علي السوداني *
يحدث هذا كثيراً ، إذ يجفّ القحف، وتنتهش الروح، وتموت بضاعة المقال.
سأفتش عن منطقة جديدة ، أطشّ فوقها سلة حروف، وأسقيها حتى اكتمال شجرة المكتوب.
على شاشة مخّي الليلة، ثمة برنامج غنائي فخم ضخم، اسمه ” ذَ فويس ” منسوخ ومولود من بطن برنامج افرنجي، يشيل نفس اللافتة، ويتعطر بذات النكهة . في اشهار اعلان ولادته ، قررت أن لا أشاهده ، وقلت في نفسي ، أن الأمر لا يخلو من مضيعة وقت ، يشبه الوقت الطويل الذي تخسره الناس المشتولة ، قدّام مسلسل تركي لا ينتهي .
في ظهوره الأول ، أنصتُّ الى كمشة فخاخ ، تناسلت بالتقادم ، حتى انتهيت الى واحد من عتاة مشاهديه ، في مجلس العائلة الدافىء .
اللذة تزداد ، كلما صدح فتيان الحلبة الحلوين ، وصبياتها الحلوات ، بتنغيمات مستلات من رفّ الطرب والملحون القديم والوسيط .
الخروج على النصّ داخل الشاشة ، كان يضفي على الناطرين السامعين ، بهجة وغبطة . توزّع المدربون المغنون على أربع نكهات ، مع مغريات يوفرّها باب الشطارة والخفّة المحببة ، تغري زوم الكاميرا ، وتنعش جمهور المسرح، الذي بدا وكأنه قد جلس فوق مصطبة الإحتياط ، ألف سنة وسنة ، حتى جاءت فرصة العياط ، فعاط ورقص وهوّسَ وشاكس وتناغم مع ” هوّارات ” وجبليات وغزوات عاصي الحلاني ، الذي كان بطل واقعة اسقاط الزنبقة السمراء شيرين المذهلة ، بسهام عينيه السوداوين .
بقي لنا من فريق الفن والنصح والتدريب ، صابر الرباعي وكاظم الساهر ، فأما صابر ، فوجهه مثل صوته ، يمنحك دفئاً وراحة وطمأنينة ، وأما أبو وسام الجميل ، كاظم الساهر ، فلقد جلس على مقعده زمناً أطول من قعود صحبه ، وحافظ على مقترح ابتسامة موحية ، ظلت محفورة فوق وجهه ، كأنه الفتى ” سيزيف الأغريقي ” وهو يدفع صخرة العذاب ، فلا تندفع .
من ملحوظاتي التي قد تثلم هيبة الدكة ، أن الفنانين المدربين الأربعة ، كانوا يطرون ويمدحون المغنين الأغضاض ، بتوصيفات الحضور والإطلالة والجمال وحركة الجسد ، أزيد من المصطلح الموسيقي النقدي ، حتى شاعت في تقييماتهم ، جملٌ من مثل ، أنتِ جميلة ورائعة ، وأنت صوتك حلو ، وهي حضورها خلّاب ، وتلك ملابسها أنيقة .
أيضاً ، ثمة بين الجمهور ، وخلف الأستار ، لكن بمتناول الكاميرا ، آباء وأمهات ، وأخوان وأخوات ، يرقصون ويدعون الرب ، فمنهم من طار من الفرح ، ومنهم من بلّل الكواليس ، بسواخن الدمع العزيز .
لديَّ قفزة كبرى وقعت في مجلس العائلة ، فالولدان نؤاس وعلي الثاني ، صارا يتابعان البرنامج ، ويتحمسان له وينطرانه ، بنفس حماستهما ولذتهما أمام وجهي توم وجيري الأثيرين .
ولأنني أحرث وأنثر حرفي فوق أرض اسمها ” مكاتيب عراقية … من سِفْر الضحك والوجع ” ولأنّ بيني وبين حاتم العراقي ، واقعة زاد وملح بعيدة ، ولأن إحساسي يتفاقم ويتعاظم ، بأنني أنتمي إلى شعب مهضوم مقهور ، يركض مسرعاً صوب الإنقراض ، ولأن الشعوب المهزومة على عتبات سنّ اليأس ، تفتش عن أي بارقة تبرق ، فتنستر خلفها ، ولأنني أحببت صوت الفتى قصي ابن حاتم العراقي ، ولأربعين سبب وثلاثة ، أدعوكم أن تعينوا الولد الموهوب قصي ، بالدعاء ، وبرنين الهواتف المتصل، وأيضاً بالنصح الذي لا يورطه في اختيار أغنية سباق ، تستدعي سلة أوتار وتنغيمات ومقامات ، مصنوعة من حناجر أُم كلثوم وناظم الغزالي وحليم وعبد الوهاب ووديع ويوسف عمر ، اذ يضرب الفؤاد على باب المنصوري .
في ذيل المكتوب هذا ، وقبل أن أهاجر صوب فراشي وأنخمد ، أودُّ ان أسجل انزعاجي القوي ، وحزني الكاسر ، من كثرة الفواصل الإعلانية التي من فرط طولها ومطّها ، تجعل واحدنا وواحدكم ، يتلهى بنتف ربع شعرات لحيته المبروكة ، خاصة ذلك الإعلان الطويل الملون ، الذي يظهر سلة نساء ، يمشين في عرض الشارع ، على وجوههن علامات الصحة والعافية والأمل والسرور ، الذي جعل واحدتهنّ تضحك ، حتى صار وجهها ، شارع أسنان عظيم .
وهذا الحبور الشاسع ، كان بسبب أنهنَّ كنّ يستعملن حفّاظات وقاية ، نسيتُ اسمها ، لكن الإعلان المدهش ، يصفها بالناعمة والمطوية والمعطرة ، وأُم الجوانح
* قاص واعلامي من العراق يعيش في عمان
( العباسية نيوز )