محمد الخطابي *
( ثقافات )
هذا النصّ المقتضب مستوحى من قراءة سريعة متأنّية لنصّ آخرأخّاذ حول هذا الصّقع الجميل “الأندلس” الذي دأب العرب على تسميته ب “الفردوس المفقود” ، وهو كتاب”البحث عن أبي عبد الله الصّغير” للأديب والشّاعرالصّديق أمجد ناصر الصّادرعن منشورات” كتاب فى جريدة “(عدد 134 بتاريخ 7 أكتوبر2009 ).
الفردوس المفقود
أيحقّ لنا حقّا أن نسمّي الأندلس “بالفردوس المفقود”..؟ سمّوه فردوسا، ولكنّه ليس مفقودا كما وهموا، إنّه هنا حاضر الكيان،قائم الذات،إنّه هنا بسيره وأسواره،وبقاياه وآثاره، ونفائسه وذخائره،إنّه هنا بعاداته وطبائعه، فى عوائده وأهوائه،إنّه هنا فى البريق المشعّ، فى المدائن والضّيع والوديان،فى اللغة والشّعر، والعلم والأدب،، فى لهجة القرويّ النائي، والفلاّح المغمور،إنّه هنا فى الإباء العربي، والحزازات القديمة،التي ما تزال تفعل فى ذويها فعل العجب .
الأندلس.. أيّ سرّ أنت كائن فينا وبيننا ؟ أيّ سحر أنت تائه فى طيّات الألسن، ومخادع القلوب ؟
يتساءلون وقد علت جباههم علائم الشدوه، وأمارات السؤال، كيف حدث ذلك ؟ كيف استطاعت سنابك خيولهم المسوّمة بقيادة طارق الفاتح أن تطأ ثرى هذه الأرض البكر، وتقام أسس حضارة عريقة أشعّت على العالم المعروف فى ذلك الإبّان ،وتنير دياجي الظلام فى أوربا دهرئذ.
يتساءلون كيف تسنّى لهؤلاء القوم الغبر الوشاح، البداة الجفاة أن يضطلعوا بكل ذلك؟ وتزداد حيرتهم ، ويتفاقم ذهولهم ، كيف دانت لهم الدنيا، ودالت لهم الدول؟ كيف أمكن لهم أن يروّعوا كسرى فى إيوانه ؟ وأن يجعلوا الرّومان يفرّون تحت وخزات الرماح ، وثقل الصفاح ؟إنّهم ليسوا قوما قساة عتاة كما وهموا ، بل إنهم قوم فاتحون ، مبشّرون بحضارة وعلم وعمران وتاريخ.
هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها هياما ، ثمّ سرعان ما خبت الضياء، وجفّت المآقي، هذه الواسطة فى عقد من جمان، مرصّعة فى جيد الزّمان، كيف وهنت قلادتها ؟ وتناثرت حبّاتها ، وانفرط عقدها ؟ وتحوّلت إلى عبرات تبكي العهد والجدّ والدار ؟ .
هكذا كانت البداية ثمّ أفلت الشمس بدون شروق قريب، وغاض النبع الرقراق،ولم يبق سوى وميض خافت نتلمّسه هنا وهناك ، سرعان ما تحوّل إلى بريق مشع ّقويّ نفّاّذ ، تراه فى هذه الأعين النجل ، والحواجب المزجّجة، ذات الملامح العربية الدقيقة ، التي تحملك فى رمشة عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جنان الرّصافة والجسر،أو تتيه بك فى غياهب المسافات السرمدية اللاّمرئية.
الاندلس .. إنّها هنا فى العادات الشرقيّة الجميلة ، فى رعشات الأنامل ، وإنحناءاتها، فى ضربات الأكفّ والأرجل المتوالية المتناغمة التي تذكّرك بمرّاكش الحمراء ، وبجرش والبتراء ، وبزحلة الأرز ،وحماة القاهرة. إنها هنا فى هذه الأقراط العربية المدلاة عبر جيد فى بياض النرجس، بضّ ناصع ، ذوذوائب فاحمة، إنّها شامخة فى قصر الحمراء، وجنّة العريف،فى الزخارف والأقواس، فى نقوش المرمرالمرصّعة، وإفريز الخشب المحفور، إنها فى نوافير المياه ، والبرك والسواقي ،فى الموشّحات والأزجال والخرجات ،إنها هنا فى هذه الرّاح التي لا تلبث أن تتحوّل إلى روح متلألئة حيّة قائمة محاورة .
أيّها النائي القريب ، إنهم يحنّون إليك ، ويتغنّون بك وباسمك ، قلوك زمنا ، ولكنهم سرعان ما فاقوا من سباتهم ، وثابوا إلى رشدهم ، وتخلّوا عن نكرانهم ،فراحوا يشيّدون لك الأبنية والمجسّمات والتماثيل المخلدة،ولكنهم فى خبل من أمرهم ، ذلك أنّ ربيعك دائم متجدّد، لا تراه الأعين ، ولا ترمقه إلاّ في الحدائق والجنان ، أو على ضفاف الأنهار المنسكبة ، والجداول المنسابة ، بل إنّها فى النغمات والآهات، والخطى والعيون والحواريّات ،إنّها ربيع طلق ضاحك لا يعقبه صيف قائظ،، بل يتولّد منه ربيع تلو ربيع .
إنّهم يتأوربون أحيانا أكثر من الأوربيين أنفسهم ،وأحيانا أخرى تشطّ بهم الأحلام بعيدا بعيدا ولكنّهم فى كلتا الحالتين أبدا ملتصقون بأرضهم العربية الإسبانية، فخورون بأجناسهم ، مزهوون بمحتدهم، وتاريخهم الحافل،وعاداتهم الدخيلة، ولغتهم المزدوجة، وتقاليدهم العريقة ، قالها “ماتشادو” ولوركا” و”ألبرتي”و”دامسو” و”أليكسندري”و”خيمينيث” مثلما قالها قبلهم “إبن زيدون” وابن هانئ” وابن عبد ربّه ” وابن زمرك ” و”ابن الخطيب”و”ابن سهل”، وسواهم .
هديل الحمام
يضحكون منك وعليك ،وهم فيك ومنك وإليك ، ينكرون طبائعك وعوائدك ، وهم الذائدون عنها.
هنا حطّ الشاعر يوما رحله، بعد أن هجر القصروترفه، والشعرولغوه، بعد أن بنى معبدا للصّلاة، فكانت له جنّة الخلد هنا فى هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، بعد أن خلّف وراء ظهره ثماني من الرّواسى الرّاسخات ، إنها تعدّ عدّا،ضاربة جذورها فى عمق التاريخ ، تعلو في عنان السماء، ألوانها مزركشة زاهية يعانق قوس قزحها الآفاق البعيدة، معلنة للملأ أجمعين أنها ما زالت ها هنا قائمة الذات، ثابتة، في الصوروالمنقوشات ، فى الدّور والقصور، فى الحمراء وجنّة العريف، وبرج الذهب، والخيرالدا، والجعفريّة، وقصر الظفرة ،وفى القلاع الحرّة، والحصون المنيعة،وفى الرّقصات والعيون، و فى العقل واللسان والجنان.
إنها ها هنا تسلب لبّ العاشقين ، وتروي صدى وأوام الهائمين،من دوحها إنطلق هديل حمامة نائحا ذات مساء، حزينا، باكيا، شاكيا،يلقّن المحبّين والعاشقين أصول الهيام والهوى، والصّبابة والجوى،إنهم لا يمقتونك، بل معجبون، إنهم يفرّون منك إليك، يغيبون بك عنك وإليك، فيظنّون أنهم أنت..
الأندلس هذا النهر الجارف المنهمر، من يستطيع الغوص فيه، أو الدنوّ منه لآب إلى النّبع الاوّل ، هذا الوادي الرقراق الذي شقّ النسيم عليه يوما جيب قميصه، فانساب من شطّيه يطلب ثاره، فتضاحكت ورق الحمام بدوحها هزءا ، فضمّ من الحياء إزاره. الأندلس هذه الفاكهة المحرّمة المعلقة فى شجرة ليس لها جدع قائم ، من يطولها يطول الخلد ، وتعود إليه الحياة فى ثوب قشيب جديد متجدّد. الأندلس هذه الأغرودة الحلوة الحالمة التى تنطلق عند الأصيل،من حنجرة رخيمة (لفلاّح منكوب) ” فلامنكو”.. على ضفاف العيون المسبلة ، تتمازج فى رونق بديع مع ترانيم وتغاريد الطيور، ووجه المليح مشعّ مثل الثريّا ، والساقي المؤدّب يسقي بالأواني البندقية ، والعيدان تصنع تواشي، فلا يملّ السّمع منها ولا يشبع ، ولا يكلّ اللحظ ولا يدمع ،هذا الحسن الباهر، والجمال الظاهر، هذه الأنثى الهائمة المخصاب التى تغنّى بمفاتنها الشعراء، وصدح ببهائها المنشدون، فجاءت هاشّة باشّة، فرحة، جذلة ، كغادة أو غجريّة حسناء حالمة إنسدل شعرها الحريريّ الفاحم على الخصر حسنا.
صدقت أيها الشاعر العاشق الولهان ، صدقت أيها الشاعر المكلوم، وصدق حبّك للأرض الفردوس ، وللمرأة الولود ، كيف لا وحولك ماء وظل وأنهار وأشجار.
أبو عبد الله المكنّى بالصغير
شكرا لك أيّها الشاعر الرّاوي المتيّم ، نصّك سجّاد طائر، وسردك زورق من ورق بلّوري ساحر، ينقل قارئه فى رحلة ممتعة إلى عمق التاريخ،عبر قارب إسمه اللغة فى أرقى مظاهرها، وأبهى حللها ، لتطير أو تطوف به على ثبج الزّمن السرمد، وغياهب المسافات، مهما شحط المزار، أوبعدت الديار، جلمك الأعلى ربّان يجيد فنّ الإبحار فى مباهج اللغة وشواردها، أشرعتك كلماتك الموفية، و بوصلتك أسلوبك السلس،الذي يأخذ بمجامع القلوب، بإجادتك فنّ الغوص، أخرجت لنا تلك الذررالنفيسة، والصدفات المتلألئة التي ترصّع فلكك ( بضمّ الفاء) بالقوافى الغرّ، والقصائد الموشية. تقتفى آثار أبي عبد الله الصغير،باحثا عنه فى سديم الليالي والدياجي الحالكات بمصباح ديوجين لرصد آهاته وزفراته، وتسجيل حسراته وتنهيداته، اقتفاء الشاعر المعنّى نيرودا لآثار أرجل النوارس على الرّمل، رحلتك متعة وفائدة وهي عبرة لمن يعتبر ،فالعبرة أمّ الخبرة ، والتاريخ ما زال معلمنا الأوّل والأخير، فهل من مصغ ، وهل من متّعظ ،” كفّ إذن عن قراءة التاريخ،واقرأ الحاضر لترى كيف تعود الصور، وتسترجع المعاني ما رسب فى قعرها من ثمالات”. أبوعبد الله الصغير صغر فى أعين الناس ، ولكنه كبر فى أعيننا بسردك البليغ الذي ينبض حياة وحيويّة ويتدفّق خصوبة ونضرة، لقد” إرتقيت بأنفاسنا “بحلو كلامك، وطلاوة بيانك،ولكن سرعان ما إنهدّت قلوبنا مع تنهيدة أبي عبد الله، لحظة التسليم المذلة، التي ظلت وصمة عار مرسومة على كل جبين، بتنازله المخزي عن درّة المدن،وبهجة الحواضرغرناطة الحمراء آخرمعاقل المسلمين فى هذا الفردوس المأسوف عليه ، وهو واقف بسفح جبل الرّيحان ، يسلم مفاتيح المدينة للملكين الكاثولكيين ، ثمّ يلوى عنان جواده موليا، ويقف من بعيد يودّع ملكا ذهب، ومجدا ضاع،وجاءت كلمات أمّه له مرّة كالحنضل،قاسية قاصمة زادته ذلّة وضعة عندما رأته يبكي لخذلانه وسوء رأيه فقالت له:” إبك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال”. الرّابية أو الأكمة التي ألقى منها آخر نظرة وآخر زفرة على غرناطة وقصر الحمراء ، ما زالت تسمّى باسمه حتى اليوم. إنّه :” وتر تحطّم في قيثارة الليل”، و”جفّت دموعنا على غرناطة الأولى،وبكينا أخواتها اللاحقات”.
وأختم كما ختم الشّاعرالألمعيّ الهائم والمتيّم فى الأندلس، وماضي الأندلس، وشعر الأندلس،وأدب الأندلس، وموسيقي الأندلس، وتاريخ الأندلس، ورفاهية وترف الأندلس، وعمارة وحصون الأندلس،بهذه الأبيات لإبن زمرك التي خطّت على حاشية مرمر مسنون، وذهب موضون ببهو الأسود، يقول فيها:
يذوب لجين سال بين جواهر
غدا مثله فى الحسن أبيض صافيا
تشابه جار للعيون بجامد
فلم ندر أيّا منهما كان جاريا
ألم تر أنّ الماء يجرى بصفحها
ولكنّها سدّت عليه المجاريا
كمثل محبّ فاض بالدمع جفنه
وغيّض ذاك الدمع إذ خاف واشيا
قال الشّاعر الغرناطي الذائع الصّيت ” فيدريكو غارسيا لوركا ” معلقا على هذه المأساة :” لقد ضاعت حضارة رائعة لا نظير لها ،ضاع الشّعر، ضاعت علوم الفلك ، ضاعت الفنون المعمارية، وضاعت حياة مترفة فريدة ، لا مثيل لكل ذلك فى العالم أجمع”.
وقال” بلاسكو إبانييز”: «جعل العرب إسبانيا في ذلك العهد كالولايات المتحدة الأمريكية يعيش فيها المسلم والمسيحي و اليهودي بحرية تامة و من غير تعصب ،و عندما كانت دول أوربا تتطاحن في حروب دينية وإقليمية فيما بينها، كان العرب و الاسبان واليهود يعيشون بسلام كتلة واحدة وأمة واحدة،فزاد سكان البلاد ، و ارتقى فيها الفن، و ازدهرت العلوم و أسّست الجامعات. سكن ملوكها القصور، وعاش شعبها في الرخاء ، بينما كان ملوك بلدان الشمال يبيتون في قلاع صخريّة سوداء و شعوبها تعيش في أحقر المنازل” .
كتاب ” البحث عن أبي عبد الله الصغير “للشّاعر الرقيق أمجد ناصرفيه غذاء للنّفس، والعقل، والرّوح ، والوجدان معا ، ما أحوج النشء الصّاعد فى عالمنا العربي إلى هذا الغذاء ،إلى معرفة تاريخه، وماضيه، وأمجاده ، والنّهل والإستفادة من عبره، ودروسه ، وإشراقاته ، وإشعاعه ( فالحضارات دول.. والسؤدد برهة).