يوسف يوسف
فيما كان الفيلسوف الألماني الشهير «نيتشه» يرى بأن المسيحية ديانة العبيد، وأنها قد ماتت بموت الله/ المسيح، فإن المفكر الإسلامي مالك بن نبي ذهب إلى أن قوانين الأمم الحديثة لاهوتية في أساسها. ومما قاله هذا المفكر المغربي الشهير في كتابه «الظاهرة القرآنية»: «أما ما يطلقون عليه قانونهم المدني –يقصد الغربيين– فإنه ديني في جوهره، ولا سيما في فرنسا، حيث قد اشتُق من الشريعة الإسلامية».
ليس الهدف من هذه الإشارة الانتصار لأحد من الاثنين: الألماني المسيحي، والمغربي المسلم.. لكن الغاية الوقوف أمام الإشكالية التي ما برحت تثير الالتباس في العقول، رغم أن ما يُعَدّ مقدسا لا يُلتقط بالوراثة كما يلتقط الابن ما تركه له والده من المال والعقار، ولربما يلتقي المرء أو يختلف مع «مرسيا ألياد» في كتابه «المقدس والعادي» الذي تتناوله هذه المقالة (ترجمة عادل العوا، دار التنوير للطباعة والنشر، 2009).
وألياد حتى لا يغيب عن الأذهان، روماني الأصل، وُلد العام 1907، وله من المؤلفات الكثير ومن أبرزها: «اليوغا- محاولة في أصول الصوفية الهندية» و «علم المعادن والسحر والسيمياء» و «تاريخ الأديان» و «وجوه الأسطورة».
ففي حين اعتقد العالم اللغوي «ماكس موللر»، أن الدين «مرض لغوي»، وأنه ليس سوى انعكاس لعجز البشر الطبيعي والاجتماعي، فإن الإيمان المسيحي في أوروبا كان قد بلغ شأوا عظيما في العصر الوسيط وعصر النهضة، وكان من نتيجة ذلك كما يقول «ألياد» التعصب والإعلان عن أن جميع الديانات ما عدا المسيحية، ذات أصل شيطاني. وفي حين رأى «فريزر» أن السحر هو أصل الدين، فإن الشعور الأوروبي تجاه الدين كان -وكما يصفه «هوسرل»- يقوم على أساس الإيمان بأن الله يقوم على رأس الجماعة الإنسانية. وبعكس «ماركس» الذي عدّ الدين أفيون الشعوب، فإن ذلك الشعور الأوروبي الذي وصفه «هوسرل»، كان يرى بأن الله هو عقلانية العالم والتاريخ معاً وتتحد فيه الذوات العاقلة من أجل انتصارها على الموت، كما أن هذا الشعور آمن بأن ظهور الله من خلال الجماعة البشرية دليل على كماله.
إن ما كان «فرويد» يظنه بأنه مجرد عصاب وسواسي يصيب البشر كافة ولا يمكنهم التخلص منه إلا عندما يبلغ الواحد منهم سن الرشد، هو نفسه الذي رأى فيه «رودلف أتو» صاحب كتاب «المقدس» الذي نُشر العام 1917 دليلا على تجلي قوى نفسية لا شعورية، يختلط فيها الإلهي بالإنساني، والعقلي باللاعقلي، سوى ما فيه من عاطفة خاصة تتكشف في الأديان كافة، وهي التي تسمى: «عاطفة المقدس».
يقول «مرسيا ألياد»: «رفض بعض الباحثين في العصر الحديث إفساح المجال للدين، واستعاض بعضهم عنه في الواقع بعبادة علمانية: عبادة كائن أعلى، أو عبادة شخصية سياسية.. وثمة من استعاض عن الدين بفلسفة اجتماعية سياسية أو عرقية صُعِّدت ورُقِّيَ بها إلى رتبة عقيدة آمرة قاهرة لا تُمَسّ.
وهنا نسأل: كيف يمكن للواحد منا أن يحدد له موقفا ورأيا في هذا كله؟ إننا في حالة الأخذ بأي من مقولات «فريزر» أو «ماكس موللر» أو «فرويد» أو «ماركس» نكون كمن أعار عقله لسواه من البشر، ونكون قد أصبحنا أسرى ما يسميها «ألياد»: «العبادة العلمانية»، ومثل ذلك يحدث أيضا إذا ما أخذنا بأيٍّ من مقولات «ألياد» أو «هوسرل» أو غيرهما ممن يرون الدين من زاوية مغايرة ومختلفة عن تلك التي ينظر منها أيٌّ من السابقين.
لذا لا بد من اختيار طريقة أخرى قوامها الالتفات إلى العادي كذلك، وبحماستنا نفسها للمقدس، على الرغم من أن «ألياد» يرى بأن ظهور المقدس هو الأساس الأنتولوجي للعالم. وهذا العادي يجعلنا نذهب إلى علاقة الآلهة بالبشر في الديانات القديمة –الأساس البدائي لظهور الدين. ولسوف نتبين عند استقصائنا لبوادئ الفكر اللاهوتي، أن النظرة اللاهوتية عند البشر آنذاك لم تكن خيالية غيبية، وتحديداً عند سكان الشرق القديم، وفي دياناتهم التي كانت على عكس ما وصل إليه «الفكر الهوميري» بتعبير يوسف الحوراني في كتابه «البنية الذهنية الحضارية في الشرق»، الذي يرى هو الآخر أن الديانات الكنعانية والسومرية القديمة، كانت انفعالا حيا يسود يوميات حياة الإنسان، ينظم بواسطتها شؤون حياته ووجوده.
من هنا يأتي اختلاف النظرة مع الكثيرين، والالتقاء مع «مرسيا ألياد» في قوله: «إن كل حياة دينية هي في الدرجة الأولى عبارة عن تنظيم علاقات البشر بعضهم ببعض، كما هي تنظيم علاقاتهم جميعا بقوى عليا، هي قوى المقدس». إنه الالتقاء حتى لو اختلف الفهم حول المقدس، وماهيته، الذي يظل على الرغم من أي اختلاف الأساسَ الأنتولوجي للعالم كما يرى «ألياد»، رغم أننا لا نلتقي معه في رؤية المركز، من حيث هو نقطة ثابتة مطلقة يمثلها الله في اعتقادنا وليس شيئا آخر سواه كما يرى «ألياد» في فلسفته.
ثمة في الدين كما يرى «ألياد» جانبان: الأول العقلي والتأملي، والثاني اللاعقلي. وبصرف النظر عما يشعر به الإنسان الغربي الحديث من الضيق تجاه بعض أشكال تجليات القداسة، تبقى الرمزية المضمرة في الدين، غنية ومعقدة. وفي اعتقادنا فإن الحضارة الاوروبية التي استطاعت تحويل الدين إلى علم شامل، والله إلى منطق، هي نفسها التي سعت إلى تحويل العالم إلى مثال، على اعتبار الإيمان ب «العقيدة الهوسرلية» التي ترى بأن الله يقوم على رأس الجماعة الآنسانية.
وبحسب «ألياد» وعلاقة المكان بالمقدس، ثمة أمكنة كما يقول تبقى متميزة، وتختلف عن سواها من الأمكنة اختلافا كيفيا، كموطن الولادة، ومكان الحب الأول، أو شارع ما، أو زاوية في مدينة أجنبية يزورها المرء في صباه. إن هذه الأمكنة كلها تحتفظ حتى في نظر الإنسان اللامتدين بصفة استثنائية، صفة وحيدة: أنها هي الأمكنة المقدسة لعالمه الخاص.
هكذا، فإن ما يتم التعامل معه من الأمكنة بوصفه مقدسا، فإنه لا بدّ ينطوي على ما يسميه «تجلي القداسة»، وهي الحالة التي تجعل المرء ينتزع هذا المكان أوذاك، هذه الأرض أو تلك، عما حوله من الأمكنة، وجعله في المخيال مغايرا مغايرة كيفية.
هذه هي الحقيقة التي يتوصل إليها هذا الروماني بدقة متناهية. ولعله في ابتعاده عن الظاهر في تعامله مع المكان، ورؤيته إياه من منظور دلالي ورموزي بحسب علاقة الإنسان التفاعلية به، هو ما دفعه إلى القول: «إن قدسية المكان لا تتطلب في الغالب تجلي الإلهي، ولا تجلي القداسة بالمعنى الصحيح، وإنما تكفي أي إشارة لتدل عليها».
ذلك أن رغبة الإنسان الديني في أن يحيا في المقدس، تعدل في الحق رغبته في أن يوجد في الواقع الموضوعي. وهي تعدل رغبته في أن يحيا في عالم واقعي لا في وهم. وهذه الرغبة لا تنحصر في الإنسان الديني كما يرى «ألياد»، وإنما يمكن أن نراها في إنسان المجتمعات التقليدية عموما.. تلك المجتمعات التي في ضوء فهمنا للرمزية المضمرة في باب السماء، ذلك الذي أطل منه إبراهيم على ربه، لم تكن تستطيع العيش إلا في أمكنة مفتوحة نحو الأعلى، وحيث يمكنها الاتصال بالعالم الآخر، العالم المتعالي. وربما أنها ما تزال كذلك. وعلى هذا يمكننا القول إن الأديان، وعبر العصور المختلفة، ظلت تَظهر لنا بوصفها مؤسسات اجتماعية خلقية تعنى بوقائع حياة الإنسان، وتصون له قيمه وتحمي ضعفه، ومن هنا كانت لها سلطتها على الفرد والجماعات.
وفي اعتقاد «مرسيا ألياد»، فإن الكون -أيّ كون- إنما يولد بدءا من مركزه. وهو يمتد من نقطة مركزية أشبه ما تكون بالسرة. وعلى هذا المنوال، فإن الكون يولد وينمو، بدءا من نواة. من نقطة مركزية.
ومن دون التركيز على الاختلاف مع «ألياد»، وهو كبير هنا إلى حد بعيد، فإنه وفي مقاربته بين البيت والقداسة يمتلك قدرا كبيرا من الإقناع. فالبيت ومهما كانت بنية المجتمع، سواء أكان مجتمع صيادين أم رعاة أم مزارعين، أم كان مجتمعا بلغ منزلة حضارية كبيرة، يظل مقدسا، على اعتبار أنه يؤلف صورة للعالم بشكل ما، يحاول الإنسان فيها «التمثل بالرب»، الذي قال العهد القديم فيه، إنه خلق منذ الأزل مثال المسكن ومثال جميع آنيته المقدسة، ومثال الهيكل أيضا.
يقدم «ألياد» مقاربات في المقدس والعادي، تستحق الوقفة المتأملة. ولعله يكون قد ذهب إلى قارة جديدة، فاكتشف الكثير من مجاهيلها، ووضع إصبعه على ما نخشى التوقف أمامه ومناقشته، بسبب عدم الاستعداد للمضي في درب النموذج المتعالي، الذي في مقدوره الوقوف أمام باب السماء كما وقف إبراهيم، شيخ الأنبياء وكبيرهم من دون منازع
( الرأي الثقافي )