سميرة عوض – عمان
وسط حضور استثنائي ملأ كامل مقاعد البيت الرئيسي لدارة الفنون، عدا عن وقوف العشرات ممن لم يجدوا مقعدا، ولم تحل امطار عمان الغزيرة ‘الثلاثاء’ دون حضورهم، ففي أجواء احتفائية وقع الشاعر والروائي الأردنيّ أمجد ناصر كتابه الجديد ‘بيروت بحجم راحة اليد’، بعد ندوة مستفيضة أقامتها مؤسسة خالد شومان- دارة الفنون، قدم لها وأدارها د.فيصل دراج المستشار الثقافي لدارة الفنون،كما قدّم الروائي والناشر إلياس فركوح قراءة طويلة ومعمقة في الكتاب استناداً إلى تجربتهما الشخصيّة المشتركة بعنوان ‘بيروت: حَجَرُ التجربةِ وشرارتها’، قوطعت بالتصفيق غير مرة، فضلا عن حوار شمولي مع الحضور عن الكتاب، والتجربة، وعن دور المثقف العربيّ في التغيرات الجذريّة الحاليّة.
الياس فركوح: ‘بيروت: حَجَرُ التجربةِ وشرارتها’
وفي استهلاله المعنون ‘بطولةُ الأخلاق’ يقول إلياس فركوح: ‘ثلاثون سنةً مَرَّت على حِصار بيروت، وها كتابُ أمجد ناصر، أحد الذين عاشوا الحِصارَ من داخله يُنْشَر، ليسجِّلَ ما جرى كما هي اليوميات بوقائعها الحَقَّة، طازجة، بلا تزويق أو تزوير. ليس كلّ ما جرى فهو لا يَدّعي هذا أبداً، كما لا يَدّعي بُطولةً من أيّ نَوعٍ يُتباهى بها، أو يبتزُّ بحكاياتها سِواه، أو يعملُ بموجبها على إضفاء ‘شرعيّةٍ’ ما على مسلكياته اللاحقة، أو يُسَخِّرُها أداةَ تشهيرٍ بآخرين. ولعلَّ هذا، من وجهة نَظَري، يشكّلُ بطولةً في ذاتها. بطولةً أخلاقيّةً في المقام الأوّل. بطولةً وموقفاً يتوازيان مع كُلّ أشكال ‘استنفاد رصيد الماضي باجتراره وعَصْره حتّى رَمَق الإعلام والإعلان الأخيرين’، واستثماره من جديد في دورةِ تَكَسُّبِ بُطولاتٍ وأوسمةٍ وتيجان باتت موضع شكٍّ وريبة. بطولةً وموقفاً يتوازيان ويناقضان كلَّ ما سبق، بل وينقضه أيضاً. ففي غير سياقٍ ألْمَحَ أحياناً، وصَرَّحَ أحياناً، بأنَّ الخوفَ إذا ما كان نقيضَ البطولة-؛ فإنّ الجميعَ ليسوا أبطالاً بهذا المعنى.
ويؤكد فركوح ما ذهب ناصر اليه بخصوص ‘الخوف’: ‘كثير من المثقفين يخشون أن تظهرَ عليهم آثارُ الخوف والتوتر، يبدو الأمر معيباً، مع أن الخوف شعورٌ إنسانيٌّ طبيعي’. ص 76. ومع ذلك، ثمّة الاستثناء، لكنه الذي يَرِدُ ‘عجيباً’ ليؤكدَ القاعدة: ‘الكلام يتكاثر، على كلِّ حال، عن الخوف الذي أصاب مثقفين فلسطينيين ولبنانيين وعرباً هذه الأيام. هناك مَن يظهر بعد توقف القصف ليحاول أن يُبعد الكلام عنه. هناك مَن اختفى ولم يظهر حتّى الآن. ولكنَّ الخوف حقيقي. مَن لا يخاف؟ ربماغالب هلسا. إنه رجلٌ بلا أعصاب. بارد إلى حدّ الإزعاج. لعلّه الوحيد الذي لم أرَ علامةَ خوفٍ أو توترٍ عليه حتّى في أسوأ لحظات القصف.’ ص 45. و’قالَ غسان (زقطان) إنّ غالب شخص عجيب.’ ص 59. جاءَ هذا إثر حكاية عدم تراجع غالب هلسا عن البقاء رغم الخطر، تلبيةً لدعوة موقع مقاتل في الخطوط الأماميّة له ‘لأكلة ملوخيّة’!
أكثر من وصف لحالة الخوف تَرِد في اليوميات، فمثلاً: ‘مكثتُ فترة من الوقت عند غسان لألتقط أنفاسي والسيطرة على أعماقي التي تنتفض’. ص 39، و’لكنّ الوعي بدورنا لا يعني أنّ القلبَ لا يرتجف عندما تنقضُّ الطائرات على رؤوسنا. الوعي، لحظتها، يفقدُ وعيه وتشرئبُّ الغريزة.’ ص 40.
ما أريدُه، هنا، هو إعمالُ التفكير بجوهر ‘البطولة’ ومعناها الأعمق. أهي التحلّي بالشجاعة الفائقة، بالجرأة الكاسحة، باقتحام الموت؟ أم هي انسجامُ الذات الإنسانيّة مع شروط تكوينها الأساسيّة، وإيقاظ كامل قِواها الروحيّة والجسديّة من أجل الدفاع عن كينونتها، دون التخلّي عن شرط احترام هذه الذات لذاتها أوّلاً، وذلك بحفط ‘كرامتها’؟ وكيف يصير لهذين البُعدَين أن يتجليا في المسلكيات وردود الأفعال؟ هل ثمّة ‘قواعد’ و’أُصول’ و’صِيَغ’ قارّة مُتفقٌ عليها، أم أنّ المسألة برمتها مفتوحةٌ على احتمالات شتّى؟ ليس لديّ أيّ جوابٍ حاسم أطْمَئنُّ إليه (مَن لديه فَلْيَقُلْ)! غير أنّ ‘أفعال البطولة’، مثلما تُروى في الحكايات من خارجها، إنما هي صادرةٌ عن ‘ذواتٍ تخاف’ لأنها، ببساطة، لا تملكُ قلوباً من فولاذ. ولكن، يبقى هناك مِعيارٌ أراه لازماً، مهما كانت الظروف بشعة في قسوتها؛ ألاْ وهو الرجوعُ إلى مبدأ الأخلاق المتمثِّل في ‘الصدق’ نقيضاً أولاً وأخيراً لـ’الكذب’ و’التدليس’ ـ حِرْفَةُ الذين يريدون جَمْعَ أموالِ الدنيا وأمجادِها، ولَبَنِ وعَسَلِ وخَمْرِ وحورياتِ الآخرة! فهل يستقيمُ هذا مع ذاك دون خسارة أحدهما؟
أمجد ناصر لم يَخُض هذا المضمار، ولم يَسْعَ للفوز في هذا السِّباق؛ ولهذا كان رابحاً لنفسه، شِعارُه الصدقُ جوهراً للأخلاقِ وجوهرةً لكتابه.
إلى التجربةِ؟ فَلْيَكُن!
ويستعيد فركوح التجربة وهو شاهدها: ‘قبلَ ثلاثينَ سنة حاصرَ شارون بيروت مدججاً بكامل آلته الحربيّة، فكانت أوّل عاصمة عربيّة تتعرض لقبضة الافتراس الصهيوني وشراسة نيران جحيمه، وسط موتٍ عربيٍّ عميم! حوصرَت بيروت، فاستحالت صغيرةً بحجم راحة اليد. بذلك، وسعياً مني لقراءة راحة تلك اليد التي بَسَطَها أمجد ناصر عبر كتابة يومياته فيها، بخطوطها المتوازية والمتقاطعة، كان أن شرعتُ بقراءته هو: الفتى الذي عرفته وقتذاك باسم ‘يحيى النميري’، وأمجد ناصر الحاضر الآن ـ شخصاً، وكتابةً: الفتى الشاعر التَوَّاق المنفلت من ‘جَفاف’ بلده الموصوف من قِبَل مواطنه غالب هلسا ‘.. إنّ الأردن مكان طارد للإبداع!’ ص 45، فكان عليه، والحال هذا، أن يذهب إلى ‘هناك’: بيروت، مدينةُ الأحلامِ العربيّة على اختلاف صَباباتها: الثقافةُ واحتدام نِقاشاتها إلى جوار السلاح وقعقعاته، مقاهي الأرصفة ومعسكرات الفدائيين، الشِّعرُ يتداخلُ في ألياف الأفكار وتلافيف الأيديولوجيات، الذاتُ تنصهرُ بسبائكِ التناقضات الجماعيّة لتتخلّقَ كينونةً أُخرى، كاميرا السينما المقاتلة فوق الكتف تماماً مثلما هو الآر بي جيه، الحُريَّةُ رِئةٌ بوسع الأبيض المتوسط وأكثر. إلى ‘هناك’ خرجَ الفتى باحثاً عن صَوتٍ يستشعرُ وجودَه في داخله، لكنّه لم يكن قادراً على التنبؤ بماهيته. إذَن؛ فلتكَنْ التجربةُ هي الرِّهان، وعلى حَجَرها تنقدحُ الشرارة.
ويرى فركوح، أن ناصر ربح الرهان: ‘وربحَ الفتى الرهانَ، وإني أراهنُ بدوري على هذا مستنداً إلى كيفيّة قراءتي لشخصه ولكتابته في آن. فقراءة أمجد ناصر، شِعراً ونثراً وسرداً حُرّاً وروايةً، تقودني لأن أشهدَ على أنْ لا قلاقلَ أساسيّة حالت دون أن يرتقي صوبَ اجتراحه لِنَصِّه الخاصّ. وئيدةً كانت خُطاه، لكنها تَسَلَّحَت بمراكمةٍ ثقافيّة دؤوبة، واستدراكاتٍ واعية للمكتوب، وجَسَارةٍ في خَلْع التَّكلُّف عن اللغة، وتنظيف الصورةِ من الزخرفة الخادعة، ونبذ المبالغة في رسم المشهد. بحجم المُعطى، كما يراه، يُكتب النصُّ ليكون هكذا.. وربما، لغير المكتفين بالظاهر والبائن، ليُصبحَ مدعاةً للتفكُّر وتقليب الأوجه’.
ذلك كُلُّهُ يمكن أن يُقْرأ في يوميات حِصار بيروت 1982 كاستهلالٍ تابَعَهُ أمجد ناصر، في ما بعد، في توالي كتاباته، مُنْضِجاً إيّاهُ عبر سنوات ‘التجربة’. ففي ‘العودة إلى الفردوس المفقود! أو: لستُ راعي الذكرى ولا مُدبِّر الحنين’، الجزء الثالث من الكتاب، المخصص للكتابة عن أثَر المكان على العائد إليه بعد أربعة عشر عاماً، كثيراً ما نقع على التماعاتٍ تُجبرنا على التوقف وإعادة القراءة واستخراج الصورةِ من الدلالة والمعنى، بما يعاكس المألوف القائل باستخراج الدلالة والمعنى من الصورة (إنها مخاتلةُ الشِّعر للنثر على نحوٍ تبادلي). وإني، لاندهاشي بقدرة اللغة وتركيبها على لَظْم طَرَفيْ الصورة ومعناها ودلالتها في صياغةٍ كأنها صدى الأعماق، فلسوف أُورِدُ اقتباسين/ قَبَسَيْن مما أرى فيهما وميضاً شَقَّ صفحةَ السماء لكنه لم ينطفئ: ‘ليس وعيي بالمكان كافياً ليوجد، وليس وجودي فيه كافياً لأكون. كأنني مجرّد طيف يجلس على طاولة في شمس الصباح يحاول أن يتلمس أطرافَه الأثيريّة. لا طعم القهوة يردّني إلى ما كُنته ولا ديكورات المقهى ولا وجوه روّاده ولا المارّة ولا الشمس الطفيفة التي تسقط على يديَّ المبسوطتين في حياد على الطاولة.. تُقرِّبُ الذكرى من الواقع. إنني ما أزال، على ما يبدو، في نصّ المكان، في تخيّله، في ذكراه، لا في المكان نفسه.’ ص 196-197.
‘.. فلا معنى ولا موقع للفصاحةِ والتماسُك في واقعٍ ركيك مفكّك.’ ص 219.
غادرَ الشاعر الماركسي يحيى النميري عمّانَ، بلا ديوانٍ أوّل، إلى بيروت، إلى ساحات التجربة، مبتدئاً رحلةَ التحوُّل فيه باستبدال اسمه، مختاراً لهويته التي شرعَ بخلقها عنواناً هو ‘أمجد ناصر’. وهكذا كان: خاضَ التجربةَ لأعماقٍ أرته ما هو دفينٌ فيه. وأرته، أيضاً، الفارقَ بينَ الشاعرِ المتمدد في الروح، والأيديولوجيا المتخندقة في الرأس. بين نَزْف الدم وتناثر الأشلاء في الشوارع، واندلاعات الأخيلة وحرائق القلَق على الورق. فهل ثمّةَ وجوبٌ لهذا ‘الفارق’ الذي أدّعيه أنا؟ أقتربُ من التأكُّد ولا اًصِلُ حَسْمَ اليقين؛ إذ أنّ شوائبَ الـ’هنا’ والـ’هناك’ تبقى عالقةً بتلابيب المسألة وسؤالها. وربما لهذا كان تسجيلي لانتباهة أمجد المكتوبة كالتالي: ‘لعلّني لم أفكّر، آنذاك، بأنني أؤلف بين حدَّين: حدّ القلق وحدّ اليقين. وإلا كيف كنتُ ماركسياً متصلباً ولم يُشجني التغنّي بالثورة والطبقات الكادحة في القصيدة؟’ ص 186.
أُناسٌ عاديّون واللحظةُ استثناء
وتابع فركوح: ‘في تدوينه لأحداث يوم 27 تموز، حيث كانت الطائرات الإسرائيليّة تصولُ وتجولُ في سماء المدينة قاصفةً وحارقةً ومُدَمِّرةً وناشرةً الموتَ أينما كان، كتب أمجد ناصر: ‘كيف للغة أن تكتبَ الموتَ لا كلمة الموت، أعني الموت نفسه، بل الرعب الذي يسبق الموت؟ لغتي قاصرة. لغتي كلمات. والكلمات ليست حياة وليست واقعاً وليست حقيقة.’ ص 86. ولِحالةِ الخروج الجماعي للمقاتلين (الأقرب إلى ملحمةٍ إغريقيّة) من بيروت محمولين على السفُن الأميركيّة، ولليوم الثاني 22 آب، وصفَ تفاعلات المشهد كالتالي: ‘في تاريخنا العربي لم نعرف مثل هذه اللحظة الملتبسة: نصرٌ وهزيمةٌ وخذلانٌ معاً.’ ص 127. إنه الارتباكُ الشالّ يتجلّى في الكلمات العاجزة، وشَواشُ الالتباس يضربُ الروحَ والعقلَ بلا تمييز! كأنه يومُ الحَشْر سَبَقَ ميقاتَهُ وغَيَّرَ مكانَه! لا أحد، سوى دهاة السياسة ودهاقنة ألاعيبها (مُريدو أموال الدنيا وجِنان الآخرة)، بوسعه استيعاب ما جرى: كُلّ ما جرى واختلاق مبرراته؛ وإلّا فإنَ الكُفْرَ حَلالٌ لجميع الناس العاديين الذين لم يجنوا، بصمودهم الإنسانيّ النبيل، سوى تلك الخاتمة. ‘ثمّة شعورٌ يجوس في أعماقنا أنّ حياةً بأكملها تنتهي الآن’. ص 110. أُناسٌ، مهما تحلَّوا بالمعرفة والثقافة والشِّعر، أو تحصنوا بالفكر والأيديولوجيات، إلّا أنهم، في جوهرهم، عالقون (ونحن معهم) بحروف السؤال: لماذا هذا الموتُ، كانَ ولم يزل ويبقى ما بقيت دُوَلٌ لا نتفيأ ظِلاً لها لأنها، مهما كانت شعاراتها بَرَّاقةً، فإنَّ الكِذبَةَ فيها تفوقُ الحقيقةَ، أو حقيقتها الكاذبة باتت تتعرّى – وهذا قَوْلٌ صحيح. فالكِذبةُ، كما نعرف، لا ظِلَّ لها.
البطولةُ، في حصار بيروت، رمزيّةٌ بكلّ معاني الكلمات ودلالاتها، لا بالكلمات نفسها.
وأبطالها أبطالٌ، لأنهم ما كانوا سوى أُناسٍ عادّيين عاشوا لحظةً استثنائيّةً وما خَرِبَت أرواحهم- وإنْ عَفَّرتها الريح.. إلّا مَن ارتضى لنفسه أن يكونَ كاذباً’.’الناس المغمورون هم أبطال الحروب، وهذه الحرب يشارك فيها الجميع. مَن يقاتل، مَن يكتب، مَن يفتح فُرناً، مَن يوزع جريدة، مَن يبيع خضاراً، بل مَن بقي في بيته ولم يغادر.’ص 91.
‘للنساء اللواتي يظهرن في الشرفات ويتحرَّكن في دواخل الغرف بثياب النوم رائحة أُلفة أفتقدها. هنَّ اللواتي يعطين للحياة معنى. مجرد وجودهن إشارة إلى أنّ الحياة لا تزال متواصلة رغم كلّ شيء’. ص 30.
‘كثيرون تحدثوا بعد ذلك عن البطولة وأنا العائدُ إلى مسرح الموت لا أتذكّر، الآن، سوى الخوف. أتذكّر اللحظات التي تأرجَحَت فيها الروح بين القذيفة والصاروخ، بين انقضاضتين للكواسر المعدنيّة. تعود إليَّ تلك اللحظة التي أُفرغَ فيها القلب من الخفقان عندما اندفع إلينا في قبو ‘المجلس الثوري لحركة فتح’ غُبار بناية أبو إياد المجاورة. رغم ماركسيتي وجدتني أنطقُ بالشهادتين! سيأخذُ الربُّ وديعته عمَّا قليل’. ص 214.
لكنَّ الكاتبَ لم يحن ميقاتُ قَطْفه بعد، والكِتابُ بين أيدينا يدفعُنا لِنَفْضِ غبارِ ذاكرتنا. أو لترميمها وتصويب بوصلتها. أو لتأسيسها من جديد، بِوَعْيٍ جديد.هكذا نُخرجُ بيروتَ من حصارنا نحن لها. هكذا نعودُ إليها وادعينَ بغير سُفُنٍ تظلُّ أمريكيّةً أمريكيّةً وإنْ رفرفت فوقها راياتٌ خُضْر، تُزيّنها سيوفٌ ليست مسلولةً وليست باترةً أبداً.
ناصر: لماذا ظلت بيروت بطولة منسية؟
من جهته قال أمجد ناصر في كلمة عفوية: ‘كلمات الصديق د.فيصل دراج، وكذلك الصديق الياس فركوح لامست التجربة بشكل عميق، خصوصا وأن الياس الصديق الأول لي في بيروت، رفيق الخطوة الأولى، فلا مقاربة وقتها بين المدينتين عمان وبيروت، وربما ما لا يعرفه الياس أن جزءا من علاقتي به أنني، انتهازي، إذ أنني كنت أصمت، وكنت استمع له لأتعرف على المدينة التي كنت أعرف أنها مدينة من ألف ليلة وليلة، رغم أنها لا تبعد كثيرا عن مدينتي، لكن شتان ما بين المدينتين، فعمان المدينة الخائفة المجروحة الطالعة للتو من جرح عميق اسمه ‘أيلول’، فيما بيروت مدينة اخرى تفتح على جهات العالم كله، وعندما نتحدث عن بيروت، فنحن نتحدث عن كل ما فيها، وبالطبع عن الحركة الفلسطينية، لكننا في الوقت نفسه نتحدث عن اخر كتاب صادر للتو، وعن اخر فيلم انتج في اوروبا أو غيرها، نتحدث عن أفكار تتلاقى وتتلاقح، بيروت كانت مدينة عالمية بامتياز، ربما ما اقوله الان هو نوع من التغني بالمدينة، ربما، فالذاكرة تصنع الأشياء، أو تجملها، لكن الأصدقاء الذين عاشوا في بيروت يعرفون انني قللت من شأن المدينة، والياس كان المفتاح السحري للمدينة.
خرجت من بيروت، ولا أريد أن أتحدث عن سيرتي- إنها ليست سيرتي، إنها سيرة مدينة قاومت ببسالة لمدة ثلاثة أشهر من الحصار الاسرائيلي الضاري.
وأتفق ناصر مع ما ذهب اليه فركوح بخصوص اليوميات ‘فأنا لسبب او لاخر لأنها كتبت في تلك اللحظة، وتحمل النبض المتوتر والمتشدد، ولهذا ربما معه الحق الياس في أنها، ربما، لا تحمل قيمة فنية كبرى، ولكنها في وقته وزمانه’، واليوميات هي الجزء الأول من الكتاب، والجزء الثاني والجزء الثالث هو العودة لبيروت بعد 14 عاما من الخروج منها، وهو نص يشبه ‘قص الأثر’، لكنه أصبح ‘عضويا’ في الكتاب الذي لم يكتب ليكون ‘كتاب’، النص الأول هو الأساسي، وقد سبق وأن نشر في صحيفتي ‘القدس العربي’، و’النهار’.
وزاد ناصر: ‘اتساءل ورشاد أبو شاور أمامي -عن سر غياب الكتابات عن بيروت، وهو يعرف أن كتابات قليلة كتبت عن هذه التجربة، إذ لم يحصل من قبل أن يقاتل أناس بعتاد قليل جيشا جرارا، ويقاوم ضراوة النيران التي تشكل ‘طبقا’ من صفيح فوق رؤوسنا، رغم أن عددا كبيرا من الكتاب العرب واللبنانيين والفلسطينيين ـ بالمئات- شاهدوا التجربة، بل وشاركوا فيها، باستثناء كتاب أدبي واحد ‘آه يا بيروت’ لرشاد أبو شاور، فلماذا ظلت بيروت، تجربة بيروت أقصد، بطولة منسية، وهي المكان العربي الدولي الأممي!؟’.
وتابع ناصر: ‘فوجئت حين استشارتي لصديقنا العظيم الالكتروني ‘غوغول’ باحثا عما كتب في الذكرى الثلاثين لحصار بيروت، فلم يعطني سوى نتيجة واحدة، كانت لمقالتي أنا… !’.
وكما يؤكد ناصر في كتابه ‘لا اتحدث عن عبرة. ولا عن رواية كاملة. اتحدث عن تدوينات شخصية. عن انفعالات وتفاصيل وشظايا حكايات يومية لا يعول عليها كوثيقة ولاتطمح، بالتأكيد أن تكون كذلك’.وقع هذا الحدث الهائل، المنسيّ اليوم، قبل ثلاثين عاماً. فعلى نحو كاسحٍ، سريعٍ، وضارٍ وبكميات نار غير مسبوقة بدأ الاجتياح الاسرائيلي الثاني للبنان في صيف 1982. امتدَّ مسرح رقصة الدم والنار من ‘رأس الناقورة’ في الجنوب إلى ‘المدينة الرياضية’ في بيروت الغربية.
ضربات اسرائيلية عنيفة ومتواصلة تتجاوز الانتقام.
ضراوة وكثافة نيران ترميان إلى الإفناء أو التركيع أكثر من أيّ شيء آخر.
هستيريا من الانفجارات.
يصف الشاعر الاردني امجد ناصر مشهد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 بانه كان اشبه بنهايه مصغرة للعالم اذ كانت’نيران القصف كثيفه ‘تتجاوز الانتقام’، وتهدف الي ما يصفه بالافناء والتركيع.
ويقول ان احداً لا يدرك معنى ان ‘تصبح الحياة مجرد مصادفة سعيدة، الا الذين كانوا هناك’ وشهدوا تجربة الحصار، او الحياه تحت القصف. وهنا يبدو كان الشاعر ابن السابعه والعشرين انذاك ادرك ان ‘بيروت صغيرة بحجم راحة اليد’.
ويسجل في كتابه ‘بيروت صغيرة بحجم راحة اليد.. يوميات من حصار عام 1982 كيف جلس’رئيس الوزراء الإسرائيلي الاسبق’ارييل شارون’الذي كان قائداً لتلك العملية في’قصر بعبدا”ببزته الخضراء وجزمته المغبرة وراء مكتب الرئيس اللبناني والتقط صورة لتاريخ عربي مهان’، وهنا ادرك المؤلف ان حقيقة جديدة اضيفت الى سلسلة المهانات.. انه ‘الحصار الاسرائيلي لعاصمة عربية’ قائلا انها لحظة فريدة تصلح لانتاج الكوابيس وانضاجها.
ويقول ناصر ان بيروت في ذلك الوقت ‘لم تكن كل بيروت. كانت في الواقع مدينة منقسمة الي شطرين يتبادلان الريبة والشكوك العميقة.. والرصاص ايضا’ في اشارة الى’الحرب الأهلية’التي بدأت في السبعينيات.
عن الكتاب: بيروت صغيرة بحجم راحة اليد
يستعيد الشاعر امجد ناصر ذاكرته البيروتية التي ضمنها في قصاصات كتبها بحرارة الحدث ذاته، يوما بيوم، اليوم يستعيدها كما كتبها وقتها، يقول ناصر:”وقع هذا الحدث الهائل، المنسيّ اليوم، قبل ثلاثين عاماً. فعلى نحو كاسحٍ، سريعٍ، وضارٍ وبكميات نار غير مسبوقة بدأ الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان في صيف 1982. امتدَّ مسرح رقصة الدم والنار من ‘رأس الناقورة’ في الجنوب إلى ‘المدينة الرياضية’ في بيروت الغربية.’
ضربات إسرائيلية عنيفة ومتواصلة تتجاوز الانتقام.
ضراوة وكثافة نيران ترميان إلى الإفناء أو التركيع أكثر من أيّ شيء آخر. هستيريا من الانفجارات.
عنفٌ ملحميٌّ في قلب مناطق مأهولة بالسكان.
لن يعرف أحدٌ كيف تضيق الأرض وتتحول السماء إلى صفيحٍ ملتهبٍ يلامسُ الرؤوس، ولن يدرك معنى أن تصبح الحياة مجرد مصادفةٍ سعيدةٍ إلاّ الذين كانوا هناك: في بيروتَ صغيرةٍ بحجم راحة اليد’.
أي وعي امتلكه الشاعر أمجد ناصر وهو في الـ27 من عمره -أنذاك- ليدرك أن ‘بيروت صغيرة بحجم راحة اليد’، وما الذي جعله يسرق بعض الوقت ليسجل يوميات بيروتية عاشها هو ورفاقه؟، هذا السؤال يلح على من يطالع الكتاب، خصوصا وناصر يصرح منذ صفحات الكتاب الأولى قائلا: ‘لا اتحدث عن عبرة. ولا عن رواية كاملة. اتحدث عن تدوينات شخصية.عن انفعالات وتفاصيل وشظايا حكايات يومية لا يعول عليها كوثيقة ولاتطمح، بالتأكيد أن تكون كذلك’.
ولعل ما فعله أمجد ناصر أكثر بكثير مما اعلن، فقد عد الكاتب والشاعر سعدي يوسف وهو شاهد حقيقي على ما جرى في بيروت- في مقالة نشرها على موقعه الشخصي، وفي غير منبر، عنوانها ‘بيروت كبيرة بحجم أملٍ مضاع’، هذه اليوميات من حصار بيروت 1982، التي دوّنها أمجد ناصر، هي آخرُ الشهادات، وربّما أسخنُها، عمّا جرى قبل ثلاثين عاماً، في عاصمة عربية محتلّة… أقول هذا، كي نحسّ بالنبض العالي، الذي اتّسمتْ به الكتاباتُ عن بيروت وحصارها، واحتلالها في ما بعدُ’.
لكن ما كتبه أمجد ناصر ، مختلف’.
إنه يكتب بألفةٍ حتى في أشدّ اللحظات هولاً: اشتداد القصف، وولادة يارا، ابنته. لم يكن الرجلُ مبالِغـــاً عندما يقول إن بيروت صغيرة بحجم راحة اليد .
كان يريد أن يجعلنا نطمئنُّ إلى صورةٍ من حياة يومية، فيها من الاعتياد قدْرُ ما فيها من الغرابة: كنّا شجـعاناً؟ نعم. لكننا أناسٌ عاديّون أيضاً، ننظر إلى ما حولنا، وإلى ما فينا ، كما ينظر الناسُ’.
بطولةُ العاديّ؟ أهذا ما أراد أمجد أن يُبْلِغَنا إيّاه؟’.
يبدأ’الكتاب’بكلمة للرئيس الفلسطيني’ياسر عرفات’يقول فيها ‘حين القيت النظرة الاخيرة على’المدينة’قبل ان اغادرها بكيت. كانت تلك من اللحظات النادرة في حياتي التي جرت فيها دموعي بهذه الغزارة.. ان’حصار بيروت ومغادرتي لها قد فتحا جرحاً عميقاً في قلبي.. نظرت الي المدينة وانا علي ظهر السفينة، وشعرت كأنني طائر مذبوح يتخبط في دمه’.
وحمل الغلاف الاخير للكتاب’الصادر عن الأهلية للنشر والتوزيع في 224 صفحة،’كلمة للكاتب رشاد ابو شاور وصف فيها اليوميات بانها ‘كتاب الوفاء للمدينة التي احتضنت الثورة (الفلسطينية)، ويضع (المؤلف) نيابة عنا جميعاً وردة على صدرها’، وهو يرسم جدارية لبيروت وناسها المحاصرين.
وتابع قائلاً ان اليوميات تضع حصار بيروت في صيف 1982 ‘بنزاهه شاب لا يخلو من مثالية وبراعة شاعر كبير انضج تجربته وطورها حتى اصبح شريكا اساسياً في المشهد الشعري العربي’.
ويرى الشاعر الفلسطيني غسان زقطان ان ‘قيمة هذه اليوميات تكمن في عدم ادعائها، وفي احتفاظها بطاقة الوهلة الاولى.. الاشخاص الذين يتجولون في اليوميات ابسط بكثير من حيلة البطولة وبلاغتها، واكثر وفاء لانفسهم وقرباً من انسانيتهم’. لافتا ان المؤلف وضع القارئ في الحصار دون ‘أن يعيد النظر في الحكاية. لم يضع هوامش، او تعليقات، تعكس وعياً لاحقاً. ببساطة قاسية احتفظ بالخوف والقلق واشارات الندم الشخصي والحنين. ثمة نزاهة عميقة هنا منحت النص طاقة يصعب ان تجدها في نصوص مشابهة’.
من جهته’يصف الشاعر الاردني امجد ناصر مشهد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 بانه ‘اشبه بنهاية مصغرة للعالم’، موثقا ما شهده بأم عينه كمراسل لمجلة (الهدف)، كما يورد المؤلف اسماء رفاق الحصار وهم من الدول العربية كافة، ذاهبا للقول: ‘ان أحداً لا يدرك معنى أن تصبح الحياة مجرد مصادفة سعيدة إلا الذين كانوا هناك وشهدوا تجربة الحصار أو الحياة تحت القصف’.
ويزيد ناصر واصفا ليل الثالث من حزيران عام 1982:
‘هكذا بدأ الأمر.
ولم يظهر، لحظتها، أنَّه يختزن في داخله هذه المصائر المجلجلة، وتلك الحيوات الموشكة على فناء قريب.
حدثٌ بعيدٌ، مثل أحداث كثيرة متفرّقة تشبهه، يصبح منعطفاً في تاريخ بشرٍ وقضيةٍ، وعلى الأغلب، في تاريخ منطقةٍ بأسرها’.
ويظل الكتاب الذي شغل 224 صفحة من القطع المتوسط، والصادر عن الاهلية للنشر والتوزيع، وثيقة أدبية، وربما سياسية، تحكي سيرة المرحلة/ التجربة، بغلافها الذي يحمل صورة يحيى/ أمجد كما كان عليه في تلك الأيام من يوميات من حصار صيف عام 1982: بيروت صغيرة بحجم راحة اليد!.
( القدس العربي )