بداوة الطوارق وتحضر المدينة في رواية نادي الصنوبر لربيعة جلطي



رفيق جلول *

( ثقافات )


 
اختلاف حال الأجيال ينشأ باختلاف أعمالهم وهو ما أسماه ابن خلدون(اختلاف نحلتهم في المعاش) ، وهو يقرر أن الإنسان اجتماعي بطبعه ويجتمع مع الآخرين للتعاون فيما بينهم للحصول على الضروري في حياتهم قبل أن يتدرجوا في الوصول إلى ما هم بحاجة إليه زائد على الضرورة ثم يصلون لمرحلة طلب ما هو كمالي بالنسبة لهم، وهو بذلك يقول أن الإنسان يسعى للحصول على الضروري ثم يحاول الحصول على ما يحتاجه دون ضرورة ملحة ثم يتطور للحصول على الكمالي في المرحلة الأخيرة.



ولعل أول شيء تتطرق إليه الكاتبة الجزائرية ربيعة جلطي في روايتها ” نادي الصنوبر” هو الانتقال من معيشة البداوة والمعيشة الطارقية في الجنوب الجزائري إلى أفق التحضر والغنى في نادي الصنوبر وهذا من خلال الحاجة ” عذرا” أهم شخصية في الرواية والتي تدور الأحداث ورائها ، الحاجة عذرا كما أطلقت عليها الكاتبة والتي غيرت من واقع معيشتها في عمق الصحراء بكل ظروفها المناخية القاسية والعيش في مجتمع ذكوري يحرم على المرأة أن تعيش مثل الرجال ، الحاجة عذرا التي انتقلت بدورها إلى عالم مليء بالغموض وتغيرت من العيش في خيمة أو بيت من طين على شكل أطلال تبكي قسوة الزمن المحنط في مناخه القاسي إلى العيش في قصر لا يرى إلا في أرض الخلود .



الحاجة عذرا التي غيرت المكان ، وغيرت من رائحة الطين التي كانت تستنشقه في احتفاءات الطوارق ومشاهدتها للكأس وهي تستقبل الشاي وتدفقه السريع والقوي واللذيذ .
جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة حضر أن الحضارة تعني الإقامة في الحضر ، أي في المدن والقرى، وهي بخلاف البداوة التي تعني الإقامة المتنقلة في البوادي، فالحضارة خلاف البداوة لأنها تعني الإقامة في الحضر، وهذا النمط مناقض لخصائص وعادات البداوة، فالحضارة والبداوة نمطان متمايزان ومختلفان إلى حد التقابل.
هكذا فعلت الحاجة عذرا وشرحت ما جاء به ابن منظور في لسان العرب إذ بها فسرت مصطلح فلسفة الحضارة التي بقيت غامضة فأتى بصيغة أدبية معقولة .
رغم ذلك لم تتخلى الحاجة ” عذرا” التي تشبه الملكة تينهنان في فحولتها واحتفظت على بداوتها في مدينة تفور وتغلي بما يعنى بالحضارة ، فمصطلح الحضارة عند الحاجة ” عذرا” مرتبط بالتقاليد التي كانت تعيشها في بداوتها والحنين إلى الأهل والأرض ، مع احتفاظها لوجه المحارب المسالم الذي يدعو إلى الارتقاء الحضاري والابتعاد عن العقلية الوحشية ، كما جاء المعنى الذاتي المجرد للحضارة فهو كل مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني المقابل لمرحلة الهمجية والتوحش وخشونة الطبع، حيث تصبح الحضارة نمطا من الحياة تتميز بضروب من التقدم والرقي في المجال العلمي والثقافي والأدبي والاجتماعي والسياسي.
لعل أن شخصية الحاجة ” عذرا” التي مثلت حياة الطارقي الذي يعيش في جفاف الصحراء والتي احتفظت بحبها الكبير للثقافة الراقية من قراءة الشعر والأدب رغم غربتها التي عاشتها في نادي الصنوبر المكان الذي ينتمي إليه أناس ليسوا من طبقتها المفعمة بفحولة الصحراوية تينهينان ، حيث هذا ينطبق على قول العلامة ابن خلدون: ” بأن البدو أصل للمجتمعات كلها وهم تبعاً لذلك أقدم من الحضر”


وبما أن الحضر منشغلون بالضروري والكمالي في أحوالهم، فيستحيل أن يكونوا بحال من الأحوال سابقين على البدو من حيث النشأة، لأن الانشغال بالضروري أقدم وسابق على الانشغال بالكمالي، وبما أن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه فالبداوة أصل للحضارة وسابق عليه، وخشونة البداوة قبل رقة الحضارة، والمدنية غاية للبدوي يجري إليها، ومتى ما حصل
على الدعم فيها وصل إلى قيادة المدينة.
الحاجة ” عذرا ” جاءت في زيّ بدوي لتتحول إلى زيّ حضاري من خلال رجاحة العقل واحتفاظها بتقاليدها الخاصة بها وبقبيلتها الصحراوية ، فخلاصة القول من خلال قراءة رواية نادي الصنوبر للكاتبة ربيعة جلطي هي : أن قيمة التحضر ليس في تغيير المكان فقط بل الاحتفاظ عن منطق الأخلاق والتقاليد التي يتصف بها البدوي رغم قسوة المناخ الذي كان يعيش فيه ، التحضر ليس الانتقال من الأحسن إلى الأسوأ ، التحضر أن نعيش في ثقافة راقية ببلاغة المكان الذي نتعايش فيه .

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *