مو يان روائيّ الصمت المضاد

مو يان روائيّ الصمت المضاد

روجيه عوطة

بين الروائيين في الصين الذين ذهبت سردياتهم بالبنى الإجتماعية إلى المشرحة كي تكشف عن تحولاتها وتعرّيها من أورام الإيديولوجيات، اشتهر مو يان برواياته التاريخية التي وظفت أحداث الماضي الصيني في سرديات كثيرة التشعبات الموضوعاتية. عُرف عن الفائز بنوبل الآداب، الذي ولد عام 1955 في غاومي بإقليم شاندوغ شمال غرب الصين، إثارته موضوعات جريئة في نصه الروائي، كإشكالية السلطة، والإرهاصات المجتمعية، والسؤال الجنسي، وهي قضايا تتبدل بحسب المناطق والأقاليم الصينية، وقد قبض على عدد من مظاهرها المعقدة في المجتمع الزراعي الذي يتحدر منه.

عانى مو يان من تأثيرات هذه الإشكاليات على طول أيام حياته، خصوصاً في طفولته، فخلالها ترك المدرسة والتحق بأحد المعامل النفطية إبان الثورة الماوية التي تعثرت في الريف واستخدمت اليد العاملة الزراعية في القطاع الصناعي أو العسكري.
كان لهذه السياسة الاستنزافية نتائجها على مسار مو يان الحياتي، إذ التحق بـ”جيش التحرير الشعبي”، الجناح العسكري للحزب الشيوعي الحاكم، وفي فترة تجنيده بدأ بكتابة الأقاصيص والروايات، قبل أن ينتقل إلى تدريس الأدب في الأكاديمية الثقافية العسكرية. لذا، ونتيجة المصاعب والشدائد التي طالت حياته، شكل مو يان نصه من خلال الاعتراض على الواقع المجتمعي الصيني ورصد تغيرات بناه التاريخية التي نشأت عنها مشقات كثيرة، أخفتها السلطات إيديولوجياً حتى ساد الصمت الإجتماعي. يسرد مو يان في صمته المضاد المستور والمخفي من الواقع الصيني، رافضاً ماضيه الشمولي وحاضره المتدهور. سردياته معروفة بالسخرية، ينطلق منها كي يعالج المواضيع المختلفة في رواياته. الاستهزاء السردي لديه إحدى تقنياته لرصد التحولات في المجتمع الريفي على الخصوص، مضافة الى الشقلبة السردية، مطنباً في سرد الأحداث معتمداً على استعارة الواقع، أي صورته السردية، التي ينتقل منها إلى الوقائع التاريخية، ويرويها في سياق متخيّل، تتشعب خطوط السرد فيه.

يمتاز نصه الروائي بالمحاكاة المقلوبة، أي أن الواقع يحاكي سردياته، على خلاف المعادلة التقليدية في الكتابة التي تنطلق من الواقع إلى النص الذي يبذل كل تقنياته كي يقلده ويشابهه في الحدث وسرده. إذاً، يحاكي الواقع إستعارته الروائية التهكمية، التي تحضر بوضوح في روايته القصيرة “السيّد يزيد فكاهةً” (2006)، حيث ينتقد البيروقراطية المنتشرة في المجتمع الصيني، ساخراً من السياسات الواعدة المتبعة لتحسين مستوى العيش البروليتاري وتحقيق احتياجات الطبقة العاملة، الممثلة في الرواية بالسيد دينغ شيكو، الذي يبحث عن سبل العيش في مجتمع ساحق طبقياً بإسم الشيوعية والقضاء على الصراع الطبقي!

من الممكن أن تُدرج سرديات مو يان في النوع الروائي التأريخي، لكن أبعاد التاريخ فيها لا تظهر كأنها خارج النص الأدبي. على العكس، تظل الحبكة الأدبية هي المرجع لكل المراجع التاريخية، كما أن البُعد التاريخي غالباً ما يتضح من خلال الحدث الأدبي، ذلك أن الروائي لا يسجل وقائع الزمن الماضي كي يوردها في نصوصه بفجاجة لا سياق لها. وبما أن الأدبي في النص هو المركز السردي المتحرك، وعلى أساسه تتنوع وتختلف الأبعاد التاريخية التي يحتويها، لا ينجرف النص إلى التسجيل التاريخي الفج، لكنه لا يقصي المرجع التاريخي إلى خارجه.

تسرد “ضفادع” (2012)، أحداث المجتمع الريفي أثناء الثورة الماوية، المعروفة بالثورة الثقافية، مستنداً إلى قصة العمة التي كانت تعمل قابلة في خدمة الحزب الحاكم، إذ تحترف التوليد والإجهاض كي تحافظ على سياسة الحزب الديموغرافية، التي تنظم المجتمع طبقياً وترتبه بحسب التوزيع السكاني للطبقة العاملة بين الريف والمراكز الصناعية. في هذه الرواية، يؤرخ يان التطورات في الريف الصيني والتبدلات التي نالت منه عنفياً وبقسوة لا مثيل لها. فالمشهدية الأدبية داخل النص تفرغ محتواها التاريخية في لقطات سردية قاسية، تكثر فيها الأحقاد والضغائن التي فرضها التغير البنيوي في المجتمع آنذاك. إذ تعاملت السلطة مع الفرد فيه كأنه كائن حيواني، مهمته الوحيدة أن يتكاثر أو يقلص عدده بحسب حاجة النظام بعيداً من واقع الطبقة العاملة نفسها،. الوسيلة البيو-سياسية الوحيدة لتحقيق هذه الاستراتيجيا الحزبية هي العمة التي تمثل المؤسسة الإحيائية المتحكمة ببنية المجتمع الديموغرافية والجنسية وغيرها. يوازن مو يان في روايته بين السرد والتأريخ، ولا يقطع مع البنية التهكمية التي تستمر في الحضور على طول الصفحات السردية في “ضفادع” أو في الرواية التي سبقتها، “صدور عارمة وأوراك كبيرة” (2004)، حيث تنتظر الأم وبناتها، ولادة طفل ذكر. في الانتظار، تُسرد الأحداث وتتراكم الوقائع المأسوية التي تمر الصين بها، ولاسيما ريفها، ومناطقها التي احتلتها الغزوات ثم دخلتها الماوية المتعثرة. يوم ولادة الطفل الذكر، الذي يلغي وجود ثماني بنات، أي أخواته، ببطريركية مجتمعية عنيفة، تستمر الأحداث الدموية بالتراكم والتوالي حتى انفلاش النص سردياً ورجوعه إلى البداية رمزياً، كأن الروائي يؤكد أن التاريخ في الصين، من الماوية الريفية المتعثرة إلى الحاضر الذي أضنته سرعته، هو حبيس الإيديولوجيا الشمولية وسلطتها. السبيل الملائم لدرء السرد الشمولي ثم رأسمالية الدولة السردية، هو التهكم والشقلبة الإستعاراتية اللذان يعرّيان البنى وتاريخها ماضياً وحاضراً.

( النهار )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *