مجدولين أبو الرب *
الفتاة أشفقت عليه في ساعاته الأخيرة، عرفت أن هذا العجوز المشاكس الذي كثيراً ما حاصرها بنظراته المفتونة، الله وحده أعلم بما يكابد الآن، ومن باب حسن الجيرة جاءت تزوره.
زوجة العجوز وضعت كأس ماء على المنضدة قرب سرير العجوز، وعادت إلى المطبخ مسرعة عندما فاحت رائحة زيت القلي على النار.
الفتاة اقتربت من سرير العجوز. هالها ذلك الهزال؛ كومة عظام تحت الغطاء. عينان تحتضران.. تغيبان في عالم آخر. تناولت كأس الماء، وأسندت رأس العجوز بيدها لتسقيه.
العجوز نظر نحو الزائر بنظرات تجاهد كي تؤوب إلى الحياة. انتبه إلى وجه الفتاة، فبشّ وجهه. تشبّث بذراعها كما طوق نجاة لغريق.
سحلت بضع قطرات على جانبي فمه، فتناولت الفتاة منديلاً ومسحت الماء عن ذقنه، لمحت في عينيه نظرة امتنان، فابتسمت له.
حاول أن يقول شيئاً، فلم يقوَ على النطق. وعندما كانت تسنده إلى المخدّة، تحاشت نظراته التي سرعان ما تحوّلت إلى نظرات هيام وافتتان.
الزوجة التي غابت بضع دقائق لاحظت الاحمرار الذي يعلو وجنتي الصبيّة وهي تسحب يدها من يد العجوز، تمتمت وهي تهز رأسها وتكيل تنهيدات من العتب واللوم على رأس زوجها الذي بات يشبه ذبالة ضوء في الرمق الأخير:
«لا إله إلا الله ، وحّد الله يا ختيار، اذكُر الله..»..
لكنّ العجوز بقي ساكناً، بلا حراك، لا يرفّ له جفن.
فارق الحياة، وعيناه مشرّعتان، يتلألأ فيهما بريق ساحر، وما زالت فيهما تلك النظرة التي تعرفها الصبيّة جيداً.
الطارق
فتحتُ الباب.
ما من أحد.
أغلقته واستدرتُ راجعاً.
انبعثتْ طرقات جديدة على الباب.
فتحتُ الباب مرة أخرى، وما من أحد.
تقدمتُ خطوة خارجاً، تلفتّ يميناً، يساراً، وإذ برجل يقف بمحاذاة السور، تقدّم مني، وحيّاني بخجل.
مرّتْ لحظات وهو يجاهد كي ينطق، ثم قال وهو ينظر نحو الأرض: «أريد.. لو سمحت، أريد.. بالله لا تؤاخذني..».
مظهره لا علاقة له بالتسول، أشفقتُ على حاله المرتبكة، فقلتُ مشجّعاً: «أبشر، ما طلبك؟».
لكن كلماتي أجّجت ارتباكه، فنطق بصعوبة: «لو سمحت، أريد..».
استفزت حالُه كل ما في جعبتي من نخوة، فقلت: «يا رجل اطلُب، لو أردت أحد أبنائي لأعطيتك». فأشار نحو الدالية في الحوش خلفي، وقال: «.. عنقوداً واحداً من هذا الحصرم». انفرجتْ أساريري، لأن عقدة لسانه انحلت.
تركته لفترة، وعدتُ إليه، فوجدته واقفاً بمحاذاة السور على بعد خطوات من الباب، ناولتُه كيساً وقلت: «تفضّل، هذه ثلاثة عناقيد».
تناولها وهو يرجوني ألاّ أؤاخذه، لكن الفضول دفعني لسؤاله: «هل تحتاج هذا الحصرم لتحضير علاج ما؟»
فأشار إلى الناحية الأخرى من الشارع، حيث تقف امرأة حبلى بانتظاره.
* قاصة من الأردن
( الرأي الثقافي )