جمال ناجي في ” غريب النهر “يؤطر الرواية الفلسطينية


جمال القيسي *

( ثقافات )

بهدوء لا يمتلكه كثير من الروائيين الأفذاذ ، يأخذك جمال ناجي الى حيث الآفاق الإنسانية الرحبة، والأمداء الشاسعة من الدفق الروحي الجميل ، باسطا قضية الشتات الفلسطيني على 215 صفحة تحضر في كل صفحة فيها فلسطين دون ان ترد هذه المفردة صراحة في كل متن الرواية.
تحضر فلسطين بكل معناها العميق كقضية انسانية عادلة ، وكملامح شعب عانى /ويعاني الاحتلال والتشرد ، دون ان تقع الرواية في فخ المباشرة أو التلقين أو في مأزق التسلق على الأدب باسم القضية الجوهرية الكبيرة .
الهدوء كان السمة الغالبة على جمال ناجي وهو يجترح لنا الحياة بتلاوينها المتعددة ، المتمثلة في أنها لم تكن يوما لتكون حياة ؛ لولا الابتسامة التي تلتمع في نهر الدموع، ولا ينبغي لها – للحياة- أن تتشكل بدون دفقها الجواني النبيل.
الرواية ضاجة بالحياة ، وزاخرة بالمعاني ، ومدججة بالاحاسيس المرهفة ، وصاخبة بالبعيد الذي تحسه دون أن تلمسه ، كل ذلك ضمن حكاية في مبناها بسيطة، ولربما يسمعها كثير من الروائيين كل أسبوع !
لكن مبدع ” غريب النهر ” لم يسمع ما قيل ، ولم يقل ما سمع ، بل اجترح رواية فريدة تتألف من أربعة أجيال في رواية واحدة ، دون أن يلتزم بتتبع تسلسلي ممل لهذه الأجيال ودون إيجاز مخل أو تفصيل فائض مل .
ما وراء الحكاية يكمن في أن “غريب النهر ” تحكي قصة الفلسطيني بكل تلافيفه بدءا مما كان عليه ، مرورا باقتلاعه من جذوره، وذروه في المنافي والشتات، وليس انتهاء بدوره في “تفهم” وحشية العالم وتمسكه بحق الحياة والعودة.
لم تبدأ الرواية كما يستدرجنا مؤلفها بمكر روائي لذيذ في شهر آذار من العام 1997 ، وانما من قبل الميلاد بألف وثمانمائة عام ، حيث أصول العائلة الفلسطينية للبطل الرئيسي ” عمي اسماعين “.
ومن التاريخ الواقعي لا التاريخ الروائي الذي أورده جمال ناجي لتاريخ العائلة يتجلى موقفه الجذري الواضح من الصراع العربي الإسرائيلي ، وعدالة قضية الشعب الفلسطين ، وبهدوء مطلق ، دون أن يقدم للقارئ “خطبة روائية” في التأصيل لما أصيل.
إن الأجيال التي تناولتها رواية ” غريب النهر” ما كان لها أن تنسجم متناسقة ، في هذه اللوحة المذهلة ، لولا أنها بيد روائي ذي باع وذراع ، ويد متمرسة بالإمساك بأرواح وأجساد وملامح الشخصيات الكثيرة الملتفة حول بعضها ، وكلها أحجار زاوية.
لقد كنت أشعر في بعض أجزاء الرواية بانفلات شخصية ما من المؤلف، ثم لا أمتلك إلا أن أنتشي إعجابا بالطريقة التي يعيد فيها تلك الشخصية وأين وكيف ، لأكتشف أنه لم يكن تغييبها إلا مقصودا وببراعة قلما تجدها في رواية ضمت عشرات الشخصيات /رئيسية وثانوية.
لقد رأينا “غريب النهر” تقول ما لم تقله أرق القصائد ، في وفاء الفلسطيني لنفسه، وعدم تفريطه في حقه؛ فـالبطل يبيع بطاقات الاونروا والإعاشة التي تزوده ووالدته وزوجته ووحيده بالطعام، يبيعها ليشتري “أرضا” قرب النهر ، كي لا ينسى أرضه المحتلة في قرية العباسية.

يضحي ببطاقات الإعاشة والمصاغ الذهبي لزوجته ووالدته ، ويأبى أن يكون همه الطعام والشراب، ولا تقول الرواية هذا مباشرة ، بل تقوله سيرة البطل -” عمي اسماعين”- الذي يصبر إحدى عشرة سنة حتى تثمر أشجار الأرض الجديدة.
لم يقل ” عمي اسماعين” كلمة عن الصبر ، والحلم الحبيب بالعودة ، ولم يفسح له الروائي إلا بأن يعيش حياته بكل بساطة ، يضرب لنا الأمثال في فهم مأساته ونكبته اولا، ثم كيفية التعامل معها ، دون التنازل عن أي حل استسلامي أو قبول بالمفاوضة على حقه.
إن الزلزال الذي أصاب الفلسطيني لم يكن من السهل عليه تصديقه، لذا فعمي اسماعين كان دوما يشعر بأن الواقع أقرب الى الحلم أو أن ما يقع ليس حقيقة ، أو إذا شئت فإن ما يقع حقيقة ولكنه يقع مع شخص آخر ليس هو بالضرورة .
وعائلة البطل تخشى شهور الموت الذس يتربص بالعائلة في شهور السنة الأولى ، وهو ما رصدوه تاريخيا، حيث يخطف أحد أفراد العائلة إن أراد في الشهور الاولى من العام كما تأكدوا ، وليس بعدها، وهو ما يشير الى علاقة تفاهم فلسطيني مع الموت على نحو زمني ما .
ويحاكي احتفال العائلة الفلسطينة بأول ايام الربيع الدلالة الجمالية البعيدة لحب الفلسطيني للحياة والانطلاق ، والإفلات من قبضة الموت، ويحمل قناعات (غير ساذجة) بأن الشتاء بما يحمل من الآم وأشجان هو حالة الضعف الوجداني التي يستأسد فيها الموت على الفلسطيني.
لقد صورت شخصيات الأبناء الثلاثة للبطل وهم شعبان ورزاق وجهاد، إضافة الى حمدان شقيقه، الصورة (البسيطة) للفسطيني في الشتات القريب ، من حيث السيكولوجية والسلوك وارتباط الشخص بالمحيط الخارجي وتعاطيه معه.
إن شعبان ما هو إلا الفلسطيني الذي نالت منه النكبة كل منال ، حتى صار يظن أن مؤامرة كونية من قوى غير معروفة تماما تحيك له الخيبات، وظل هذا الشعور ملازما له حتى الى ما بعد تكوينه أسرة وانجاب ولدين.
وهذا الشعور بالظلم والاستهداف ما كان للروائي أن يعامله بسلبية مطلقة ، وفي هذا ما يشابه حالة الإقرار بأحقية الفلسطيني الذي لا تشبه قضيته اية قضية في الكون ، في ان يكون له شيء من الخصوصية النفسية المتفردة، في الإحساس الممض تجاه ظلم الكون بأكمله.
وتعكس صورة رزاق الابن الثاني للعم اسماعين، حالة الشاب الفلسطيني الذي يجوب الأرض بذكاء وحنكة وكتمان، وعلى ارتباط وثيق غير منفصم بقضيته المركزية ـ وهو يتحمل في سبيل ذلك المخاطر الجسام.
ودلل التعامل الهادئ للروائي مع رزاق بأن هذا النموذج من أبناء الشعب الفلسطيني ، ما كان ينبغي له التعامل مع القضية والنضال في سبيلها إلا بهذه الروح المتالقة عطاء وبذلا بلا حدود مع محيطها الذي لا تراه محبطا إطلاقا ، رغم أنه كذلك.
وكذلك جهاد الابن الثالث الذي التحق بكوادر منظمة التحرير الفلسطينة، وقاتل في صفوفها واغترب في بلاد مختلفة هو وزوجته السلطية، ثم استقرا في رام الله كموظفين في مكاتب السلطة الفلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو التي يرفضها والده جملة وتفصيلا.
كما يعد حمدان شقيق عمي اسماعين صورة بهية من النماذج التي قدمت الكثير وبصمت الكبار ، ودون أن تطيل في الخطاب ، هو ذلك الشاب الذي ابتدرته الشهادة في معركة الكرامة، وأدى ما عليه بيسر وهدوء .
ولكن موته لم يمر في نفس الأم وعمي اسماعين إلا مثل رمح اخترق الروح ، وأشعل فيها آيات الصهيل، ورمت على روح والدته الكثير من الياسمين الموشى بجارح الذكريات ، وأليم الرثاء الموجع .
يمثل مصطفى أخ عمي اسماعين الصورة ( المعقدة / المركبة ) للشتات الفلسطيني في تجلياته التي تربط بين مقولة بسيطة مؤداها أن كل شيء من الممكن وقوعه مع هذا الفلسطيني، البعيد الذي هرب من قريته ذات صبا.
هذا الفلسطيني الذي تم تجنيده إجباريا للخدمة في الجيش التركي ، هو ذاته الذي نجا من الموت وأهوال الحرب غير مرة ، وهو الذي يبدو الحنين قد غادر جنبه؛ نراه هو صورة الحنين الملتاعة التي تدمي القلوب ، ولا يبدو هذا الا في وصيته .
الأم وإن بدت على تلك الصورة الكلاسيكية للأم الفلسطينية ؛ من حيث كونها النهر الغني من الحنان والصبر والعطاء ، إلا أنها في ” غريب النهر” تلفعت بثوب الرقة والحزن الشفيف الذي لا يحتمل حدة النسمة.
وكذلك كان دور الزوجة غير عادي بالنظر الى قوتها الذاتية، التي احتمت وحمت العائلة ، بتمجيدها وتقديسها للأب – عمي اسماعين- في صورة بهية ، وعبر طرحه كرمز بعيد لا يمكن أن تنال منه حوادث الأيام.
تطرح الرواية شخصيات كثيرة لعل من اهمها ايضا شخصية “سفر ” وهي شقيقة زوجة عمي اسماعين والتي هي شخصية بعيدة العمق ، وشديد الإصرار على الظهور الحاد ، وبشكل غير تقليدي الى صورة المرأة الفلسطينية المثقفة المناضلة المؤلفة كثيرة الأسفار ، والتي تفتدي الرئيس عرفات ذات يوم بروحها وتنقذه من عبوة ناسفة في اللحظات الأخيرة.
و لعل في “خلود” الكثير من الإشارات والدلالات التي يبذرها جمال ناجي في ” غريب النهر” وخلود الابنة المراهقة لعمي اسماعين وهي الأخت غير الشقيقة لشعبان ورزاق وجهاد، وهي ابنة عمي اسماعين من زوجته الثانية ” نجود”.
خلود التي تستطيع الكشف عن حيل محتلفة للطبيعة والاشياء، والقادرة على اجتراح الحلول الذكية ببصيرة زرقاء اليمامة ، وحكمة نادرة ليس لها من تفسير ، لربما هي الجيل الجديد الذي يراه الروائي قادرا على تعاطي الفلسطين مع قضيته الكبيرة.
ولم تنته الرواية كذلك قبيل نهاية آذار، كما أوهمنا جمال ناجي ذاك الوهم الجميل ، بل “لخلود” الحلم الجميل،والرأي السديد في حب الأرض والأهل، والقول الراجح إن غريب النهر ليس بغريب الأهل أبدا.


 



*صحفي وروائي من الأردن









شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *