خيري منصور
‘لقد نبذتني يا وطني، لن ارجع اليك، لن أرجع أبدا’ تلك هي آخر عبارة اختتم بها هشام شرابي كتابه ‘الجمر والرماد’ الذي قال عنه أدونيس بعد ان قرأ مخطوطته انه نادرا ما قرأ نتاجا عربيا هزّه وتمنى لو كان صاحبه، لكن هذه الامنية استبدت به حين قرأ ‘الجمر والرماد’ فهو كما يقول كتاب آسر ..
وقد كتب هشام شرابي عن المثقفين العرب وظروف نشأتهم والسّياقات التي أنتجتهم والفئات التي عبّروا عنها، مثلما كتب عن المجتمع الباترياركي وتكوين الاسرة العربية، وكان قبل رحيله بأعوام قليلة قد زار عمان بدعوة من مؤسسة شومان وألقى محاضرة شملت العديد من شجون ثقافتنا، واثناء الحوار مع الحضور سألته سيدة لماذا لا يكتب عن المرأة والتخلف الاجتماعي، فاغرورقت عيناه وقال بصوت متهدج انه كتب الكثير في هذا المجال، وفور انتهاء المحاضرة قلت له : ها انت عدت رغم قرارك الصارم في الجمر والرماد، فاغرورقت عيناه مرة اخرى، وتلك حكاية تطول…
ولعدة اسباب يمكن النظر الى تجربة شرابي على انها نموذجية قدر شعور المثقف العربي بالاحباط، فهو من ابناء يافا الموسرين مما اتاح له السفر في ثلاثينيات القرن الماضي الى الجامعة الامريكية في بيروت ثم الى الولايات المتحدة حيث عمل استاذا بارزا في جامعة جورج تاون، وقدم شرابي في مذكراته نقدا ذاتيا للطبقة التي ينتمي اليها، لأنه كان يعتقد بأن الدفاع عن الوطن ومقاومة الاحتلال حكر على الفلاحين، وتلك تداعيات وهواجس طفت على سطح مذكراته عندما كان يقاسم يوسف الصايغ سيارة صغيرة متجهة الى المطار حين غادرا فلسطين لأول مرة …
خلاصة ما يقوله شرابي رغم ان لديه من التفاصيل الشائقة ما لا يقبل الاختزال انه ترك عمله في جورج تاون وعاد الى العالم العربي بعد هزيمة حزيران 1967 وكان قد سمع او قرأ عن هذه الهزيمة التي اصابته شأن سواه بجرح بليغ في احد الملاعب، وهذا ايضا استكمال للنقد الذاتي الذي بدأه في المرحلة الأولى.
لم يكافأ الاكاديمي البارز على عودته الى وطنه بل عوقب عدة مرات مما ضاعف من شعوره بالاحباط وعندئذ قرر الرحيل متخذا قرار عدم العودة. انها صورة مفروزة بوضوح وبالأبيض والاسود لمثقف مخذول، لكنها ايضا مجرد صورة في ألبوم يضم العديد من الصور المغايرة، في تلك الفترة عوقب مثقفون ومفكرون وشعراء عرب على صحوتهم القومية بقدر ما كوفىء آخرون ممن نسميهم بلا تردد او مجازية انتلجنسيا للايجار، وحين كتب باتريك سيل كتابه ‘بندقية للايجار’ اقتصر فيه على الاغتيال بمعناه الجسدي تاركا ما تبقى وهو الأخطر من الاغتيال المعنوي والاعلام المزدوج لمن هم ادرى بشعاب هذه التضاريس الوعرة.
* * * * * * *
الانتلجنسيا المعروضة للايجار كانت موجودة منذ السلطة وادواتها، لكنها لم تكن على هذا النحو المثير الذي تجلى خلال العقود الاربعة الماضية على الاقل، فقد تحولت التّوبات الايديولوجية الى نمط انتاج، يساريون هرعوا الى كتابة المذكرات وبمعنى ادق تلفيقها لتقديمها كاعتذار الى اليمين الذي اصبح يملك فائض السلطة والمال، وبالمقابل نكص قوميون على اعقابهم واستداروا مئة وثمانين درجة عائدين الى بيت الطاعّة سواء بمعناه الايديولوجي او باعتباره بيت المال ايضا، وبالتدريج ملأت النظم السياسية ثلاجاتها بأشباه مثقفين مجهزين للاستعمال عندما تأزف الحاجة، وان كان لا بد من توفير مايكروويف لتسخين المجد وناقديه كوجبة ساخنة وطازجة لهذا فالشبه كبير بين المايكروويف والتلفزيون، استئجار البندقية قد يحقق الهدف باغتيال شخص ما، لكن استئجار الانتلجنسيا خصوصا تلك المستولدة بأنبوب السلطة قد ينتهي الى اغتيال فكرة او مشروع واحيانا يستهدف اغتيال أمّة.
واذا عدنا لمراجعة العقود الاربعة الماضية من حياتنا السياسية والثقافية نجد ان هناك العشرات وربما المئات من الملاقط والقفازات التي استخدمتها النظم ضد مثقفين اصلاء او عضويين بمعنى ادق. ولأنهم جاهزون للاستئجار فهم مستعدون للبرهنة على الشيء ونقيضه في دقيقة واحدة. الارض تدور ولا تدار والجاسوس بطل وخائن، والعدو حميم ولدود وكذلك الشقيق والصديق، واوجه الشبه عديدة بين هذه المهنة وبين البغاء، فالبغي ليست معنية بوسامة او قبح الزبون او حتى بمهنته ورائحته فهي لا تفكر الا في شيء واحد هو ما سوف تجنيه من عملها بمعزل عن اية عاطفة او قيمة او حتى مزاج شخصي. وهذا بالضبط ما فعلته الانتلجنسيا المعروضة للايجار، فهي لا تفكر بالسلطة التي تستخدمها او بالايديولوجيا التي تحرك تلك السلطة وثقافتها تنحصر في أسعار العملات المحلية وما يمكن ان تترجم اليه من العملات الصعبة، والملفت للانتباه ان هذه الانتلجنسيا رخيصة وينطبق عليها بشكل ما مصطلح العمالة الرخيصة لكن مع الفارق الاخلاقي، فالعمالة الاسيوية الرخيصة اهتدى اليها الغرب الرأسمالي والصناعي ونقل مصانعه الى عواصم بلدانها لأنها غير باهظة الاجور، بعكس الانتلجنسيا الرخيصة التي تبيع جهدها وضمائر اصحابها بأثمان بخسة، وأعرف نماذج من هذه التجارة السوداء كان فيها تعليم ابن في الجامعة بالمجان ثمنا لتواطؤ الأب على جرائم التجهيل والتضليل في بلاده، واحيانا لا يتجاوز الأجر مسكنا متواضعا او مبلغا اكثر تواضعا من المال، وبمرور الوقت اصبحت التسعيرة شبه معلنة، لهذا علينا ان لا ندهش اذا رأينا او سمعنا قطيعا من هؤلاء المعروضين للايجار ينقض في اللحظة ذاتها على كاتب او ناشط لمجرد انه قال للغول عينك حمراء، او للاعور بأنه اعور وليس ‘أحور’ العينين.
اذكر مثلا ان من عرضوا اقلامهم وضمائرهم ووجدانهم للايجار خلال الثمانينات من القرن الماضي انقلبوا خلال اسبوع واحد وبدأ التفتيش الذي يقوده اللعاب عن ولي نعمة جديد، ورغم كل ما كتب في هذا السياق ممن رصدوا هذا التحول ‘الدولارتيكي’ وليس الدراماتيكي الا ان نكتة سوداء كانت هي الأبلغ، وقد يكون صاحبها انسانا بسيطا لكنه سوي وله فطرة لم تفسد، انها عن عجوز اعور تزوج من صبية جميلة، وكان يقدم لها في مطلع كل شمس هدية ثمينة، وعندما أفلس وضاق به الحال ولم يعد يقدم لها الهدايا سألته الصبية ما الذي جرى لعينه… وكأنها لم تكن قد رأتها الا بعد ان أفلس صاحبها.
ومن اعلنوا التوبة السياسية والنّدم عن مواقفهم من نظم أُسقطت لم يروا العين العوراء للديكتاتور الا بعد افلاسه وبعد ان اوصدت سفاراته ابوابها.
ان رهان الانتلجنسيا المعروضة للايجار هو على احد امرين، أولهما ان تكون الامة كلها بأسرها وأسراها قد اصيبت بزهايمر وبائي، وثانيهما ان تكون هذه الامة أميّة لا تقرأ، لكن التاريخ الذي استعصى على التدجين خيّب الرّهانيْن معا، لهذا على تلك العمالة العميلة المعروضة للبيع او الايجار ان تدرك بأن لكل مستأجر عمرا، وان لا تسعى الى تجديد صلاحيتها، فالأباطرة عراة، والأميّون يقرأون بما نبت لهم من عيون في اصابعهم وجراحهم وتلقحوا ضد كل الجحور التي لدغوا منها الف مرة وليس مرتين فقط
( القدس العربي )