رضوان السيد *
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة، ظهور فئة جديدة من الدعاة إلى الإسلام، والذين يمارسون مهمة أو مهمات الإرشاد العام. وأقدم من نعرفه من هذا المنزع رجلان: الشيخ علي الطنطاوي، والشيخ متولي الشعراوي. وقد بدآ في الإذاعة، ثم صارا إلى التلفزيون، وتمتعا بأسلوب جذّاب، وعدم التركيز على التخصّص بقصد مخاطبة العامة والجمهور. بيد أنّ هذين العالمين ما كانا غير طليعة لهذه الظاهرة، بمخاطبة العامة من خارج المساجد، وبالتركيز على حلول عاجلة للمشكلات وبخاصة مشكلات الشباب. أمّا الدعاة الجدد في العقدين الأخيرين فهم دعاة الفضائيات، والذين صارت لهم برامج، وأحيانا قنوات خاصّة. وهم يذكّرون بالدعاة الإنجيليين في الولايات المتحدة، الذين بدأوا في أوساط السود في الولايات المتحدة، لكنهم منذ عقود اكتسبوا جمهورا عاما ضخما، بحيث ساغ لدى الاستراتيجيين، والذين يراقبون الظواهر الدينية الجديدة تسميتهم أصحاب ديانات حديثة أو جديدة، لأنهم – لدى البروتستانت – ينشئون كنائس جديدة، وبخاطبون الجماهير المحتشدة مباشرة في ساحات عامة هائلة، أو من خلال الفضائيات الخاصة بهم. وهؤلاء لا يتمايزون عن أهل الكنائس التقليدية بالأسلوب وحسب؛ بل يتميزون أيضا برؤى مبتدعة في قراءة العهدين القديم والجديد.
ولا شكّ أنّ الدعاة الجدد هؤلاء ليسوا ذوي دعوات جديدة أو متميزة في الإسلام. بل كان تميزهم حتى الآن أسلوبيا. وهم في الغالب من ذوي الثقافة الدينية، لكنهم غالبا أيضا ليسوا من المتخصصين أو من خريجي المعاهد والجامعات الإسلامية. لديهم ثقافة دينية واسعة نسبيا، وهم يعرضونها بأسلوب خطابي جذّاب من حيث الإلقاء، ومن حيث المخاطبة المباشرة أو القريبة؛ ومن حيث تقصّد النساء والشباب وذوي الأمزجة الرقيقة. وميزتهم المضمونية عدم تقيدهم بالأساليب الدقيقة للفتوى والتعليم الديني وبحث سائر المسائل ليس من وجهة نظر فقهية مدروسة، بل بمخاطبة الدعة والرقة في نفوس الشباب والشابات. ثم إنهم يسهّلون على الشباب حياتهم، بإكساب طابع الورع من جهة، وتسهيل الأمور في الحياة الخاصة على وجه الخصوص. وقد رحّب بهم الإعلام الجديد لأنهم يملكون جمهورا يعطونه للقناة التي تتعامل معهم. وبالطبع فإنّ ظاهرة الدعاة الجدد هي إحدى ظواهر الصحوة الإسلامية العامة. وما كان يمكن تصوّر شيء من هذا وذاك خارج المساجد، لولا تلك الصحوة، التي نشرت ثقافة دينية عامة، تعددت مسالكها، ومسلك الدعاة الجدد( = دعاة الدين الشعبي) إحدى ثمراتها.
وبخلاف الدعاة الإنجيليين؛ فإنّ الدعاة الجدد في الإسلام، ما تسيّسوا على الرغم من علاقة بعضهم بمسارات التشدد والحزبية. بل الأحرى القول إنّ من أسباب ظهورهم الردّ على التشدّد ضمن الصحوة أو الصحوات، والانصراف عن نشر الروع والخوف من الدين. وقد أثار اجتماع الناس من حولهم حذر السلطات وتوجّسها في البداية، لكنّ السلطات ما لبثت أن تركتهم وشأنهم بعدما لم يظهروا اهتمامات سياسية مباشرة في سوريا ولبنان والأردن ومصر والكويت وبلدان المغرب العربي. وهكذا ما بقيت عندهم مشكلة حقيقية إلا مع العلماء المتخصصين، والدعاة الحزبيين. ومع أنهم لا يصدرون فتاوى في الغالب، بل يعتمدون على تفسير آيات قرآنية محرِّكة لمشاعر التهيّب والفرح في الوقت نفسه في نفوس الشبان والنساء. كما يعتمدون على الرقائق والحكايات التي تجف لها النفوس والقلوب، وترغّب في التدين وهجران صخب الحياة وضجيجها أو أخذ مكان خاص وهادئ وسط ضجيج المجتمع أو الأسرة. وما قبل منهم العلماء التقليديون التساهل العقدي والفقهي. واعتبروا أنهم يصدرون فتاوى وهم ليسوا من ذوي الاختصاص. ولذلك فإنهم يكثرون من الخطأ في الدين، ويجعلون الشبان مستخفّين بفكرة الحرام. وبالتأكيد لا يقصد الدعاة الجدد الإعفاء من التكاليف الدينية. بل على العكس من ذلك، إذ هم يريدون أن يعود الشبان إلى الدين من أقصر طريق، دون أن يكونوا مضطرين للتصادم مع البيئات التي يعيشون فيها (وهم غالبا من أبناء الطبقات الوسطى الصغيرة). إنما من جهة أخرى، فإنّ أكثر الدعاة الجدد لا يعرضون معارف جديدة في الدين بل في الدنيا وطرائق التعامل فيها ومعها بورع ديني من جانب الشبان. وقد سمعت واحدا منهم قبل أشهر على قناة خاصة به يقرأ قوله تعالى في سورة العنكبوت: «ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون»، فردّد ورجّع فيها على طريقة قراء القرآن ترنّما وترتيلا، ثم مضى يفسّر معنى الخشوع، ونزول الحقّ. ثم يقارن الآيات والأحاديث في مسألة أهل الكتاب، ويقصّ قصصا من كتب التفسير عن الذين تقسو قلوبهم مللا أو حبا للدنيا، وكيف يصبح الإنسان نتيجة تلك القسوة في القلب فاسقا. ثم راح يميّز بين أنواع الفسق، ويضرب عليه الأمثلة من الظروف المعيشية الحديثة. وأمامه مئات من الشبان والشابات منفصلين في قاعة واحدة. وكانت طريقته تلك شبيهة بطرق الصوفية لكنها ليست صوفية تماما. لأنّ الرجل ما كان يزهّد في الدنيا، بل كان يقول إنّ الدين يسر، بدليل أنّ الله سبحانه إنما يعاتب أولئك الغافلين الذين يسميهم مؤمنين، ولا يريد إلاّ التنبّه إلى المعنى الهادف للحياة الدنيا، وإلى سهولة بلوغ ذلك، بدلا من الوقوع في الفسق والمعصية. وشهدت آخر يرشد المراهقين ليس إلى التورع عن المعاصي، بل إلى كيفية السلوك بثقة أيام الامتحانات الرسمية، دارسا بجدّ، ومتوكلا على الله في الوقت نفسه. والثقة بالله عز وجل هي ثقة بالنفس أيضا.. الخ. وعلى الرغم من الفائدة الظاهرة من وراء اجتذاب الشبان إلى الدين، لكنّ الفقهاء ظلّوا غير راضين عنهم، لأنّ الأمر – كما سبق القول – لا يتضمن في الغالب معرفة دينية، وإنما هو تركيز على جانب الحياة الاجتماعية السهلة أو المرفّهة، واستثارة عواطف ومشاعر التديّن لدى الإنسان. وهذا يتضمن من وجه خفي الإقرار أو التسليم بالظروف الحياتية المعاصرة، والاستحثاث على ضرورة التلاؤم في الأطر الدينية المقبولة والمعقولة.
بيد أنّ الأكثر سخطا على الدعاة الجدد، هم الذين يدرّسون دروس التعليم الديني للمراهقات والمراهقين في المدارس العامة والخاصة. وقد شهدت برنامجا جرى فيه استفتاء عشرات من المعلمين والمعلمات بشأن ونمط وإرشاد الدعاة الجدد؛ فكان رأي الغالبية الساحقة والتي تدرّس برامج مكتوبة أنّ الدعاة هؤلاء يتقصدون السهولة والأغراض التجارية والإعلامية، ولذا فإنّ تأثيرهم يكون سلبيا. وهم يستحثون الشباب ويدفعونهم إلى الضحك أو البكاء في عمليات استنزاف عاطفي لا فائدة من ورائها.
أما الفئة الساخطة الأخيرة، فهي الفئة أو الفئات الحزبية الإسلامية. فلهؤلاء تربية ملتزمة ومسيّسة لكوادرهم. وعندهم تدقيقاتهم الفقهية، وتصوراتهم المحدّدة للنص الإلهي، وللسنة النبوية، وللتاريخ الإسلامي، وللعلاقات بالعالم. وكما سبق القول فإنّ هذا «البرنامج التربوي» يختلط فيه العقدي بالسياسي. ولذا فإنّ الحزبي لا يسرّ باندياح الدعاة الجدد وانسياحهم أمام الجمهور العام دونما هدف غير تبادل الانجذاب، والتسلية، وإيضاح كيفية السلوك في المواقف الحياتية المختلفة. وقد قال لي أحد الحزبيين القادة إنه لا يفهم أسباب جاذبية الداعية فلان أو علاّن، بينما هو يعرض بضاعة خفيفة أو شايا قليل السكّر! وقد اعتقد الحزبيون الإخوان والسلفيون أنه مع اندفاعتهم الإعلامية بعد الثورات، سيشكلون البديل لثقافة وممارسات الدعاة الجدد. إنما لم تمض شهور على الثورات، حتى عادت فضائيات الدعاة كما كانت.
إنّ ظاهرة الدعاة الجدد تعود لعاملين اثنين: الصحوة الإسلامية، وتطورات الوسائل الحديثة للاتصال. فالناس منشغلون عموما بأولادهم، وهو يخشون عليهم الضياع، فيجدون في الدعاة الجدد رقّة جاذبة، لا تلزمهم كما يلزمهم الحزبي. وقد وجدت بين أصحاب القنوات من ذهب إلى أن ظاهرة الدعاة الجدد تراجعت وإن لم تنتهِ! وهو يعلل ذلك بالتكرار والترداد والتكاثر، وعدم تماسك الخطابات وعاطفيتها البرّاقة. بيد أنّ هناك من قال إنّ النفور من الإسلام السياسي، سيزيد بعد الوهلة الأولى من شعبية وشعبوية الدعاة الجدد. ولا شكّ أنّ هناك بين الدعاة الجدد من يميل إلى هذا التيار أو ذاك، لكنه عندما يقف أمام الجمهور لا يلتزم برأي حزبي. إنه زمن المتغيرات، وللدعاة الجدد موقع فيه، كما خلال العقود الماضية.
* باحث وأكاديمي من لبنان
( الشرق الأوسط )