د. عمار علي حسن *
لم تكن الثورة عند نجيب محفوظ أمراً متعيناً في واقعه المعيش، وفيما يبدر عنه من سلوك وتصرفات. فالرجل كان يميل إلى الإصلاح الهادئ والناعم، ويختار مأمون العواقب من الأفعال والأشياء، وينفر من الدم والإرباك قدر نفوره من نزعة التسلط التي تنتاب بعض الراغبين في التغيير الجذري والجائح تحت طائلة “الشرعية الثورية” أو مواجهة “الثورة المضادة” عبر الإقصاء والتطهير. هكذا ظهر في موقفه من ثورة يوليو، حسبما تجلى في ثنايا بعض رواياته، أو في تعليقاته المقتضبة التي نقلت عنه، ونسبت إليه.
ويعبر حوار بين حسني علام وسرحان البحيري، من شخصيات رواية “ميرامار” عن هذا بجلاء:
“ـ نحن مؤمنون بالثورة، ولكن لم يكن ما سبقها فراغاً كله.
ـ فقال بعناد مثير:
ـ بل كان فراغاً.
ـ كان الكورنيش موجوداً قبلها، كذلك جامعة الإسكندرية.
ـ لم يكن الكورنيش للشعب، ولا الجامعة”.
وتبلغ المفارقة مداها مع عيسى الدباغ بطل رواية “السمان والخريف” الذي ذهب في مهمة وطنية لإيصال السلاح إلى المقاتلين في مدن قناة السويس، وعاد ليجد نفسه خارج التاريخ، بعد أن قامت ثورة يوليو، واعتبرته من رجال “العهد البائد” ففقد مكانه وموقعه السياسي وخطيبته وتساقطت أحلامه تحت قدميه، فترك نفسه للضياع، متقلباً بين ماضٍ يتحسر عليه، وحاضر يتفطر منه آلماً، ومستقبل لا يرى فيه أي بارقة نور.
وحتى الشباب الذين آمنوا بالثورة وعلقوا عليها آمالاً عريضة لم ينجوا من الملاحقة والمطاردة والتعذيب والتضييق باسم “حماية الثورة”. فإسماعيل الشيخ وزينب دياب وغيرهما من أبطال رواية “الكرنك” هم شباب آمنوا بثورة يوليو، وكانوا يعتقدون أن العسكر على صواب مطلق، ولكنهم استيقظوا على واقع أليم، حين مروا بتجربة قاسية بعد أن اتهمتهم السلطة، ظلماً، بأنهم من “أعداء الثورة”، فانتهك عرض زينب، وجلد إسماعيل، وأجبرا على أن يكونا عملاء للمباحث، يتجسسون على رفاقهم من المناضلين الذين اقتسموا معهم الرغيف والحلم.
وجسد محفوظ موقفه بشكل أشمل في روايته الرمزية “ثرثرة فوق النيل” التي توقعت مآل الثورة حين تخلت عن أحد مبادئها، وهو الديمقراطية، فانحرفت وانجرفت إلى متاهة عميقة. فها هي “العوامة” التي يجلس في جوفها مجموعة من “المساطيل” المنتمين إلى “الطبقة الوسطى” في الغالب الأعم، تنفك الحبال التي تربطها وتثبتها بالشاطئ، فتنزلق إلى جوف المياه، دون أن يعرف راكبوها شيئاً عن مسارها ومصيرها.
ويتكالب على الثورة المنتفعون في صيغة سرحان البحيري أحد شخصيات “ميرامار”، الذي يستغل نفوذه وموقعه في الاتحاد الاشتراكي، ليتربَّح ويسرق، وكذلك رؤوف علوان بطل “اللص والكلاب” الذي يقول كلاماً عميقاً عن العدل وتمضي تصرفاته في الطريق المضاد. لينتهي الأمر إلى الغرق في تفاصيل “الثورة المضادة” التي بدأت عقب الانفتاح الاقتصادي، لتطل شخصيات رواية “يوم قتل الزعيم” ونجد الشباب ضائعين من جديد في مسار بطلي قصة “الحب فوق هضبة الهرم”.
ويطلق محفوظ على زعيم ثورة يوليو “البطل المهزوم” ولا تربطه تلك العلاقة العاطفية الممتدة والعميقة التي ربطته بزعيم ثورة 1919، والتي جسدها في مواضع كثيرة في رواياته وقصصه، وجسدها بشكل مكثف في الحكاية رقم (23) من “حكايات حارتنا”، إذ يروي بطلها الطفل: “…أثب من الفراش مندفعاً نحو الباب المغلق، أتردد لحظة ثم أفتحه بشدة لأواجه المجهول. أرى أبي جالساً. أمي مستندة إلى الكونصول. الخادمة واقفة عند الباب. الجميع يبكون. وتراني أمي فتقبل عليَّ وهي تقول: أفزعناك.. لا تنزعج يا بني. أتساءل بريق جاف: ماذا؟ فتهمس في أذني بنبرة مختنقة: سعد زغلول. البقية في حياتك!، فأهتف من أعماقي: سعد!، وأتراجع إلى حجرتي، وتتجسد الكآبة في كل منظر”. بل تظل سيرة زغلول تعيش معه حتى في أحلامه ويصير أسطورة خالدة. ففي الحلم الثامن من “رأيت فيما يرى النائم” يقول البطل: “رأيت فيما يرى النائم أنني عيسى بن هشام بطل مقامات الهمذاني ومريد أبي الفتح السكندري، وأنني أعبر ميداناً في مكان وزمان غامضين، وترامي إليَّ هتاف مدوٍّ بحياة الاستقلال وسقوط الحماية، ثم وجدتني على حافة مظاهرة ضخمة تحدق بخطيب مفوه جهير الصوت، عرفته رغم بعده عني بزيه الأزهري وهو يمدد داعياً للثورة والفداء. وهجم الفرسان الإنجليز فنشبت معركة ثم وجدتني وجهاً لوجه مع الخطيب قريباً من مدخل جامع. قلت له: أنت أبو الفتح السكندري خطيب الثورة الحرة. فقال بحزن ملتهب: نفوا الزعيم الجليل نفاهم الله من الوجود”.
وتأخذ الثورات عند محفوظ طبقات أعمق، فنجدها “ثورات دينية” في روايته التاريخية “العائش في الحقيقة” حيث إخناتون الباحث عن التوحيد في وجه تعدد الآلهة، و”أولاد حارتنا” حيث يأتي أدهم وجبلة ورفاعة وقاسم، ليتمردوا على الوضع السائد، ويجمعوا حولهم بسطاء الناس والمغلوبين والمقهورين، فيقيموا حياة جديدة، لا تلبث أن تتداعى لأن “آفة حارتنا النسيان”. ونجدها كذلك “ثورات حياتية” في “ملحمة الحرافيش” حيث يتوق أهل الحارة إلى العدل، لكن يتعاقب “الفتوات” من دون أن يتحقق هذا الحلم، فكل منهم يصل إلى القمة محمولًا على أكتاف المطحونين وهم يهتفون له: “اسم الله عليه” لكنه لا يلبث أن يستبد ويفسد، إلى أن يأتي في النهاية “عاشور الناجي” رمز العدل الإنساني المفرط، والذي لا يخون.
كما تأخذ الثورة طبقات أعرض، من خلال انتصار محفوظ لقيم الحرية والعدل والتقدم والتسامح، لكنه يبقى في أغلب الأحوال ممن يميلون إلى التحديث المتدرج والمستمر والهادئ أكثر ممن ينادون بتغيير جذري يقلب كل شيء رأساً على عقب. ولعل هذه هي خلاصة تجربته الطويلة من ثورتين، ولذا لم يكن من بين المطالبين بالانتفاض على نظام مبارك، وتمنى لو أنه قد أصلح من نفسه، وأنصت إلى صوت العقل والحكمة واستجاب لسنة التغيير، فتجنب المصير القاسي الذي آل إليه، بفعل ثورة 25 يناير، التي وقعت بعد رحيل محفوظ بسنوات، لكن بعض طليعتها كانوا إحدى ثمار القيم والأفكار التي آمن بها وهي الحرية والعدل والكرامة.
* باحث واكاديمي من مصر
( الاتحاد )