هاجر قويدري
الرواية التي جاءت في 331 صفحة مقسمة إلى أربع حركات وليس فصول، وهو الإحساس الذي سيرافقك طوال القراءة، حيث تشعر أن أحلام تعزف قطعة موسيقية ولا تكتب رواية، القطعة الموسيقية ثنائية الإيقاع بطلاها هالة الوافي وطلال هاشم، هالة الوافي فتاة جزائرية كانت تشتغل معلمة في الجزائر قبل أن يغتال الإرهاب والدها المغني وأخاها علاء، فتعود رفقة والدتها شامية الأصل إلى سوريا، لتحترف الغناء وتحاول اجتياز ألم وطنها الجريح. أما طلال هاشم، فهو رجل أعمال، أنيق، باذخ الثراء، خمسيني، قضى جزءا من عمره في البرازيل لم تحدده أحلام مستغانمي بالضبط فيه، فأحيانا تقول خمسين سنة، ثم ربع قرن، ثم ثلاثين سنة، يدير تجارة مكثفة منها سلسلة مطاعم وتجارة الورق.. ويملك كذلك في نهاية الرواية طائرة خاصة. الحبكة السردية هي الوقوع في الحب بين هذين الشخصين اللذين يشبهان إلى درجة كبيرة حياة وبن طوبال. من أجل الحب ولوعة الحب تضعنا أحلام مستغانمي في طيات حكايات غير منطقية ولا يمكن أن يجريها عقل قارب الحب ولمسه، اللهم هؤلاء الذين سيفتحون عيونهم على الحب مع أحلام، تماما كما حدث معنا ذات ذاكرة للجسد، حيث تبدأ الحكاية ببرنامج تلفزيوني تظهر فيه هالة بعنفوانها وقوتها وقدرتها في انتقاء الكلمات وكذلك في فستانها الأسود، فتثير اهتمام هذا الرجل الذي يقطع العالم من أجل تجارته فيراهن على لقائها والفوز بها.
في البداية يكون الورد، حيث يطارد طلال هالة بباقات الورود، وهي باقات منتقاة بعناية إذ تضم ورود التوليت البنفسجية التي تظهر على غلاف الرواية. للإشارة أيضا أن عبارة الأسود يليق بك، عنوان العمل، هي أول ما قاله طلال لهالة عبر بطاقة دست في باقة ورده الأولى.. الدرس الثاني الذي تلقنه أحلام لنا هو الصبر على فتيل الحب والتخطيط له جيداً، في الهاتف لابد أن يصير الإيقاع متباعداً وإلا فقد الحب قدرته على الاشتياق أكثر، ثم يكون اللقاء. أرادت أحلام أن يكون اللقاء مهزوزا حيث تضيع قوة الحب حتى أننا نتساءل إذا كان كل ما في الرواية قصة حب، فهل الذي كان بين حياة وهالة حباً؟؟ حب عمره سنتين؟؟ لعله الإعجاب فقط، هي تقول في حركتها الأولى ”الإعجاب هو التوأم الوسيم للحب”، فهل يصنع الإعجاب رواية كبيرة؟ رواية كتبتها صاحبتها بعد انقطاع 14 سنة.
نعود إلى حكاية اللقاء الذي خلق توترا في الحكاية، فطوال أربع ساعات من الطيران لم تتعرف هالة إلى طلال، ولا حتى تعرفت عليه بعد ذلك في المطار. تستمر الحكاية بعد ذلك بمواعيد أخرى مستترة حيث تتم دعوة هالة إلى حفل خيري في مصر، وهناك يشتري بطلنا الثري كل البطاقات فيجبرها على الغناء له لوحده مع أنها لا تعرف أنه هو صاحب باقات ورد التوليت وبطاقة ”الأسود يليق بك”، بالطبع يصبح الأمر هنا مضحكا جداً، فهذه الحكايات خارجة عن المنطق وعن حكايات الحب في عالمنا اليوم.
أحلام تصر أن تحملنا بعد ذلك إلى كل عواصم العالم، إلى فرنسا وإلى فيينا، وتكسو قصة حبها فنادق فخمة وأكسسوارات باذخة القيمة والرفاهية، ترضى القادمة من مروانة النزول في بيت ذلك الرجل وفي فنادق برفقته وتقبل دعواته المتكررة إلى عشاءات فاخرة، وحتى إلى حفلة فالس على شرفها لوحدها. في حالة سكر يتحدث طلال عن أمور كثيرة، يتحدث رفقة كؤوسه عن رغبته في مولود ذكر يرث امبراطورية تعبه، تماما كرأس أي رجل عربي بائس.
تنتهي الحكاية عندما يفكر طلال أنها قد تحتاج المال حتى تتسوق أثناء إقامتها بفيينا، عندها تنقلب الأمور وتظهر كرامة واهية من هالة تجعلها تغادر جناحها الملكي رغم أنها قبلت قبل ذلك أمورا كثيرة. تفبرك لنا أحلام لقاء آخر مع هالة والجزائري عزالدين في فينا، هذا الأخير الذي يشتغل بمنظمة أممية ويحمل بيدها إلى العالمية من خلال الغناء في حفل عالمي لصالح العراق في ألمانيا. في ذلك الحفل تنزع هالة حداداها وتلبس فستانا اللازوردي كأنما تنتقم من ذاك الذي قال لها يوما:”الأسود يليق بك”. تلك إذن الحكاية، أما التأثيت فهو الجزائر.
الدرع الأول: اللغة الشاعرة
هناك أمران يحملان هذه الحكاية ولا يمكن لعقل ما أن يحملها، الأمر الأول هو اللغة، لغة أحلام مستغانمي على حالها، لم تتغير، لاتزال تنحت من عالم جميل قطوف لغوية خيالية، تنتقي حواراتها بين هالة وطلال، لدرجة أنها تصلح كرسائل SMS غرامية بامتياز. كعادتها، جزء كبير من وقع كتاب ”نسيان. كوم” موجود هنا، تقطع أحلام غالبا السرد وتفتح أقواسا شعرية باذخة. أعرف جيدا أنها ستروق آلاف القراء والقارئات، ستروق جيلا جديدا سيجد في عباراتها ملاذاً للتعبير عن الحب، وهذا جميل وراق، ولكن ماذا بالنسبة لجيل أحلام السابق، الجيل الذي قرأ ذاكرة الجسد، وارتوى من كل ذلك، وخبر الحب والحياة والفراق، وصار أكثر صدقا مع الحياة، كيف هو وقع تلك العبارات؟ صدقا تلك العبارات التي تعني اللغة كثيرا وإنما هي لعبة صار بإمكاننا جميعا أن نلعبها، لغة التوليد كأن تقول:” تغدو مع الوقت علامة تعجب.. فعلامة إعجاب”، أو أن تقول:”حسبتك بدلت المجرة”. فيأتي الجواب:”لا أنا في المجاري”، أو قولها:”زحام وازدحام، وأحلام تتهشم بين الأقدام، أمواج من البشر القادمين والمغادرين، وهو المغادر من قبل أن يصل، لكأنّه جاء ليغادر”. كذلك لعبة التضاد وكسر المتتاليات المألوفة في اللغة العربية، كقولها أيضا ”كنت في انتظارك مجرد أنثى، وقد كنت في انتظار الموت رجلا”. هل يمكن اعتبار ذلك لغة، هي كذلك ربما في العربية، ولكنها ستصير فارغة عندما تترجم.. فاللغة المبنية على أساس منطقي وتراتبي فكري يمكن ترجمتها، أما التي تعتمد على الجمالية التوليدية لا تتعدى هواتف المراهقين.
تقول أمي إن هذا الولد ”مالح” بقدر ما يوجعني أجد نفسي أحبه أكثر، وملوحة أحلام أكيدة، فهي سيدة الرواية وبطلتها الجزائرية في المحافل العربية تكفي، ولكن لماذا توغلت أحلام هذه المرة في سرد الوجع الجزائري؟ لماذا ندبت وجه الجزائري بكل الندوب الممكنة وقدمته في كتاب أنيق للقارئ العربي. ما الذي حدث حتى تنقلب الصورة تماما، أحلام التي جعلت من العالم العربي يعشق قسنطينة ويعرف تفاصيل صينية شرب القهوة القسنطينية تعود وتضرب كل هذا وتذكر كرونولوجيا العذاب بالكامل. في هذه الرواية لم تغفل أحلام عن أي شيء حدث في الجزائر بشكل موجع وكأنه فعل انتقامي، هل تنتقم أحلام من وطن؟؟ وكيف يكون الانتقام من وطن؟!.
الدرع الثاني: الجزائر الجريحة
التأثيث بفواجع الوطن، والمبالغة في تجميع كل شيء، من أجل إظهار صورة موجعة في فقرات شاعرية يمكنكم العودة إلى صفحاتها، كل هذا يحدث في الجزائر.
– معدل الراتب الجزائري الذي لا يتجاوز 170 دولار. ص 55
– تتحدث أحلام أن الموت غنيمة حرية، لأنه الجزائري يكبل المرأة. ص 60
– عقلية الجزائري الذي عاش كل حياته في فرنسا لم تتغير، فعمها بعد تقاعده عاد إلى الجزائر وصار إرهابيا. ص61
– جامعة قسنطينة ودروها في التطرف الديني. ص 68
– معتقلات الصحراء الجزائرية. ص 69
– المذابح الجزائرية في الصحافة الفرنسية. ص73
– حادثة استقدام 40 مصارعا لحماية آيت منڤلات في حفل له بقاعة الأطلس. ص74
– حادثة اغتيال الشاب حسني. ص 76
– تعداد القتلى في العشرية السوداء،”لها قرابة بمئتي ألف جزائري ما عادوا هنا، قتلهم الإرهابيون”. ص77
– فصلها من العمل لأنها مطربة. ص80
– عمل أخيها كطبيب في الجبال لدى معسكرات الإرهابيين، ”يولد النساء المغتصبات اللائي سباهن الإرهابيون”. ص87
– المصالحة الوطنية ونزول التائبين. ص 88
– أمراء الموت في التجارة وتجارتهم الجديدة بعد قانون لمصالحة. ص90
– الحرڤة.ص 94
– اغتيال الصحفيين. ص 96
– قتل والد هالة واحتمائه من الإرهابيين بعوده الحلبي، الذي أخذ رصاصة أيضا في قلبه. ص152
– معنى الغابة الجديد في الجزائر الذي جعلها مرادفا للموت. ص178
– بؤس العشاق في الجزائر:”أتريدين عاشقا بائسا كأولئك الذين تركتهم في الجزائر، بؤسهم كان ينعكس على ملامح وجهك، أنظري الآن كم أنت جميلة، ليس السخاء المادي بل السخاء العاطفي”. ص 184
– حكاية الحاجة زهرة في قسنطينة التي قتلت 50 إرهابيا. ص 195
– قضية المغتصبات وقضية المفقودين. ص 197
– قضية بوضياف. ص197
– العودة إلى قضية الحراڤة. ص 233
كل هذا وإحالات أخرى لا تعرف فعليا كيف ستقع على القارئ العربي؟ كيف ستقع على الجيل الجديد، من الصعب النبش في كل هذا، خاصة أن بعض التفاصيل لا ضرورة لها. فماذا كان قصد أحلام من كل هذا؟؟.
أحلام لم تتوقف عند الجزائر فقط بل كادت تسقط في قضية العراق من خلال ذكر سجن أبو غريب في ص231، والجالية العراقية في ألمانيا، واللاجئين العراقيين في سوريا، كذلك سوريا.. لكنها توقفت فجأة، ربما لأن حكاية هالة وطلال ثلاثية قادمة من يدري؟
لم أصدق نفسي وأنا أجتاز جادة ديدوش مراد حين لمحت رواية ”الأسود يليق بك” تطل في غواية بنفسجية مثيرة، هل يعقل أن تكون قد وصلت سريعاً إلى الجزائر؟ ولم تمض على توقيعها الأول في الشارقة إلا أيام قليلة. في تلك اللحظات لم أربط بين أحلام والخطة التسويقية التي تتفاني في ترتيب خطوطها حتى أنك تجد الرواية ذاتها في طبعات عدة، الفاخرة والمتوسطة والشعبية. النسخة الشعبية التي بين يدي جعلتني أعود بالذاكرة إلى رواياتها السابقة، إلى أكثر من خمسة عشر سنة حين كانت أحلام تنام على وسادة مراهقتنا وتدعونا إلى الحب المستحيل، إلى الأناقة والعطور والكلمات القاضية في حوار حب، لذا لابد أن تقر صراحة أن مجرد شراء رواية لأحلام هو حالة يدق فيها القلب، فالقلب ليس يكبر ولا يزداد وعيا.
قراءة: هاجر قويدري
( الفجر الجزائرية )