ثلاثون عاماً على حصار عام 1982 .. بيروت بحجم راحة اليد!



أمجد ناصر *

هكذا بدأ الأمر
ولم يظهر، لحظتها، أنَّه يختزن في داخله هذه المصائر المجلجلة، وتلك الحيوات الموشكة على فناء قريب.
حدثٌ بعيدٌ، مثل أحداث كثيرة متفرّقة تشبهه، يصبح منعطفاً في تاريخ بشرٍ وقضيةٍ، وعلى الأغلب، في تاريخ منطقةٍ بأسرها.
في ليل الثالث من حزيران عام 1982 كان هناك شابٌ مسلحٌ ينتظر بالقرب من فندق «دورشستر» اللندني العريق شخصاً بعينه سيخرج، بعد قليلٍ، من «عشاء عمل» في الفندق، وما إن خطا ذلك الشخص خطوات معدودة في اتجاه سيارته المتوقفة بجانب بوابة الفندق حتى قام الشاب المتربص بإطلاق النار عليه. كان ذلك الشخص المستهدَف، الذي نُقل سريعاً إلى غرفة العناية الفائقة في أحد مستشفيات لندن، هو السفير الإسرائيلي في بريطانيا شلومو أرغوف.
وفي اليوم التالي على محاولة الاغتيال، التي تبنَّتها «جماعة أبو نضال»، عقدت الحكومة الإسرائيلية، برئاسة مناحيم بيغن، اجتماعاً طارئاً واتخذت قراراً ببدء هجوم على لبنان لم يكن، كما أكدت التطوّرات لاحقاً، وليد تلك الساعة، ولا ابن ذلك الحادث فقط.
ورغم كل الدلائل التي توفَّرت لقيادات منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائهم اللبنانيين، قبل نحو عام أو أكثر، عن اعتزام إسرائيل شنَّ هجوم حاسم على الأراضي اللبنانية، إلا أن الهجوم الإسرائيلي، على النحو الذي اتخذه، فاجأ الجميع تقريباً. لم يكن أحدٌ يتصوَّر أنَّ ذلك الحادث، الذي وقعت أحداث مثله من قبل، سيترتب عليه اجتياح للبنان وحصار طويل لبيروت أدّيا إلى خروج الفصائل الفلسطينية منها. كانت خطَّة الاجتياح الكبير معدَّة سلفاً ولم تكن محاولة اغتيال «أرغوف» سوى ذريعة وضعت تلك الخطّة موضعَ التنفيذ.

ولكن هذا ما سنعرفه لاحقاً.
هنا يوميات من كتاب بعنوان «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد: يوميات من حصار عام 1982»، سيصدر قريباً عن «الأهلية» للنشر في عمّان بمقدمة كتبها صديقي الشاعر الفلسطيني غسان زقطان الذي رافق تلك اليوميات وهي تُكتب:

13 حزيران

المقاتلون في الشوارع والزوايا في حالة من الحركة. السلاح يعطي من يحمله شيئاً من الأمان والإحساس بالقوة. لم أحمل الكلاشينكوف ذا الأخمص الحديدي الذي لدي في شوارع بيروت من قبل. الآن أحمله. تقريباً، الكلُّ يحمل قطعة سلاح. لكن ماذا يمكن أن تفعل بندقية أمام زجّ إسرائيل بأسلحتها الفتاكة في المعركة، فذلك سؤال آخر.
قطعت إسرائيل المنفذ البري الوحيد الآمن لبيروت على العالم الخارجي باحتلالها طريق بيروت-دمشق، وأحكمت بذلك الطوق علينا من كل الجوانب. الجيش الإسرائيلي يُرى بالعين المجردة ولم يعد شبحاً يلوح من بعيد. ماذا سيحصل بعد ذلك؟ لا أدري. لا أحد يدري. فقد كان هناك بصيص أمل ألاّ تقْدم إسرائيل على هذه الخطوة وأن يبقى لنا منفذ. لا منفذ الآن. نحن أشبه بنمورٍ محصورةٍ في قفصٍ يسمى «بيروت الغربية». نشعر في أعماقنا بمشاعر لم نعرفها سابقاً. كان الجيش الإسرائيلي، رغم غاراته المتقطّعة على بيروت ومحيطها، بعيداً. وراء الحدود. الآن هو هنا. لم تعد هناك حدود. سورية اتفقت مع إسرائيل على وقف إطلاق النار برعاية «فيليب حبيب» وتركت «المقاومة الفلسطينية و«الحركة الوطنية اللبنانية» وحيدتين في الميدان. أصلاً لا أحد منا يثق بالنظام السوري أو يتوقع منه موقفاً جذرياً، فوجوده العسكري في لبنان تمَّ باتفاقٍ ضمنيٍّ مع واشنطن وتل أبيب، وهو هنا لسبب آخر غير قتال إسرائيل.
التقيت اليوم «غسان» و«ناتاشا». «غسان» يدخّن بكثرة. شعرت رغم ذلك أنه أقلّ توتّراً مني. سألاني عن أخبار «هند» و«يارا»، فقلت إنني لم أسمع شيئاً عنهما مذ غادرتا مع بدء الغارات إلى بعلبك. سألت «غسان» عن تقدير «الجبهة الديمقراطية» للموقف الآن، فقال إن قيادة الجبهة تتوقع حرباً طويلة، وربما حرب مدن.
من بيت «زكريا» في «بربور» إلى بيتي في «الطريق الجديدة»، الطرق مقفرة. المقاتلون في كلّ زاوية. الليل البيروتي الجميل مفخَّخ بالريبة والترقّب.. أحاول أن أنام في بيت فارغ، تتردَّد فيه أصوات القذائف. من قبل كانت الحركة في البيت لا تنقطع. الأصدقاء يأتون ويأكلون وبعضهم ينام. أكاد أسمع «هند» تغني ل»يارا» أغنية فيروز إلى ريما كي تنام، ولكنها تستبدل «يارا» ب»ريما»:

«يالله تنام يارا يالله يجيها النوم،
يالله تحب الصلاة يالله تحب الصوم،
يالله تجيها العوافي كل يوم بيوم
يالله تنام يالله تنام لادبحلا طير الحمام
روح يا حمام لا تصدّق بضحك عا يارا تتنام».
لكنَّ «هند» هي التي تنام ثم تعود «يارا» متسللة، بلمعة انتصارٍ ماكرةٍ في عينيها المدورتين، إلى الصالون!

22 حزيران

لم تعد حرب أيام. يبدو أنَّها حرب شاملة لم نعرفها في حروبنا مع إسرائيل من قبل. لا حرب سابقة تشبه هذه الحرب. ليست حرب جيوش، فنحن لا نملك جيشاً بالمعنى التقليدي، وليست حرب عصابات، كما هي حال المقاومة من قبل، لأننا محاصرون وفي حالة دفاع عن النفس. ها هي إسرائيل، كلها، في الميدان، وأميركا في ظهرها. قصف عنيف على كلِّ مناطق بيروت الغربية وخصوصاً «الفاكهاني» ومحيط «الكولا». لا نعرف من داخل الملجأ أين يقصفون وماذا يقصفون. الملجأ السري للإذاعة يقع تحت بناية عادية لا يميزها شيء. رائحة الرطوبة لم يستطع أن يتغلب عليها حرُّ الصيف. الارتجاجات بفعل القصف تهزُّ الملجأ. لا بدَّ أن القصف قريب جداً، وقد نكون مقصودين.
طلب منا «طاهر» أن ننتشر في الخارج. فهناك يمكن أن يصيب القصف واحداً أو اثنين منا، ولكن هنا يمكن أن نُطمر جميعنا تحت الردم. على كلِّ واحد منا أن «يدبّر راسه». رحت أركض على غير هدى. الطائرات فوقي تماماً في سماء عارية. صوتها يمزّق الأحشاء. أشعر به في معدتي. روحي تصعد إلى حلقي. حلقي جاف. أركض ولا أعرف إلى أين. الطائرات فوق رأسي كأنها تطاردني شخصياً. وجدتُ نفسي أركض وحيداً بين البنايات. متلطياً بين الجدران. لا أدري كيف أصبحت بالقرب من بيتنا في «محلّة أبو شاكر»، لكنني تجاوزته في اتجاه «كورنيش المزرعة».
على نفَس واحد ظللت أركض وأنا أرى الطائرات فوقي. أصوات الانفجارات رهيبة. أكثر رهبة من أي شيء آخر. يتعالى صوت إطلاق المضادات الأرضية من مواقع لا أراها ثم يخفت فجأة. مقاتلو «المرابطون» يلوذون بالأزقة. رأيت امرأة في الأربعينات تجرُّ نفسها جرَّاً. كانت تقف بين حين وآخر وتتطلع الى السماء. وجهها شاحب. قالت لي: «وين عم يقصفوا؟»، فقلت لها: «في كلِّ مكان». ثم قالت: «الله معكم. دير بالك!». دخلتْ في بناية بالقرب من جامع «المرابطون». لكن الهدير والقصف لم ينقطعا.
عدت أركض من جديد. لا أدري كيف وجدت نفسي عند «غسان» في «بربور». استغرب وصولي تحت القصف. قلت له: «لا أعرف كيف وصلت إلى هنا». كانت المنطقة أقل تعرّضاً للقصف من «الفاكهاني» و«الطريق الجديدة». مكثت فترة من الوقت عند «غسان» لالتقاط أنفاسي والسيطرة على أعماقي التي تنتفض. عدت لاحقاً إلى مقر الإذاعة، فقد خشيت أن يفقدوا أثري. لم أشعر يوماً بالرعب كما شعرت به وأنا أرى الطائرات تحلِّق فوقي. كان طاقم الإذاعة قد بدأ يعود من حالة الانتشار. لم يُصَب مقرُّنا بأذى. محيطه هو الذي دُمِّر.

25 حزيران

نرى فنوناً من العقاب الجماعي، نرى الحمم والنيران والحديد الذي يهطل مثل المطر ويدوي كعاصفة والدخان الذي يتصاعد من رأس المدينة المجلودة. المدينة المصلوبة أمام أنظار العالم، المدينة التي تئن ولا يُسمع صدى أنينها الذي يخنقه الهدير إلا على شكل بيانات عربية رسمية بائسة. لا يمكن أن تكون هذه حرب، إنها أقرب إلى الإبادة. الضرب في كلِّ حدبٍ وصوبٍ وكلِّ جنبٍ وكل حيٍّ، ومن كلِّ الاتجاهات. هل هناك جهة خامسة؟ إسرائيل اخترعت جهة خامسة لرياح الموت. ليس هناك مكان لم تصله أنفاس التنين المحرقة. كأنَّ القصد وراء ما حصل اليوم هو أن ترفرف الرايات البيضاء، بفزع واستسلام، فوق بيروت الغربية. لا تفسير آخر عندي، الآن، غير ذلك. كأننا في حلبة ملاكمة يوجّه فيها ملاكم جبار قبضته إلى وجه صبي من دون توقف حتى يخرّ صريعاً ويُهزَم بالضربة القاضية.
ومع ذلك، على الاذاعة أن تبثَّ، وعلينا أن نكتب. نكتب على الواقف، بأيِّ ورقة نجدها ثم تبثُّ أصواتُ المذيعين الذين لا ينبغي أن يظهر عليهم الهلع تلك الكتاباتِ التي تعيد التذكير بحروب أخرى وصمود آخر ومواجهات حتمية بين المؤمنين بتغيير هذا العالم الظالم إلى عالم أكثر عدلاً وبين سدنة الظلم والموت. لكن الوعي بدورنا لا يعني أن القلب لا يرتجف عندما تنقضُّ الطائرات على رؤوسنا. الوعي، لحظتها، يفقد وعيه وتشرئب الغريزة.
اليوم هو من أيام الجحيم. هذا أقل ما يقال. ويوم آخر من الصمود أمام آلة الموت، وهذا أقل ما يقال. لقد سقط جنرال الحرب الأميركي الكسندر هيغ. استقال لأن بيروت لم تستسلم للإرادة الإسرائيلية التي يقف خلفها بصلفٍ يثير الغيظ. هذا الخبر الذي يشفي بعضاً من غليلنا يعني أن ما يجري في بيروت كان مفاجئاً لهم. هذا يعني أن هناك من ينبغي أن يدفع الثمن.
ذهبت مع «ميشيل» ليلاً إلى بيته في «فردان» بعد انتهاء عملنا في الإذاعة. إنه متفائل. يقول إن هذه الحرب التي طالت ستطيح رؤوساً كثيرة في إسرائيل والعالم العربي وليس فقط رأس «الكسندر هيغ» المأفون. الحرب أعادت إلى «ميشيل» تألقه، إنه كائن ينتعش في الأزمات. ولكن الأزمات التي من هذا النوع، فقد مرَّ بأزمة خانقة بعد فشل مشروعنا الصحفي الجديد (مجلة «الديوان»)، وتدهورت حالته المادية والمعنوية خصوصاً بعد رحيل صديقته «باولا». نحن الآن في يوم آخر. كل ما عرفناه وعملناه من قبل ينتمي إلى زمن يبدو قديماً جداً. نحن اليوم أشخاص مختلفون، تعمَّدت أرواحنا بالنار.
إنه في غرفته يستمع إلى تقرير من إذاعة «مونتي كارلو« وأنا في الصالون أكتب هذه الكلمات. يخطر في بالي الآن أهلي وأهله في «المفرق». بضعة بيوت تفصل بيت أهلي عن بيت ذويه. ما الذي يفكرون فيه يا ترى؟ أي تصوّر لديهم حيالنا، بل أيّ مخاوف؟

28 حزيران
هناك إحباط عام يشيع في الجو بعد الفيتو الأميركي لوقف الحرب الإسرائيلية. لم تدم الفرحة طويلاً باستقالة الجنرال «هيغ»، وزير الخارجية الأميركي، الإسرائيلي أكثر من الإسرائيليين. هذا الجنرال الحقير الذي يبدو الكاوبوي «ريغان» أمامه حمامة سلام. المقترحات الأميركية لإنهاء الحرب تتمثل في ضمان أمن القيادة الفلسطينية وتأمين خط عبور لهم بحماية أميركية.
سخرنا من هذه المقترحات. كتبتُ للإذاعة مقالتي اليومية عن هذه المهزلة المتمثلة في الضمانات التي يقدمها طرف شريك بقوة في الحرب. فلو كان الأمييكيون صادقين لما أحبطوا مشروع قرار بوقفها. محمود درويش الذي لم يظهر في الإذاعة، رغم وجود عدد كبير من المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين انضموا إلى طاقمها هذه الأيام، كتب مقالة قوية ضد أميركا والأنظمة العربية. يصف الأنظمة بأنها عاجزة عن وضع «فيتو« على خنوعها لأميركا ومطالبها!
هناك تقوّلات في وسط المثقفين عن غياب «درويش» وعدم ظهوره بيننا، بعضهم يقول إنه يقيم في أحد فنادق «الحمرا». إنه لا يظهر في التجمعات، على أي حال. لم نره مرة واحدة في مقهى، له عالم خاص به، يبدو عاجياً بالنسبة لنا، وأنا لست على احتكاك بهذا العالم. صلتي أقوى بأبناء جيلي. ما تزال أصداء مقالته المتوتِّرة ضد الشعر الذي يشبه نكتة الصباح تُسمع على أرصفة «الفاكهاني». لست معنياً بها، ولا أظن أنَّها موجهة ضدنا. فنحن لا نكتب قصائد إلكترونية ولا نلقي النكات! المزعج فيها نبرتها المتعالية. «الرصيفيون» يعدُّونه «شاعر المؤسسة»، وهم الذين يقصدهم «درويش» على الأغلب. المرة الوحيدة التي رأيته فيها كانت في اجتماع حاشد للكتّاب عُقد قبل أسبوع تقريباً لمناقشة دور الكتاب والصحفيين الفلسطينيين والعرب في تعزيز صمود بيروت. كان في الاجتماع الذي خيَّمت عليه الحماسة والاقتراحات العجيبة ودخان السجائر معظمُ الوجوه الثقافية والإعلامية، التي لم نعد نرى الكثير منها.
الكلام يتكاثر، على كلِّ حال، عن الخوف الذي أصاب مثقفين فلسطينيين ولبنانيين وعرباً هذه الأيام. هناك من يظهر بعد توقف القصف ليحاول أن يبعد الكلام عنه. هناك من اختفى ولم يظهر حتى الآن. ولكنَّ الخوف حقيقي. من لا يخاف؟ ربما غالب هلسا. إنه رجل بلا أعصاب. بارد إلى حد الإزعاج. لعله الوحيد الذي لم أر علامة خوف أو توتر عليه حتى في أسوأ لحظات القصف. وجهه المستدير يبدو، لمن لا يعرفه، بليداً بلا تعابير. علاقتي به توطَّدت مذ جاء إلى بيروت من بغداد. لقد تعرفت إليه في بغداد التي وصل إليها مطروداً من نظام السادات. أخذني في نزهة مسائية في شارع «أبو نواس» وتحدثنا عن الأردن.
كان يحبُّ أن يسمع أكثر مما يتكلم، وأنا أتكلم أكثر مما أسمع. كنت أظن أنه يحنُّ، مثلي، إلى الأردن، ولكني فوجئت بعدم وجود شيء كهذا. ربما بسبب طول الغياب. وها هو يتألق بيننا. يكتب ويزور خطوط القتال، كلّ يوم تقريباً. يستخدم جانبه الروائي في الإذاعة فضلاً عن قدراته على التحليل السياسي. لديه برنامج طريف على الطريقة المصرية بعنوان «صلي صيامك» وهو تمثيلية إذاعية يعمل عليها مع المذيعة الوحيدة التي بقيت معنا «نعم فارس» بجدية تثير استغرابي. نلتقي يومياً في الإذاعة، ولكن أكثر ما يقلقه عدم وجود طعام أو شاي!

1 تموز

ما زال وقف إطلاق النار ساري المفعول. جاءنا «سعدي» (يوسف) و«مخلص» (خليل)، ومكثا عندنا بعض الوقت في مقر الإذاعة الجديد. «سعدي» يتنقَّل بين المؤسسات الإعلامية الفلسطينية ويكتب يومياً. الحصار صار عادة. فقدَ أثره الأول وصرنا معتادين عليه وقادرين على تدبُّر أمورنا في ظله بالتي هي أحسن. يبدو أن الإنسان قادر على التكيُّف حتى مع أسوأ الأوضاع. جاءت الطائرات في الساعة الثانية عشرة ليل البارحة وألقت قنابل مضيئة أنارت سماء بيروت المعتمة، ثم غادرت بعد عدد من الغارات الوهمية. قال «نبيل» إنهم يحرصون على تذكيرنا بوضعنا حتى في ظل وقف إطلاق النار: لا تنسوا أنكم محاصَرون! ضحكنا لما قاله «نبيل»، فيبدو أنهم صدّقوا قولنا لهم في الإذاعة: مَن يحاصر مَن؟ خواصرنا تُطقطق ضحكاً عندما نسمع هذه الجملة منطوقة بلسان أحد مذيعينا.
صار واضحاً لي من خلال هذه التجربة أن القلق والتوتّر العصبي يبلغ أشدّه في لحظات وقف إطلاق النار أكثر من لحظات القصف، لأنه يطرح أسئلة لا يعرف الإجابة عنها أحد. ماذا سنفعل؟ هل تقتحم إسرائيل بيروت الغربية؟ هل سنخرج من بيروت؟ ما مصيرنا بعد ذلك؟
ذهبت قبل يومين إلى البيت. كان في حالة يرثى لها. غبار القصف الذي طال المنطقة في كلِّ ركن من أركانه. البيت ما يزال سالماً. ولكن الشجيرات والزهور التي زرعتها «هند» جفَّت وأوشكت على الموت لانعدام الماء وعدم وجود من يسقيها إن عادت المياه. ما حلَّ بهذه النباتات يعكس صورة ما يجري في بيروت. التقيت هناك جارنا «علي الشاويش» وعرض عليَّ مغادرة بيروت إلى بعلبك، ولكني رفضت بلطف.. أحضرت من البيت بعض الثياب الخاصة بي وألبومات الصور.. عدا ذلك لا شيء يهمُّ الآن.
زرت اليوم مقرَّ «الشغيلة». قال لي «زاهر الخطيب» إن «الحركة الوطنية اللبنانية» وضعها سيىء، فهي لم تتهيأ لظرف كهذا، وعليها ضغوط من بعض الشارع البيروتي لتجنيب المدينة مزيداً من الدمار، وإن «حركة أمل» تعاني انقسامات بشأن الموقف من الاجتياح، ففي داخلها تيار لا يرغب في المقاومة، بل يريد انتظار ما سيسفر عنه الاجتياح، خصوصاً في الجنوب.
هناك شائعات كثيرة حول مغادرة المقاومة الفلسطينية إلى خارج لبنان، منها أن اتفاقات تُعدُّ لترحيل المقاومة إلى بلدان عربية. يقال مثلاً إن «أبو عمار» سيغادر إلى مصر، و«جورج حبش» إلى الجزائر و«نايف حواتمة» إلى عدن.. وهكذا. ولكن الواضح حتى الآن أن المقاومة مصرَّة على القتال وعدم الاستسلام مهما كانت الظروف.
رأيت «محمود النوايسة» عند «زاهر الخطيب»، وقال لي إن عدداً من الشبان الأردنيين أقاموا لهم موقعاً عسكرياً في بيروت. هناك مجموعة ممتازة من الأردنيين في مؤسسات المقاومة الإعلامية. أسماء كبيرة منها: ميشيل، طاهر، صالح، غالب، غانم، نزيه (أبو نضال)، سلوى. رأيت عند «زاهر الخطيب» أيضاً «خالد عبد الله» و«أبو علي إربد».. كان معي في زيارتي هذه الرفيق «عبد الحميد» صاحب الشقة التي يسكنها «غسان» وأشاركه النوم فيها أحياناً، فهي في البناية نفسها التي يقطن فيها «طاهر»، غير أنها مكشوفة للقصف أكثر..

3 تموز

يبدو أنني غير قادر على كتابة الشعر هذه الأيام. هناك كثيرون يكتبون. لا أعرف كيف. ولكني لا أستطيع كتابة الشعر. مقابل ذلك أكتب كثيراً للإذاعة. أحياناً مراتٍ عدة في اليوم. مقالات وخواطر تشبه الشعر ولكنها ليست شعراً.. يبدو أنني وقعت ضحية تصوري للشعر: الكتابة غير المباشرة لأشياء الواقع. ولكنَّ هذا الواقع أقوى وأشرس من أن تحتضنه القصيدة. تصعب معالجته بالشعر. أحد مصادر الشعر هو الكلام، وهذا لدينا منه الكثير. ولكنَّه ليس الشعر. ربما لا تصلح الانفعالات القوية للشعر. كلُّ الشعر الذي كتبته كانت خلفه انفعالات لا تقارَن بما نشعر به الآن.
بالمقابل، فإن الكتب القليلة التي أحملها مع متاعي البسيط هي دواوين شعرية. سعدي يوسف مفيد جداً في الحصار، ليس لأنه يكتب باستمرار في «المعركة» والصحف الأخرى فقط، بل لأنه ترجم دواوين شعرية مهمة أحملها، مع بضعة كتب أخرى، بين متاعي القليل. قصائد ل»يانيس ريتسوس» وأخرى ل»قسطنطين كفافيس». هناك ديوان أحمله معي وأقرأه بالإضافة إلى «ريتسوس» و«كفافيس»، إنه للشاعر الألماني «ريلكه» بترجمة فؤاد رفقة. وهذا شاعر أحببّته وقد صدَّرت ديواني «منذ جلعاد» بقصيدة له. كذلك ديوان «أعراس» لمحمود درويش ودرَّتُه، بالنسبة لي، قصيدة «كان ما سوف يكون» التي يهديها إلى صديقه «راشد حسين» الشاعر الفلسطيني الذي مات محترقاً في نيويورك، ثم ديوان «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» لأنسي الحاج الذي صدّرتُ مقطعاً منه في ديواني الثاني.
«ريتسوس» شاعر ماركسي مادي، و«كفافيس» شاعر مهموم بالتاريخ اليوناني القديم، و«ريلكه» شاعر مثالي متديّن، ودرويش شاعر مقاومة يعمل على جماليات قصيدته لموازنتها مع موضوعها الوطني، وأنسي ذو نبرة مسيحية غير خلاصية تميل إلى الجانب القاتم في الإنسان، يشتغل على المفردة والجملة أكثر من اشتغاله على الموضوع.
هناك شعراء أحببّتهم بصرف النظر عن قربي من أيديولوجيتهم أو بعدي عنها. مثلاً، شعراء كناظم حكمت و«أراغون» و«إيلوار» و«مايكوفسكي» قريبون مني فكرياً، على عكس أنسي الحاج و«ريلكه» و«كفافي»، ولكني لا أقرأ لهم كثيراً. هناك استشهادات كثيرة بشعرهم في هذا الحصار. قد تكون أهم قصائد نُشرت حتى الآن هي التي كتبها سعدي، فقد ظل محافظاً على صوته الهادئ وتمسّكه بالعين المدقِّقة في المشهد، شعره يشبه شعر «ريتسوس» من هذه الناحية. «غسان» كتب بعض القصائد، ولكنها مثل قصائدي، انعكاس سريع ومتقشف جداً لما يجري.

«من لا بيت له الآن، لن يبني بيتاً في ما بعد،
من هو وحيد الآن، طويلاً هكذا سيبقى،
سوف يستفيق ويقرأ ويكتب رسائل طويلة
وفي الممرات هنا وهناك
قلقاً يتمشى حين تسقط الأوراق».

 

( الرأي الثقافي )

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *