حاورته : رانيا الرفاعي *
ربما لم يكن يعرف ما ادخرته له الأقدار من مكانة مرموقة في مصر و العالم العربي عندما كان جالسا علي أحد كراسي مقهي جده لوالدته في أحد الأحياء الشعبية بالاسكندرية.
علي أحد مناضد هذا المقهي كتب بيده أول كتاب له مستندا إلي مخطوطة هي الوحيدة علي مستوي العالم شأنه في ذلك شأن كبار أساتذة الأدب بينما هو لايزال في الفرقة الرابعة من دراسته الجامعية عام.1980 هو صاحب عزازيل و ظل الأفعي والنبطي و محال و اللاهوت العربي الدكتور يوسف زيدان صاحب الأطروحات العميقة و الصادقة و الصادمة حول ثلاثية الدين و السياسة و العنف.
ربما يكون الحوار مع الدكتور يوسف زيدان سبيلا لتصحيح قراءتنا لواقع الأحداث في مصر لأننا في غمرة الانفعال بمجريات الأمور لسنا قادرين علي رؤية الصورة بأكملها.
و ربما يكون الأثر النفسي الذي يتركه حديث الدكتور زيدان في نفس مستمعيه لا يقل تأثيرا عن ذلك الأثر الذي وجده قارئ عزازيل بعدما قرأ قصة الراهب هيبا بطل الرواية الذي لمس الواقع بيديه و قدم الحقيقة عارية من دون أن يكترث لما سيترتب علي ذلك من أمور ربما لانه يجمع بين الباحث في التراث والمبدع ويستطيع قراءة الأمور بين ماحدث وما يحدث وما ينبغي علينا أن نفعله
حول الثورة و النخبة و السياسة و الدين وفوز عزازيل بجائز انوبي البريطانية للآداب مؤخرا كان هذا الحوار الدكتور يوسف زيدان:
ماذا يعني فوز عزازيل بجائزة أنوبي لأفضل عمل روائي مترجم إلي الانجليزية ؟.
أنا سعيد بالجائزة خاصة وأن عزازيل فازت بها بعد نحو سبعة أشهر فقط من قيام صحيفة الجارديان البريطانية( الراعي الرسمي للجائزة) بنشر ملحق عنها ضمن اعمال ستة واربعين كاتبا آخرين و دعت القراء لاستفتاء حول هذه الأعمال و فازت عزازيل.
هل قرأت في تاريخ المصريين و الأمم التي قد خلت ما يشبه أيامنا تلك؟.
بل هناك ما هو أصعب من ذلك و قد أشرت أكثر من مرة إلي كتاب المقريزي إغاثة الأمة بكشف الغمة الذي وصف فيه كيف كانت البلاد والعباد يمرون به منها وتحكي هذه الكتب عن الأوقات العصيبة التي مرت بها مصر من معارك طاحنة واوبئة فتاكة وكيف كان المصريون يضطرون في بعض الأوقات من شدة الفقر لأكل بعض الحيوانات أو حتي أكل بعضهم البعض. ثم يتعرض لسبل الخروج من تلك الأزمات واللحظات الحرجة التي مرت بها مصر. ليعطي العبرة لمعاصريه و لنفسه في ظل المجاعة و الجدب و الوباء في208 هـ التي كانت تمر بها بالبلاد آنذاك. فكان ينصحهم بأن ما يمرون به ليس هو نهاية العالم.
و ربما كان المقريزي ينصح نفسه قبل قرائه و مستمعيه. فكان يشد من أزر نفسه قبل أن يشد أزرهم لأنه فقد ابنته في ظل الظروف العصيبة التي كانت تمر بها مصر آنذاك.
, ويفاجئنا المقريزي بتحليل رائع عن أسباب فشل أي نظام حكم و هي شراء القيادات العليا بالرشاوي كالوزراء وحكام الاقاليم, وغلاء الأطيان وارتفاع اسعار السلع, ورواج المال اي زيادة العملة الورقية عن العملة الذهبية.
ما هو العنصر الذي افتقدته الثورة المصرية حتي تصل إلي هذه الدرجة من الفشل؟
هناك عناصر كثيرة و ليس عنصرا واحدا فقط أهمها أن الثورة قامت واشتعلت بالمشاعر و الاحساس من دون أن يكون هناك وعي ثوري و لذلك انجرفت الثورة في مسار آخر وقد حذرت في كتاباتي لمدة شهرين كاملين من تحول الثورة إلي حالة الفورة.فتحولت المطالب العامة إلي مطالب جزئية أو ما بات يعرف بالمطالب الفئوية و كان هذا أحد أسباب إجهاض الثورة بالاضافة إلي أسباب أخري منها حالة الإلهاء المتعمد للمصريين عن الثورة, و منها اللعب السياسي بالدين و اختفاء اليد الخارجية الفاعلة التي تحكمت في كثير من الأحداث عقب الثورة, و إصرارنا علي التغاضي عنها رغم خطورة هذا الأمر. و هكذا انتهت اللحظة المجيدة نهاية رخيصة..
بناء الوعي الثوري مهمة من؟.. ألا تري أن كاهل جيل الثورة مثقل بالمهمات الثورية ؟
هذا التفكير أسمعه كثيرا لكنه غير مقبول. لأنه إذا كانت سياسة مبارك ومن قبله سنوات الضباط الأحرار تسببت في اضمحلال الوعي لما قامت الثورة. علي العكس أنا أري ان الثورة المصرية سبقتها مراحل إعداد طويلة علي مستوي الوعي وكان هناك كثيرون يعملون علي إحياء الوعي عبر محاولات جادة جدا قدمها كثيرون من الكتاب والمفكرين والباحثين. فنجد أن السنوات التي سبقت الثورة شهدت تطويرا للوعي الجماعي بفضل كتابات مفكر مثل الدكتور عبد الوهاب المسيري مثلا. وأيضا الكثير من الأعمال الشعرية و القصائد. و رأينا كيف استعاد الوعي الفكري في مصر ذاته بكتابات مفكر كبير مثل جمال حمدان. و أيضا الكثير من الأعمال الأدبية الروائية التي استهدفت بشكل أساسي حالة الفساد التي عاشتها مصر قبل الثورة بالنقد الشديد. كانت هناك معدلات قراءة عالية جدا و غير مسبوقة, كان هناك حراك شبابي.. كل هذه كانت تمهيدات. و كان لابد من استمرار بناء هذا الوعي لكن ما حدث هو أن حالة الفورة غلبت حالة الثورة. فأصبحنا نري الطبيب يترك مهنة الطب ويتفرغ للثورة و المهندس لم يعد مهندسا بقدر ما أصبح ثائرا و الغالبية أصبحوا ثوريين. ما حدث هو أن الخطوط الفاصلة بين العديد من القضايا تماهت و تم اختلاق مشكلات وهمية لإعاقة الثورة.
و بم تفسر عدم صمود مثل هذا المجهود الفكري الذي مهد للثورة أمام موجة الأفلام الهابطة والكتابات المبتذلة التي تملأ الساحة في مصر بعد الثورة؟
هذه الابداعات الفكرية الابداعية التي مهدت لثورة يناير لا يمكن الربط بينها و بين الانحطاط الفكري و الاخلاقي الذي نراه اليوم, ما حدث هو أن طبقة معينة من المصريين لا ننكر أنها جاهلة و متخلفة فكريا, لكنها في النهاية جزء لا يتجزأ من تكوين المجتمع. و عندما نحكم علي مثل هذه الأمور فنحن كمن يقطف ثمار شجرة لم تغرس بذرتها في الأرض بعد. فانتهي بنا الوضع إلي ما نعيشه الآن.
تعالج قضايا الدين في كتاباتك كيف تري الدين في المشهد ما بعد الثورة ؟.
للاسف بدأ التلاعب السياسي بالدين بشكل واضح بعد الثورةوبعد ان كانت الجماعات الدينية قانعة بدور إحياء الدين و نشر الهدي الايماني بين الناس بمن فيهم الاخوان المسلمين. فقد رأينا كيف كانت التيارات الدينية تعلن صراحة أنها لا تطمح لأي منصب سياسي و في كل مرة يخلفون فيها وعودهم كانوا يبررون ذلك بأن تغييرات سياسية طرأت علي الساحة استدعت منهم الدخول في العملية السياسية و السعي وراء كرسي السلطة.
ولماذا صدم الناس في النخبة بعد الثورة؟
من قال هذا ؟ إن الترويج لنكبة النخبة كان أحد أسباب إجهاض الثورة. فهذه أكذوبة كبيرة بتنا نرددها دون أن نتأمل معناها أو نتحقق منها. أولا من هم النخبة ؟ رجال الفكر و الثقافة و الدين و القانون و الفن و كل أولئك كانوا موجودين علي الساحة منذ أول أيام الثورة و تفاعلوا مع الأحداث التي تلتها. أليس الدكتور محمد سليم العوا من النخبة ؟
هذا الرجل رجل قانون و كان يعمل قبل وفي أثناء الثورة علي بناء الوعي العام و رشح نفسه لانتخابات الرئاسة أيضا الدكتور محمد غنيم و ظهوره الواضح علي الساحة و مشاركاته الايجابية و البناءة فضلا عن الصرح الطبي العظيم الذي أقامه في المنصورة. و بعد الثورة ظل قريبا من المشهد الثوري بجهود مخلصة كأحد أفراد النخبة!!
هنا أريد أن أقول إن الهجوم علي النخبة و التشكيك في دورها و تصويرهم بمثل هذه الصورة أحد عوامل اجهاض الثورة.
ألم تخش علي كتاباتك عن التصوف من الهجوم الوهابي عليها ؟
أولا أنا ضد أن نرسم الصورة كأننا في ساحة قتال بين مذاهب و مدارس أبناء الدين الواحد. أنا شخصيا أري أن الفكر الوهابي بطبيعته ليس مناسبا لطبيعة تدين المصريين و علي العكس تماما من كل من يروج أن هناك مدا وهابيا في مصر, فإن هذه المحاولات- التي أشك أنها مقصودة- لم تنجح علي الإطلاق و لم تترك أثرا ملموسا يذكر في نفوس المصريين. فمصر أبدا لن تدخل تحت هذا الغطاء. ربما ناسب أحيانا فكر البعض في المناطق العشوائية و للأسف كان هؤلاء يقومون بالدور البديل للنظام المفقود في هذه المناطق.
و ليس من مصلحتنا أن نستسلم لمثل هذه الخواطر. فمازالت مساجد مصر العظيمة صاحبة مقامات آل البيت تعج بآلاف الزائرين.
أنا لا أدين الوهابية في ذاتها لكنها ربما تكون أنسب لبيئات أخري من المسلمين لكن بالتأكيد ليست مصر.
فنحن جميعا مسلمون نعبد إلها واحدا وليس هناك داع علي الاطلاق لاختلاق حالة حرب غير موجودة تزيدنا انقساما علي ما نحن فيه من الخطر أن نصور المسألة علي أنها حرب بين أطراف متناحرة.
ظل الأفعي كانت سابقة علي عزازيل و تتمتع ببناء روائي و قصصي متميز لكن عزازيل كانت أوفر حظا و انتشارا هل لديك تفسير لذلك؟!
في الحقيقة أنا أرفض فكرة أن أحد أعمالي ظلم علي حساب الآخر و الدليل أنه بعيدا عن عزازيل و ظل الأفعي فإن توزيع رواية النبطي كان هو الآخر مفاجئا بالرغم من أن صدورها كان في وقت الفوضي التي تلت الثورة, إلا أنه بعد انتظام الأمور عادت توزع بأرقام كبيرة جدا.. و يعلم الله كم أجتهد حتي لا يخرج أحد أعمالي يشبه الآخر.
( الأهرام )