّله إلى آلة تشتغل بإمرة الخيال الإيروسي الأنثوي الضاغط في الرواية، إذ تتمركز موضوعات السرد الأنثوي في السعي إلى دحر الذكورة وإلحاق الهزيمة بها والثأر منها، الرواية النسوية تنهض بمجملها على مقارعة حصون الرجل وقلاعه العالية المحروسة جيداً في حرب سردية عنيفة تتجاوز الفن إلى الانتقام، روايات هجائية استعراضية تسعى إلى تمثيل عُقَدِها وتحويلها إلى سهام نارية مسمومة طائشة وعمياء، تمزّق كل شيء حولها حتى جسدها الكلامي وجسدها التاريخي الممثل في الرواية شخصيةً وحدثاً ورؤية وفضاءً وحلماً، لذا فقد تميّزت هذه الروايات بالجرأة غير المحسوبة، التي أنتجت ما يمكن وصفه بثقافة الجرأة، التي هي على نحو ما ثقافة الشهرة والنجومية الملحوم بها والتي يسهم الإعلام السياحي في تسويقها.
هل يمكننا في هذا السياق أن نحيل هذه الثورة السردية النسوية على منجزات العولمة؟ وذلك في إطار سؤال العولمة الذي يشمل مرافق الحياة كلّها، فهل يكتفي مفهوم العولمة ثقافياً بسحق الخصوصيات وبناء عالم كلّي بلا جزئيات ولا تفاصيل ولا هوامش، أم أن أعلاء شأن الأنوثة يمكن أن يمثل معطى عولمي ينتظم ويندرج في سياق التماثل والتشابه وإلغاء الفوارق بين المكونات البشرية؟ الخطاب الروائي النسوي هو خطاب ثقافي وإيديولوجي في آن واحد، يعمل على إنتاج لغة سردية مضادّة ضعيفة الإنتاج والصيرورة والتقدّم والنضج، لأنه يسير في نسق خطي واحد، ويخضع لمقولة سردية واحدة، وله وجهة واحدة غير متعددة، على النحو الذي ينتج في هذا الإطار حساسية شبه مريضة تتغذّى على نفسها.
الغريب في أمر الرواية النسوية العربية أنها في المجتمعات المحافظة أكثر حضوراً على صعيد الحجم والتنوع والكثرة منها في المجتمعات الأخرى (الأقل محافظةً)، حتى تحوّلت إلى ظاهرة ـ في الأقل على مستوى الكمّ ـ تستحق الرصد والمعاينة والتحليل والكشف، وكأنها ردّ فعل عنيف على قوّة الكبت والحرمان والقهر والتضييق على الحريات، وربما تتصدّر المرأة الروائية هذه الظاهرة في بعض مفاصلها.
((4))
الجيل الستيني الثري في الإبداعية العربية عموماً ـ شعراً وسرداً وتشكيلاً وسينما وفعاليات إبداعية أخرى ـ هو ((جيل النجوم)) بامتياز، وثمة عوامل كثيرة حضارية وثقافية وإيديولوجية واقتصادية واجتماعية كثيرة وفّرت ولادة هذه الفرصة الاستثنائية لهذا الجيل النوعي في كلّ شيء.
تربّعت المبدعة القاصة والروائية غادة السمّان على عرش السرد الأنثوي بجدارة في هذه المرحلة، وكانت بحق ألمع نجم نسائي أدبي عربي ـ ربما حتى اليوم ـ بالرغم من اعتزالها واختفائها عن الأضواء، ولم تكن هذه النجومية بمعزل عن كمّ إنتاجها الإبداعي ونوعيته وحداثته وجماهيريته، وظلّت حتى وقت قريب من أكثر كتاب وكاتبات الرواية والقصة العربية الحديثة مقروئية، وإذا ما اختبرنا أيّ نص قصصي أو روائي لها بأي نص نسائي قصصي أو روائي بعدها فإن نصّها سيتفوّق، بالرغم ـ طبعاً ـ من تغيّر حساسية التلقي وانحدار مستوى القراءة إثر غزو الفضائيات وسياسة التجهيل التي تمارسها الكثير من المؤسسات المعنية بضرب العقل العربي في الصميم.
القاصة والروائية لطفية الدليمي هي أيضاً من نجوم المرحلة الستينية وتعدّ اليوم من أهم كتّاب وكاتبات القصة والرواية العربية، لم تتوقّف عن الكتابة وتطوّر الكتابة، وقد أصدرت مؤخراً روايتها المثيرة ((سيدّات زحل)) مرافقةً لكتابها السيرذاتي ((يوميات المدن))، وقد تجاوزت كتبها في القصة والرواية والمسرح والدراسات الأربعين كتاباً، فضلاً على إسهامها الحيّ والمنتج في الثقافة العربية طيلة العقود الأربعة الماضية، على النحو الذي تؤكّد فيه الدليمي قوة حضور المرأة في ميدان السرد بحسب الفرضية السابقة.
وثمة أسماء أخرى لا مجال لذكرها ظهرت في هذه الحقبة الستينية الخصبة، وربما ما تلاها، وبوسعنا في هذا السبيل التوقّف عند ظاهرة يمكن وصفها بـ ((ظاهرة أحلام مستغانمي))، بفضل الشهرة والجماهيرية التي اكتسبتها هذه الكاتبة على أكثر من صعيد وفي ظلّ هيمنة السرد الروائي النسوي على هذا النحو.
مستغانمي والرواية السياحية
تعدّ أحلام مستغانمي واحدة من أشهر الروائيات العربيات الآن، وينحصر منجز أحلام الروائي في ثلاث روايات فقط هي ((ذاكرة الجسد/ فوضى الحواس/ عابر سرير)) تعامل البعض معها، أو وصفها بأنها ثلاثية روائية، مع أن هذا الوصف غير دقيق تماماً من الناحية المنهجية بالرغم من وجود فضاءات مشتركة بين الراويات الثلاث، لكنّ مصطلح ((ثلاثية روائية)) مختلف تماماً عن منجز مستغانمي الروائي كما عرفناه مثلاً في ثلاثية نجيب محفوظ ((بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية))، أو عند روائيين آخرين قد تتجاوز الثلاثية عندهم إلى رباعية مثل ((مدارات الشرق)) لنبيل سليمان، أو خماسية مثل ((مدن الملح)) لعبد الرحمن منيف، أو غيرهم من أصحاب الثلاثيات الروائية أو أكثر، إذ إننا إذا سعينا إلى تطبيق الرؤية النقدية المحدِّدة لمفهوم الثلاثية الروائية فإن روايات أحلام لا تنتظم منهجياً في هذا السياق.
منذ روايتها الشهيرة والمركزية في تحقيق شهرتها ((ذاكرة الجسد)) وأحلام مستغانمي هي الروائية العربية الأكثر شهرة والأكثر مبيعاً لرواياتها، وعلى الرغم من خصوصية هذه الرواية وسحرها وإثارتها إلا أنها لا توازي هذه الشهرة، فضلاً على أن الروايتين اللاحقتين لا ترقيان إلى مستوى هذه الرواية، فعملياً ما حقق الشهرة والنجومية لأحلام مستغانمي هي ((ذاكرة الجسد))، وربما كانت الشائعات التي رافقت صدور الرواية واتهمت نزار قباني مرة وسعدي يوسف مرة أخرى في مساعدة أحلام في كتابتها، من أسباب ترويجها والحثّ على تداولها وتلقيها وتسويقها.
تميّزت أسلوبية رواية ((ذاكرة الجسد)) بما يمكن أن نصطلح عليه هنا بـ ((الإنشائية الشعرية))، التي نجحت أحلام في إخضاعها بجدارة للمنطق السردي الذي تحكّم في قيادة دفّة العمليات السردية داخل النسيج اللغوي للرواية، وسرعان ما اجتذبت هذه الأسلوبية جمهور القرّاء وسحرتهم وهيمنت على وجدانهم، وسرعان ما التقط الإعلام حساسية هذه الجاذبية مستفيداً من شعبيتها وجماهيريتها ليلعب لعبته في تحويلها إلى ما يشبه الشائعة، إذ دفعت بالقرّاء المكرسين والعاديين ـ وحتى غير القرّاء ـ إلى السعي المحموم لاقتناء الرواية وقراءتها.
من هنا ولدت قوة الإعلام السياحي واتسّعت هيمنته وقد حوّل أحلام مستغانمي إلى ظاهرة، وراحت هي تستثمر الظاهرة وتطوّرها وتديم شيوعها بكل ما توافر وأتيح لها من سبل وإمكانات وصيغ ومجالات، وتعدّ مرحلة استثمار الفوز من المفاهيم المهمة في الثقافة العسكرية وحتى الثقافة المدنية عموماً، من هنا يمكن الحديث عن نمط روائي نسوي جديد هو ((الرواية السياحية)) التي تنهض أساساً على كاريزما روائية، تغذّي سياحية الرواية وتحثّ الجمهور المتحمّس ـالمنقاد إعلامياًـ على زيارتها والتمتّع بمناظرها الخلاّبة وطقسها الساحر اللذيذ.
((5))
إلى متى يا ترى سيبقى كعب أخيل الرواية النسوية العربية صامداً ومحروساً ومحجوباً عن السهم الطائش، أو السهم المقصود، الذي سيأتيها من الأخ الشقيق ويصيبها في مقتل، وينهي أسطورتها، ويكنس مخلفاتها الهائلة، لتقبع أخيراً في مكبّات فضلات السردية العربية الحديثة، وقد احتشدت بها الأرصفة، واكتظّت بها الطرقات، وتناسلت في الحدائق العامة والمنازل والملاعب والمناطق ((الحرّة!؟)) التي تفصل عادةً بين بلد عربي وآخر، وعقل عربي وآخر، ووجدان عربي وآخر، وعاطفة عربية وأخرى؟ ولا يبقى منها إلا ما هو حقيقي وأصيل وجوهري، وما أقله للأسف الشديد.
( الدستور – شرفات ثقافية )