شاعر العامية “فؤاد حداد” في ذكراه


إسراء عبد التواب *

“البطولة لن تموت بموت البطل” قالها يومأ المفكرالمدهش عبد الوهاب المسيري لطلابه قبل أن تنتهى رحلة حياته. تلك الكلمة أستحضرها، وأنا أقلب فى قصائد “فؤادحداد” والد الشعراء الذى كان يفتح بيته للمريدين من جيل الشباب فى وقت أغلقت فيه الدولة أبوابها فى وجهه وخاصمته، لكن شاعرنا لم يستسلم لعبوس وطن إختارأن يعيش فيه، لم يمنح لنفسه البطولة ولكنه قال للصغار”بيتى مفتوح لكم ناضلوا بالشعر ولا تخرسوا الأصوات”وحين رحل عرف دراويشه أن البطولة لا تموت بموت البطل ولكنها تستمر فى الإمتداد ما دام هناك فكرة وقضية يؤمن بها الفرد ويعلمها لجيل جديد قادرعلى حمل راية نكست ذات يوم.

مات حداد وبقى عمر نجم وبهاء جاهين وماجد يوسف تلاميذ أوفياء للعامية التى إختارها أستاذهم للتعبيرعن روحه لأنها لغة البسطاء.لا يترك شاعرنا وقته يهدر دون قصائد.جذوره لبنانية لكنه يختار مصروطنا بإراده حرة، لكن الوطن لا يرحب به. يعرف أنه عنيد ولا يقبل المهادنات منذ إنضمامه للحركة الوطنية للتحرك الوطني “حدتو” التى ظلت تعارض عبد الناصر بعد أن رحبت به زعيما قوميا بعد ثورة 23يوليو.
لكن الأخطاء تتابعت وهى تمس الديمقراطية فى مقتل . هنا ظل أعضاء “حدتو” يهاجمون عبد الناصر وتغير قلب الأخير بعد أن رحب به شاعرنا وهو يكتب قصيده عنه تحت عنوان “قلب عبد الناصر”
إسمك شجر في الناس/رافع أتم جبين/دايس على التعابين/تستقبل المجهود/واضح رحيب الصدر/شعب الحنان والجود/أصلب رجال الصبر.

لم يعد عبد الناصر رحيب الصدر. فشبح “الخلايا النائمة” كانت تؤرقه وتخيفه من إحتماليه قيامها بإنقلاب ضده فقرر الإنقلاب على كل الحركات الشيوعية بعد أن إنتهت شهور العسل بينه وبينهم ليظل الإنتماء لهذا التوجه السياسي جريمة تستحق العقاب، شعراء المرحلة أصيبوا جميعا بالإنقسام النفسي لأب يقسوعليهم ويعتقلهم ويشردهم، وفى نفس الوقت يحبونه ولم يسلم أحد من هذا الغرام القاسي الذى جعلهم يتراجعون عن مواقفهم بعد قراره بتأمين القناة.هنا كفت “حدتو”عن دورها أدركوا أن عبد الناصرأغلق المساحات التى كانوا يتحركون بها. إستسلموا لغرام الزعيم القومي وهجروا المعارضة .
لكن حداد لا يهجر مبادئه يظل يعارض ويعتقل مرتين آخرها فى 1956ويكتب ديوان “آحرار وراء القضبان “ويصبح شخصا منبوذا، يجرب ألم الوحدة والإغتراب لكنه لا يستسلم للتجاهل يقبض على اللغة بضراوة يكتب ويحارب من أجل الكلمة ولا يقبل المهادنة «الزمن هو الذي يحكم..الزمن هو المقامر قبالتنا على الجانب الآخر من الطاولة وفي يده كل أوراق اللعب وعلينا نحن أن نحزرالأوراق الرابحة في هذه الحياة».
قالها”ساراماجو” ذات يوم وآمن بها فؤاد حداد وكبرياؤه لا ينهزم صرخ فى وجه التاريخ
<< يا ذاكرة الشعب المصري/ مش شرط يقيموا التماثيل/ أنا واضح زي الأحلام.”
آمن أن <<الصوت وحده يبقى >> مثلما قالت الشاعرة الإيرانية”فروغ فرخزاد” والموت يختطفها وهى فى ريعان الشباب.قالتها وتذوق حكمتها حداد وعرف أن الزمن هوالرهان الوحيد للشعر تخرسه كل الديكتاتوريات ويظل صوته يمتد ويهز الأجيال القادمة ويمنحها الجنون والتمرد والثورة.
ثورات الربيع العربى كلها كانت ترفع قصائد للشعراء.كانت كذبة حينما قال الوطنيون بحكم الظرف أن الشعر لا يحرك الثورات، ولكنها جاءت اللحظة التى أثبت فيها الشعرأنه ما زال الملك وهو يكش على رقعته كل الإستكانات الراسخة.
تهتف الميادين فى مدن الثورات العربية بصوت حداد

( احنا الجنود احنا العرق/احنا الكتابه على الورق/احنا اللى بنمشى الزمن/المطرقه ناحت على السندان/اتقسمت كتل الحديد قضبان/الرأسمالى بيملك الآله/الرأسمالى بيسجن الإنسان/الرأسمالى بيملك الآله/أغلال على استغلال على بطاله/يجعل حياتك يا فقير عاله/ويموتك ويبيع لك الأكفان ) .

حداد الذي تتزامن ذكراه فى هذا الشهر يعطى دفعة قوية لقتل الإحباط لكنه لا يقتله بمنحنا الإجابات ولكنه يستدعى مزيد من الأسئلة.الإجابات وحدها قادرة على قتل البراح الذى يتمتع به روح الشاعر. علامات الإستفهام هى من تفتح نافذة جديدة للتفكير وللحيرة والإنقسام بين فكرة وأخرى.هنا يتجلى الإبداع بكل صوره حينما تعرف “أن الجواب هو السؤال” كما قال مبدعنا”بهاء طاهر”.تساعدنا تلك العبارة على إكمال الطريق حتى لا نستسلم لرفاهية اليأس بل تراوغ الفكرة وترواغك حتى تتمكن منها لتطمح فى حكمة جديدة عبر السؤال الممتد.

فلسفة حداد فى التفكير كانت تفتح له طريقأ للإيمان .يتحول البروتستانتي إبن الأم الكاثوليكية إلى الإسلام يتحول بعد معاناه روحية تهز قلبه برجفه وهو يبحث عن وجه الله فى وجوه الفقراء وهو يبحث عن عدالة تنتصر لهم.
حياة المثقف إن إنفصلت عن تصرفاته الشخصية أصبح فريسة للتناقض .لكن حداد يبرهن فى حياته أنه شخص واحد ولا يتحرك بقناعات متناقضة .حياته مثل قناعته لذا هجر البرجوازي إبن الأكابر بيت والده”سليم بك حداد”لأنه أحب فتاة فقيرة دون رضا أبيه وأصر على الزواج بها
الشاعر حين يحب لا يفكر فى الفوارق يتحول إلى طراز رفيع لإلتقاط خيوط الحب لذا تعذب كثيرا وهو يبحث عن الله فى وجوه البشر وحين سئم من الوجوة الملطخة بدماء الفقراء عرف أن وجه الله لا يكمن سوى فى الأزقة والحواري والبلاد الواسعة الممتده.كان يمشى بهدوء وهو يحمل طبله المسحراتى ويوقظ النيام ( يامصر يامعلمانى الصبر والقدرة /أنا الفقير الضعيف آمنت بالقدرة ).
إعتبره كتاب كثيرون حاله روحية قال عنه الشاعر”وائل عبد الفتاح”كان حاله أكبر من دراويشه، إمتصهم كقطب صوفي لأن حياته رحلة قلق إمكانية الأسهلة فيها أكبر من الإجابات التى وجدها”.

سيخرج شاعرنا من تجربته الروحيه ويدخل تجربة جديدة من التوهان فى الشوارع .لسنا أمام حالة جديدة من الإغتراب ولكننا أمام موت معنوي كامل سيتسلل لقلب الصوفى الذى يصاب بفوبيا جديدة وهو يرى بصمات الإنفتاح التى وضعها السادات تتسلل إلى كل الأماكن المفتوحة ومراكز التسويق الكبرى وهى تصبغها بلون مقزز.

سيرتبك حداد ومعه سترتبك حقائق العالم بروحه .تتشوه البنايات وتغيب القيمة سيرى لأول مرة أنه غير قادر على الكتابة ولا المشي ولا شيئ سوى التوهان المستمر .مدينة القاهرة ترسم من جديد دون جماليات فنية ولا مرجعية قومية وبلا أى ذاكرة جمعية .ستتفتت كل القيم والسادات يريد أن يضع ذاكرة بديلة لها.سيصبح المال هو القيمة الوحيدة للصراع وهنا ستطفح كل التناقضات على السطح .سيجد حداد أن كل شيئ صار يباع ويشترى.نستحضر روح “فضة المعداوى”وهى تصرخ “الخنزيرة ياله”وهى تخطط للسيطرة على فيلا “توفيق رشوان”المكان الذى يرفض فيه الأستاذ الجامعى ذو الميول الإشتراكية التفريط فيه لانه تراث حى .هنا تقرر “فضة المعداوى”ـ المعلمة الجاهلة ـ أن تشترى التراث بالمال لا للحفاظ عليه ولكن لهدمه .الصورة التى يرسمها لنا الراحل المبدع “أسامة أنور عكاشة” كرث لها السادات وأربك ذاكرة المثقفين وجعلها تهتز .

منهم من يقرر المقاومة مثل “توفيق رشوان”وفى النهاية يرفع الراية البيضاء لتوديع هذا الماضى الثمين ، ومنهم من ينطوى على نفسه ويموت فى شقته وهويجاهد لكتابة ذاكرة جمعية ويعيد قراءة الشخصية المصرية مثل المفكر جمال حمدان ، ومنهم من يهاجر عن الوطن وهو يحن للماضي ولا يريد عيش حاضر ملوث بدم الفقراء ومنهم من يتوه .كما تاه فؤاد حداد وتوقف عن الكتابة بسبب جلطة إصابته عام 1980 .بعدها حدثت الإفاقة المعنوية وأشهر شاعرنا قلمه من جديد ليكتب مرحلة جديدة من إستعاده الوعى وهو يقسم فى ديوانه أيام العجب والموت ( كنت حالف تحت عين الله /إني آخد حقي من موتي ).

* صحفية من مصر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *