هانم الشربيني*
( ثقافات )
الكتب بالنسبة لى ليست مجرد ديكور فى مكتبة، الكتب هم الأصدقاء الأوفياء ، والمحبون المخلصون ،الكتب عندي تسكن حولي فى كل مكان ، بل أحيانا تهبط لتجلس تحت وسادتي ، بالتحديد تحت السرير وتحت المكتب فى محاولة للهروب من الإنزعاج الأسري والذين يطلقون على لقب “دودة الكتب “، الكتب هى أكبر معالج لوحدتي التى تلازمني كشعور دائم ، وهى الطبيب النفسي الذى يعالجنى بدون أجر ، ولما لا وهى تملك سحر الإغتسال بالماء، تروض النفوس الغاضبة، وتطمئن القلوب الحزينة.
الكتاب هو الباب الذي يقودنا إلى جنة العلم ونعيمها، والفرار من جحيم الجهل ودَركاته، ونظرتي دائما أن سر نجاح هؤلاء العظام الذين أنجزوا هذه الكتب التي أمامي أنهم استمعوا جيداً إلى ما يقوله الآخرون، فاستقاموا إلى عقولهم يحدثونها ويبحثون ويستمعون إلى ما تقول، فترجموها إلى أن أصبحت بعد ذلك سبيلا لتهذيب البشرية، وقانوناً للحفاظ على أحوالها المتقلبة، وما علي إلا الوقوف بالقراءة إجلالاً لهؤلاء العظماء، بأن أسمعهم جيداً عندما أقرأ دساتيرهم، فأهلا لقراءة يدخل النور فيها إلى ثقوب العقل ليمتصه ويصنع منه غذاءه كالنبات الأخضر، ولا أهلا ولا سهلا لقراءة الجهل يدخل النور إلى العقل فيرتطم بأرضه الصماء ليتشتت ويضيع بعدذلك.
أعترف أن الروائي عزت القمحاوى أحد الذين تغذى عقلي كثيرا على كلماته ، منذ أن كنت فى المرحلة الثانوية وأن أقرأ له فى مجلة سطور ،ومازلت ذاكرتي تحفظ مقالاته الرائعة ، وإستمر تتبعي لما يكتب فى الصحف سواء فى بيته مجلة أخبار الأدب أو جريدة القدس العربي أو فى المصري اليوم وأخيرا فى مجلة الدوحة التى نفخ فيها من روحه النقية فجعلها مقرؤة بامتياز، فهو الكاتب الذى يطوي العالم بين دفاته، ويجتاز الحدود كلها ليعبر إلى عقول الآخرين، يفك قيود عقل لينطلق إلى مرابع الحياة، يصنع ويبني ويؤسس ، فهو ذواقاً بنّاءً، واضح الأهداف والمرامي، وكتابته تحتفظ ببريق الذهب الخالص ، ولايمكن أن يأكلها الزمن ، لأنها ببساطة كتابة صادقة .
أحيانا أشعر أن الله خلقني لأعمل بمهنة القراءة ، ولأنها غير موجودة فى الواقع فأنا أحزن كثيرا ،فهى تعد رفاهية فى مجتمعنا الذى ينشغل بالبحث عن عمل بأجر غير عادل ، والمعادلة الصعبة التى أجد نفسي فيها هي الوفاق بين مهنتي وهى الصحافة التى تلهث وراء الأخبار والأحداث وحب القراءة التى يلزمها الإخلاص التام ، وكيف أهرب من غرام كتابة جيدة ككتابة عزت القمحاوي ، روايته التي لا أستطيع وضعها جانباً، سطورة التى تشبه قصائد لا أنساها، خطابه الذي بمقدوره أن يصنع فارقاً في حياتي كالأخرين ، وأن يغير من كيفية نظرتي إلى هذه الحياة، إنها تلك المذكرة التي باستطاعتها أن تشعل الحماس في نفوسنا وتقودنا للعمل، إنها الرسالة التي تتكلم ما ليس باستطاعة أي مكالمة أن تقوله.
عزت القمحاوي هو الكاتب المتواضع ، الذى تشعر وأنت تقرأ له أنه يكتب فرحك وحزنك ، يكتب همك وهموم وطن كامل بل إنسانية كاملة ، فما هى الإ تعبير عميق عن البسيط والمهم من مشاكل الإنسان والمجتمع وعما يشغل الناس ويؤلمهم أو يؤرقهم، فها هو فى روايته “غرفة ترى النيل ” يرصد فساد واقع وفقر كاتب وفساد رئيس تحرير وحبا مفقودا ، ويرسم إبتسامة رغم أنف الحياة ، إنها يا عزيزي كتابة تحمل رائحة الجنة التى نبحث عنها فى العالم الأخر، هكذا تكون كتابته دائما ،ومن يريد أن يعرف عزت القمحاوي جيدا فليقرأ كتابه الساحر “كتاب الغواية ، المكتوب على غلافه كلمات غير معبرة عن جماله، فهو سرد إلى حد الغياب، وعزت القمحاوي يتخفى ليهرب من دور الفليسوف خلف كتب ومؤلفين وحكايات عن بشر يحلمون بالخلود ، ويقول على غلاف كتابه “هذه الرسائل كتبت فى فترة يمكن للقراء أن يتبينوها ،من خلال بعض التواريخ التى إستعصت على جهودى فى الحذف ، لم أكتبها بهدف النشر ، كانت مجرد رسائل إلكترونية ،أستنفذ فيها هذيان أصابعى ، كلما إفتقدت ملمس حبيبتي ،وبالإضافة إلى كونها بديلا للتواصل الحميم ، كانت هذه الرسائل محاولة لتدعيم بنيان الحب ،إذ إعترفت لى بشكل عابر أننى أغوى بالكتابة، بعد ذلك كانت فكرة النشر فى كتاب فكرتها ،وليس من الفطنة دائما الإستجابة لرغبات الحبيبات “، هكذا كان عزت القمحاوى ينوى حرماننا من كتابه الباعث بإشارات الدفء والبهجة والسخرية العذبة والذى يؤرخ فيه لحب أسطوري كان يلازم الكاتب الذى لا يحب أحدا بقدر حبه للكتابة الشبيهة بقطعة موسيقية تريح النفس ولوحة موحية تنقل عينك برقة بين تفاصيلها ، فالقمحاوي يتنقل بنا عبر صفحات ممتعة ، ليحكى عن الحب وإقتسام اللحظات رغم البعد مع الحبيبة ، ومن خلال رسائله للحبيبة يمارس الفعل الأكثر خصوصية في العالم – البوح والتعري، يحكي عن مانجويل ويقارن بينه وبين بورخيس ، يحكي عن الكتابة التي تجئ في الأحلام وتغادر فور أن يفتح عينيه ، يحاول تعريف المبدع فيقول :ليس داخل المبدع تواضع العلماء ولا اطمئنانهم بل حركة بندولية بين اليقين واللايقين أرجوحة مشوشة بين هشاشة البشري وصلابة الإلهي، يتحدث في فصل عن إهداءات الكتب التي تبدو لديه كبوابة للعبور لداخل الكاتب، ويطرح أفكار جميلة حول الكتب الكلاسيكية التي يجب أن تمر على عالم المثقف ،ويرى أن” فعل النسيان إضافة للنص المنسى .
السرد المتميز هو سلاح عزت القمحاوي فى رواياته وقصصه المليئة بالعوالم المدهشة ، يكتب لنراه ونعرفه ،كما فى أعماله “الحارس –غرفة ترى النيل – مدينة اللذة – حدث فى بلاد التراب والطين – مواقيت البهجة – وأخيرا روايته “بيت الديب “الفائزة بجائزة نجيب محفوظ لهذا العام ، لإبداعه في تضفير حياة الريف المصرية وفترات تاريخية من الحكم العثماني حتي نهاية القرن العشرين، وتضفيره الشخصي بالسياسي بحيث ينصهر المكان وأهله في لوحة سردية واحدة تنجح في موازنة وجهي معادلة ديناميكية محكمة تجسد الكثير من روح تجربة البلاد المعاصرة بشكل ينسج بمهارة مدهشة المرونة المتبادلة بين الإنسان والزمان والمكان”،والتى قال عنها القمحاوى إن الإختصار كان هاجسه الأساسي في تلك الرواية التي بدأ كتابتها في العام 1999، كي يقدم أربعة أجيال في حجم يطيق قارئ اليوم احتماله، لذلك تحاشي خطية التاريخ المتصاعد،وأنه يشعر بالفخر والعظمة لاقتران اسمه واسم روايته باسم نجيب محفوظ ،وإعترف القمحاوى أن نجيب محفوظ هو أحد معلميه بلا شك، وأن الدرس الأهم لمحفوظ، والذي لا يجب أن يضيع، هو الإخلاص للكتابة بوصفها وظيفة عضوية لا يستطيع الكاتب العيش بدونها.
أخيرا فمن الواجب إسداء التحية العميقة لعزت القمحاوي المنحاز لقضايا العدالة فى مقالاته ،والتحية موصولة لوجهه الحامل لإبتسامته المطمئنة، التي تأخذك من فورك إلى الحكم على تواضعه وطيبته ،والشكر لنصه الذى تنام تحت طبقاته ثقافته العريضة، وتحية أخيرة للألم واللذة، الحزن والسعادة، الخوف والاطمئنان التى تتمثل في مشاهد رواياته .
* كاتبة من مصر