حبيب الزيودي ..شاعر السنديان



جريس سماوي *

( ثقافات )

 هكذا يا حبيب .. كما كنت تفعل دائما .. تعطي موعدا وتنسى .. حتى أذا ما التقينا ابتسم الأبيض فيك وغمرتنا بالحب والشاسع . الى موعدك جئت أنا متأخرا هذه المرة . كنت أنت مسرعا أكثر من عاداتك في التأني والمشي الوئيد ، كنت ذاهبا الى غايات بعيدة كأنك على موعد صممت ان تفي به بدقة هذه المرة . ألم يكن بوسعك الأنتظار ؟ ثم حديث لم ينته . ثم صبابات وشجرات سرو يكبرن الان في غيابنا عن سرب العصافير. والعصافير التي غردت على غصون الغامض الشفيف في نهارات الجامعة منحتك وحدك سر الغناء البري . فغنيت بشبابتك المثلومة من حزن اسطوري قديم ، غنيت للرعيان والفلاحين .. غنيت للنساء والاطفال وغنيت للأرض وللرجال الذين يحمون التراب كذهب المعابد . غنيت مستوحيا غناء العجائز النبيلات وصيهل المهاري العتاق . غنيت وانشدت الشعر والحياة . أنشدت كما أنشد الشاعر البدوي على قيثارته البدوية وكما انشد الشنفرى في البوادي والمتنبي على ظهر جواده . انشدت وأنشدت الغزلان معك :
” قمر الأمس مر بي اليوم كهلا
دامي الطرف مثقلا بالجروح
أنا لوحت بالمناديل وحدي
عندما لم تلوحي ، أو تلوحي
عاتباً مر لم يلوّح بكفٍ
يا حبيبي ولم يغازل سطوحي ”

” فعلى أي جنب تنام أيها المغني وقد ذبل الورد في المزهريات ؟ ” على أي جنب تنام الأن يا حبيب مضطجعا بين قطعان الغيم الشفيف هناك خلف المدى ؟

الأنقى والأكثر شغبا أنت .. الذي يناكفه الأصدقاء فيحتفي بهم كثيرا وعاليا .. الذي يغضب بلا سبب والذي يفرح لاحقا لأسباب كثيرة جلها أحتفالا بالاخرين . المديد بحبه وحساسيته . والبوهيمي الذي لا يعنى بمواقيت الريح والمطر ..
المطر تحلم به شيخا من أجل الحياة . والريح جمعتها في الناي من أجل ” طواف المغني” ، بعيدا عن ” منازل أهلك ” قريبا منها .
قريبا منها وانت الغريب . لأنك جئت من زمن الشعراء الفرسان ولم تكن الخيل هي الخيل . لأنك أردت أن تشهر الحب كاملا على هذا العالم كبدوي حالم ينكسر حلمه أن عبست في وجهه البراري التي كانت قد اومأت له بالسراب ووعدته بالماء .
” لماذا تعاتبني هذه الأرض
لو أستطيع نثرتُ النجوم على ثوبها
وعلّقت في كل واد قمر ”

في ” العالوك ” يكون طعم الحب مختلفا ،يكون حبا بحجم الوطن كله . في ” العالوك ” يقعد السنديان على الأرض كجلوس العجائز على السجاد العجمي يروين الحكايات العتيقة للأبناء والأحفاد . السنديان العظيم الذي أصبح لك دارة ومقرا ووطنا والذي سيبقى لك كهفا تلوذ به روحك المضيئة كلما مسها الحنين.
الأمكنة تذكرنا معا وتذكر أحلام الشعر . في أيطاليا أدهشتك التماثيل والبحر فمشيت كالملك الضليل أمروء القيس في طريقه الى قيصر. على نهر دجلة مشينا نقتفي أثر الوراقين القدماء ونذرع حارات بغداد كأننا في زمن المأمون. وفي القاهرة قرأنا على النيل أسفارنا الرعوية وانتظرنا في السيدة زينب مجيء الشعراء . وفي عمان .. عمان ذات الأسود من الشعر المضيء بالنجوم ..في عمان البهية والباهرة حفرنا القصائد على شجرات السرو وعلى الأرصفة وحادثنا باعة الصحف والكتب القديمة وادراج اللويبدة والمدرج الروماني . من هناك ، من على شرفة بيت الشعر المطلة كالجدة على عمان شربنا القهوة وقرأنا القصائد . في عمان الجميلة رمينا الغزل في طريق البنات. أنت يا ابن العذابات الشفيفة الغامضة ، جمعتنا الربابة وشدو الهجيني .. جمعتنا الخيل العتيقة والوجد .. جمعنا الأختلاف الجميل حيث بي زهد المتصوف الحالم وبك حلم الفارس المغامر . وما بين مغامرتين التقينا . بك سفر الى الأقاصي ، وبي سفر الى داخل الذات.
سفر الى الأقاصي هناك حيث تكتب قصيدتك الأخيرة وترسلها الينا في عيون الغزالات وفي شالات الياسمين الأبيض وأردان القمح المقصبة بالذهبي . لا تنسى يا حبيب أن تمهر قصيدتك بأهداء خاص وليكن الينا جميعا .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *