ضوء.. في قلعة راوندوز


علي عبد الأمير *

ثقافات :

 

كان علي ان احتفظ باحلامي، وكان علي ان احتفظ بعقلي رغم انني كنت على يقين من انني ذاهب الى مهمة شديدة العسر والجفاف واللؤم ايضا، فانا ذاهب الى الخدمة في الجيش العراقي، وتحديدا في فترة صعود صدام ليس الى السلطة ” زعيما وحيدا”، بل في فترة بطشه بكل من يختلف معه حتى وان كان من عناصر حزبه، فكيف الحال وانا الذاهب الى ” خدمة العلم” ويسبقني الى الثكنة ملفي السياسي بوصفي ” شيوعيا”؟
مع نفسي قررت ان اتزود بكل معدات الصبر والمجالدة والحيلة ايضا، فثمة اقدامي وهي ما انفكت منداة بعشب مبلل، عشب امنياتي وحياتي التي ستظل مؤجلة الى الابد على ما يبدو. ومن بين اعظم وسائل تمرين العقل على ان يظل مشعا كان الكتاب، ومن اعظم وسائل تمرين الروح على الرقة كان النغم الموسيقي، لذا كانت الكتب والاشرطة الموسيقية هي اثقل ما في حقيبتي في كل مرة كنت اعود فيها الى الثكنة اكان ذلك قبل اندلاع الحرب مع ايران ام بعدها.
وبما ان الكتاب” مثيرللشبهات” لاسيما بين ” ضباط التوجيه السياسي” ، لذا كانت كتب الادب وتحديدا الرواية والسيرة، ملاذي بعيدا عن كتب الفكر وعلم الاجتماع والسياسة، وكي لايتم الربط بينها وبين “تاريخي الحزبي”، وكانت الفرصة متاحة كي اتعرف الى ما كنا نسميه بحسب التقسيم الفكري المتعسف ” الادب البرجوازي” فتعرفت على ادب ارنست هيمنغواي، وتوقفت عند كتاب ” بابا هيمنغواي ” الذي يعد بمثابة السيرة المذهلة للكتاب الاميركي الشقي ، مثلما قرأت مارسيل بروست وهيرمان هيسه، وكنت على سبيل وضع قناع الاتصال مع الثقافة المسموح بها اتردد على مكتبة الثكنة، فقرأت ” حراس البوابة الشرقية” الكتاب الذي وضعه المصري جمال الغيطاني في شكل قارب بين القص والتحقيق الصحفي الذي يكتبه المراسل الحربي عادة ، ثم اصبح لاحقا العنوان الاعرض للجيش العراقي خصوصا في حربه على ايران.
وفي اطار التعمية ذاته، كنت اختار من مكتبة المعسكر مذكرات القادة العسكريين واخبار التقنيات المتطورة وخصوصا في الطائرات وصواريخها ولشدة ما تعلقت بصور الطائرات الاميركية : اف-5 و اف-14 واف-15 واف-16 واف-18 وبالطبع سكاي هوك وفانتوم والروسية ( السوفياتية حينها) : ميغ -21 وميغ -23 وميغ-25 وسوخوي والقاصفة توبوليف ، كنت اتمكن من تمييز اي طائرة كنت اتابع تحليقها فوق قطعاتنا اثناء الحرب ، اكانت ايرانية ام عراقية.

ومن الادب العربي المعاصر قرأت جبرا ابراهيم جبرا روائيا وقاصا وناقدا مثلما قرأت ترجماته في النقد وكان اكتشافي الهائل من بين ترجماته كتاب يان كوت ” شكسبير معاصرنا” . وظل بحثي عن الادب ” البرجوازي” دوؤبا فقادني الى قراءة غادة السمان مثلما قادني الى معادلة كنت كونتها مع نفسي وربطت فيها بين مطبوعات ” دار النهار البيروتية” وبين ما لايثير شبهات حتى انني حين قرأت روايتي سولجنستين كنت اقول لمن يراهما بين يدي، انهما من تأليف المنشق على النظام الشيوعي. وفضلا عن صاحب ” خريف الغولاغ” قرأت ادب باسترناك ومن خلال الاديبين بدأ انفصالي عن “التقدمية” يتحول موقفا فكريا جديا بعد ان بدأ نوعا من التحايل على عسس ” البعث” ، وكان لاثر صاحب ” دكتور زيفاغو” ما كشف لي بعمق الاثر التدميري لثورة اكتوبر لجهة عنفها الاهوج حيال معالم المجتمع الروسي ” القيصري” وثقافته.
وفي الشعرعرفت نبعا من المعرفة الروحية والجمال عبر تجربة ” مجلة شعر”، ومعها ندمت كثيرا حين قبلت ان اصطف الى احكام نقدية جائرة كان يسوقها ” الفكر التقدمي” ويضع تلك التجربة في خانة ” ثقافة عملاء الغرب” او ” الثقافة البرجوازية” في احسن الاحوال، وفي سياق متصل قرأت تجربة توفيق صايغ، وانطلاقا من هذه المراجعات كنت انقّب في مكتبات بغداد آملا العثور على كل ما كان ينظر اليه بريبة ضمن فترة صعود ” الادب الاشتراكي ” واليساري عموما ، فعدت الى انسي الحاج ويوسف الخال ،فيما ظل ادونيس من بين الاسماء التي كنت اتجنب اشهار قراءاتي لها ( كان ممنوعا بتهمة العداء للثورة في العراق وللامة العربية(

الحذر من اسماء روسية كان يتحول اشهارا في ادماني ترجمات حسب الشيخ جعفر ، وتحديدا في ترجماته شعر يسنين ،بوشكين وآخماتوفا، فتلك الترجمات وغيرها من الكتب التي تتعاطف مع ” الادب التقدمي” كما في “التجربة الخلاقة” كانت من اصدار وزارة الثقافة والاعلام العراقية ، مثلما كانت توفر بعض مجلاتها الادبية وتحديدا مجلة ” الثقافة الاجنبية” نافذة لا يشاركني الاطلالة من خلالها على العالم، رقباء “التوجيه السياسي” ولا وشاته في الثكنات، فهم كانوا يعتبرونها ” مجلاتهم الملتزمة” رغم انها لم تكن كذلك في احيان كثيرة.
كانت الطريق من بغداد الى اربيل طويلة ولطالما كانت المسافة مطبوعة ببصمات ما كنت اقرأ، مثلما كانت الطريق من اربيل الى تشومان تستغرق مع الوقفات في صلاح الدين وديانا اكثر من خمس ساعات، فكان الكتاب رفيق سفر انيسا لاسيما ان جمال الطريق وسط الوديان والسهول او بين السفوح فقد تأثيره عليّ لفرط المرات التي قطعتها فيه. لم يكن الكتاب يعينني على قطع الطريق وحسب، بل لطالما منحني الفرصة تلو الفرصة للتأمل والشرود الى حياتي التي كانت مشتتة ما بين اشيائي الصغيرة في غرفة ضمن بيت اختي الارملة ببغداد، واحلامي بان انام مطولا قريبا من امي وابي في بيت اخي قاسم في منفاه الاخضر كما كنت اسمي ( ناحية مشروع المسيب الكبير) حيث يعمل مهندسا زراعيا، وبين شتاتي الشخصي بين بيتين، كانت هناك انشغالاتي العاطفية التي صارت بارادتي احيانا او بعدمها احيانا اخرى ، صارت قصصا قصيرة جدا .
ومثلما كانت الطريق التي اقطعها من الحلة الى بغداد ومنها الى اربيل ومنها صعودا الى اقصى منطقة في شمال شرق البلاد وبالقرب من الحدود الايرانية ، مثلما كانت مطبوعة باثار الكتب التي بين يدي وتلتهمها عيوني، كانت مطبوعة ايضا بالموسيقى، فكان سواق سيارات الاجرة الصغيرة بين اربيل وتشومان يشفقون على طلبي بوضع شريط ما في اجهزة التسجيل في سياراتهم مع ان اغلبهم ما كانوا يستسيغون ما كنت افضل سماعه، ولا يمكن لي في هذا السياق ان انسى ما حييت كيف تطابقت اغنية ” وحدن” لفيروز بما فيها من احساس بالعزلة الثلجية مع الطريق ما بين مرتفعات سبيلك وخليفان وقد غطتها الثلوج التي نزلت قبل يومين من مروري فيها عائدا من بغداد الى وحدتي ( مقر اللواء 98) في تشومان، وتحديدا الى غرفتي التي كان يشاركني فيها “الخدمة – العقوبة” ابن مدينتي الدكتورحميد حسين والذي صارت فترة وجودنا معا، زادا روحيا اعانني شخصيا على النفي والعزلة ( كان الجنود من خريجي الجامعات والذين تحيط بهم الشبهات لجهة ولائهم السياسي يبعدون الى المناطق القصية في البلاد، وهكذا شاءت قرارات النفي ان تجمعنا معا : ان تجمع “الشيوعيين السابقين” اللذين سيحولان غرفة طينية صغيرة الى غرفة دافئة بالاحلام والكتب والموسيقى ايضا(

مئات الالاف من الكيلومترات قطعتها خلال نحو عشر سنوات من الخدمة العسكرية، وكان الكتاب مؤونة روحية فذة، فضلا عن الاعداد التي تصدر في غيابي بجبهات القتال من مجلة ” اليوم السابع” العربية الصادرة في باريس، واضعها في حقيبتي كي تكون ” خير جليس” في ملاجىء الموت والرعب، او ما يمنحني احساسا آدميا وانا اقطع آلاف الكيلومترات مع أرتال ناقلات الدبابات التي انتقلت اليها بعد سنوات من الخدمة المضنية في الفوج الاول باللواء الخامس مشاة .
واذا كانت الكتب مدتني بقدرة على المجالدة والصبر واختزان العوالم الخيالي منها والواقعي ، فان الموسيقى كانت جناح الرحمة الخفاق دائما والذي كان يأخذني بسرعة بعيدا عن ملاجىء العزلة او قلاع الرعب كما في ثكنتنا قريبا من مدينة راوندوز الكردية الواقعة على الطريق ما بين كلي علي بيك وشلالات بيخال . الثكنة كانت قلعة راوندوز التي بناها الجيش العراقي في الخمسينيات وكانت في غرفها ودهاليزها المعتمة قليلة الضوء نهارا والمعتمة ليلا اقرب الى قلاع السجون التي رسمت الافلام العالمية ملامحها كما في ” الفراشة”، غير ان تلك العتمة شعت ضوءا شفيفا على حين غرة، فبعد ان نقلت الى لواء المشاة الثالث والعشرين الذي يتخذ من القلعة مقرا له، وبعد ايام عصيبة حقا في تلك الوحدة حيث رماني آمرها مع جنود أميين في غرفة عطنة الرائحة، وبعد فراري منها لنحو ثلاثة ايام وعودتي الى مقر وحدتي الاصلية في اربيل وطلبي من آمرها الجلف ان يعيدني الى وحدتي القديمة رغم انها بعيدة واقرب الى المنفى القصي منها الى اي شيء، وبعد رفضه طلبي هذا وعودتي مخذولا ليتم تقديمي امام آمر وحدتي الجديدة ويأمر بسجني ثلاثة ايام. بعد كل هذا أخذ المكان طابعا هادئا حين انفتح على الفة مع ضابطين مجنديين كانا قمة في السلوك المهذب، فكانا يخففان عليّ وحشة المكان وغلاظة الضباط والجنود على حد سواء، اولهما كان ملهم علي غالب الذي اخفى عني انه كاتب ومترجم وقريب الشاعرة نازك الملائكة ، وثانيهما احد ابناء البصرة الطيبين والذي لم اعد اتذكراسمه للاسف وقد يكون اسمه (اسعد) على الارجح. في غرفتهما، وان كانت جدرانها وسقفها من “جينكو” كان يجعل شمس آب فرنا حقيقيا، فيها سمعت موسيقى وقرأت لهما نصا شعريا كنت كتبته تحت رعب تلك الايام، وحزنت لغيابهما ايضا، ففي الاسبوع الاول من ايلول 1980 صدرت الاوامرالى اللواء بالتحرك باتجاه خانقين استعداد للحرب التي ستندلع بعد ايام، وبما انني كنت ” ضيفا” على اللواء ولست منتسبا اليه، فقد تم تحويلي الى “مذخر تموين راوندوز” الذي كنت فعليا امارس وظيفتي الاساسية فيه فاحصا للحوم والارزاق الطرية لعشرات الوحدات العسكرية التي كانت تعتمد المذخر مصدرا لتموين ارزاقها.

غياب الجنود والضباط عن القلعة جعلها اكثر وحشة وجعل عتمتها اكثر كآبة غير ان ما جعلها مشعة هو صحبة ستكون لاحقا جرعة باذخة من الامال، ففي صباح احد الايام العاطلة عن الحياة التقيت اثنين من الجنود وثمة ابتسامة طافحة قابلاني بها وبعد تحية سألاني :”هل انت د. علي الطبيب البيطري الجديد لمذخر التموين ” فاجبتهم بنعم شاكرا لهم السؤال وسألت عن اسميهما، ليجيباني بانهما المهندسان نزار وهاشم، وعدتهما بان ازورهما مساء في “غرفة المهندسين”، كما كان الجنود يسمونها، وهي عموما ليست بعيدة عن غرفتي التي كانت تحولت جدرانها الى معرض لاحلامي المؤجلة، فكنت اجد في بعض الصور الفوتوغرافية التي تنشرها المجلات، تعويضا عن مشاهد كنت اجدها تنسجم مع تطلعاتي ورؤاي عن العالم، وعن حياة طبيعية يمارس فيها الانسان رغباته بحرية وانسجام، ومنها صورة رجل بمعطف طويل يبتسم وهو يمشي على رصيف انيق فيما امرأته تستند الى كتفه، وامامهما يطير سرب من الحمام.
في ” غرفة المهندسين” دخلت لأجد بشاشة لا تنسى في وجه نزار اوديشو، دماثة خلق وحيوية وذكاء وضحكة في العيون قبل ان تكون على الشفاه، ثم هاشم الاجعد الشعر والطويل حد انحناء الظهر، وقبل ذلك الساخر عبر جملته الشهيرة التي ستصبح لازمة لنا جميعا “خرا بذاك اليوم الاسود “، وجاء لاحقا المهندس حسام الوسيم بعيونه الخضر التي لم تتمكن من اخفاء جوانية حزينة، ثم ” القصير المكير” ليث سبع درباش او من كان يطلق عليه نزار ” أل أس دي” وهي الحروف الثلاثة الاولى من اسمه واسم عقار مخدر شاع في اواسط السبعينات بين الشباب في الغرب. وقصر قامة ليث وصلعته وصوته الجهير تدل على ” شخصية ماكرة” كانت طبيعية مع شخصية رجل مقامر، وثمة ايضا المهندس مصطفى الذي ينام كثيرا ويصمت اكثر ان صحا.
مع هذه المجموعة بدت ايام قلعة رواوندوز اقل وحشة ، حتى ان القصف الذي تعرضت اليه ثكنتنا في اليوم الثالث للحرب العراقية، قابلناه بمزيج من السخرية والخوف، لاسيما انها التجربة الاولى للمهندسين مع الموت في الحرب، فيما كنت سبقتهم اليها حين تقصف ثكنتنا في تشومان او الوحدات التابعة لها بقذائف صاروخية من مجموعات المقاتلين الاكراد “البشمركة” او من كانوا يعرفون بحسب التسمية الحكومية في بغداد ” العصاة”، ومنها تجربة تعرفت فيها على الموت عن كثب، حين جاءنا جندي جريح وقد اخترقت رئتاه شظايا عدة وعجز مساعد الطبيب عن وقف نزيفه فمات وكان علينا في المفرزة الطبية ان ننام ليلتنا ونحن الى جوار ميت .
في قلعة راوندوز بدا اليوم الاول للحرب طويل طويل جدا، لا لانه حمل وقائع جديدة وخارج الايقاع الروتيني، وانما في خطب الحماسة الكثيرة التي كان يحملها الراديو الرسمي، مما عزز احساسنا جميعا بان القذائف التي اطلقت في اليوم الاول للحرب، كانت اطلقت فعلا علينا نحن، وعلى املنا بالخروج القريب الى الحياة لاسيما اننا كنا دخلنا العد التنازلي لخدمتنا العسكرية وكنا فعلا على موعد في نيسان 1981 للانتهاء من اللون الخاكي وصرامة الحياة العسكرية ( بحسب الجدول الزمني لخدمتنا التي بدأت في ايلول 1979). ذلك اليوم الطويل بدأ مع سرب من الطائرات العراقية يطير خفيضا ولكن بسرعة كبيرة نحو الشرق حيث الحدود الايرانية ثم بعد نحو ساعة جاء البيان العسكري الذي قطع برنامج ” ما يطلبه المستمعون “، ومع تلك الانقطاعة التي جاءت في التاسعة والنصف من صباح الثاني والعشرين من ايلول 1980 ، انقطع الايقاع الطبيعي للحياة في العراق والذي يبدو انه لن يستعاد قريبا وان كنت اوقع هذه الكلمات من مكان قصي وزمن بعيد بعيد كأنه زمكان التراجيديا العراقية معاصرة ، حيث اكتب هذه السطور صيف العام 2005 على ساحل الاطلسي من جهة ولاية كارولاينا الجنوبية !!!
في “غرفة المهندسين” ذاتها ابتهجنا بالموسيقى التي كنت احملها، وبمشاريع القصائد ، وبادماني لاحقا لعبة ” الكونكان” و”البوكر” بعد ان تعلمتها مع المجموعة الغريبة ذاتها التي اكتشفت لاحقا انها موجودة في ذلك المكان القصي ( قلعة راوندوز ) للسبب ذاته الذي ابعدت انا لاجله الا وهو اننا جيمعا “شيوعيون سابقون”، والقاعدة تقول بابعاد “المشكوك في ولائهم ” الى المناطق البعيدة عن العاصمة، ومثل هذا الاكتشاف قربني الى المجموعة اكثر، وكان علينا ان ” نعترف” بماضينا السياسي وتم ذلك في مساء غريب اختلطت فيه مشاعر الحرية بمشاعر الخوف والحذر حين سعينا الى الخروج من خنقة الثكنة الى فضاء النزهة، فحملنا ملابسنا ” المدنية” لنسرق من وقت الصرامة العسكرية زمنا ينقلنا الى اجواء طليقة كالتي كنا نعيشها ايام الجامعة، وتحديدا في تلك الفسحات الرقيقة التي توفرها السفرات الى مناطق سياحية في بغداد او المدن القريبة منها.

عشت الثلج في قلعة راوندوز، وعشت الربيع في احتفاله، مثلما عشت ندائي المحصور بين جبل زوزك و هندرين، فهربت الى كتبي وموسيقاي التي تبدأ من خوليو ايغليسياس ولا تنتهي باسطوانات فريق Beegees، مرورا بشريط نادر للراحل الجميل ناظم الغزالي وهو عبارة عن حفلة خاصة كان احياها يوم كانت بغداد تزدهي بطبقتها الوسطى المثقفة، حفلة تكاد تحس من علامات الاستحسان التي يطلقها السمّار، ومن الاسترخاء الذي يؤدي به صاحب اللون الراقي في الغناء البغدادي، انها كانت في مساء صيفي وبحديقة احد الموسورين، فضلا عن حاجتك الى شطحة بسيطة من الخيال لتتحسس لون العرق الابيض في كؤوس السهارى والندامى . هذه التنويعة من الاغنيات والالحان كانت فيروز سيدة الصباح بلا منازع، وكان هاشم ينهض من فراشه بفوضويته المعهودة، ليضع احد اشرطة صاحبة ” ميس الريم” ومع اختلاف الاجواء التي كانت تبدعها فيروز، الا اننا المقهورين الاقزام تحت ظل مديد لجبل زوزك العملاق كنا نفضل اغنية ” يا جبل البعيد ” كونها كانت تحاكي ازمتنا الروحية والوجودية فدائما في الاغنية هناك نداء الى الافق المحتجب خلف الجبل، فالاغنية تقول ” خلفك حبايبنا”. وعلى سيرة النداءات الروحية الخاصة، كانت للمهندس حسام طقوسه السرية مع احزانه الشخصية التي تتجلى حين يتناهى عبر اثير الراديو صوت المطربة نجاة الصغيرة، فينفصل عن مجموعتنا لينسل بجسده النحيل الى فراشه ويغطي جسده ببطانيته ويصطحب الراديو ويمضي في نوبة من بكاء مكتوم، وكنت انا جديدا على طقس كهذا، غير ان اللافت هو في احترام المجموعة للحظات من الصفاء الشخصي يذهب اليه ابن مدينة طويريج المهذب والرقيق والوسيم.

وعلى العكس من هذا الجو الروحي، كان المهندس ليث ينقل جلساتنا وخاصة حين تجمعنا ساعات لعب الورق والرهان بمبالغ لا بأس بها في تلك الايام، ينقلها الى سوقية وتعليقات لاذعة تنسجم مع شخصيته ” الماكرة” التي تنطوي على انانية مفرطة، بينما مع هاشم تأتي البساطة في اهاب من العفوية والصدق، ويظل نزار نموذجا لدفء الروح ودماثة الخلق والذكاء، ولذا كان من الطبيعي ان احرص على اتواصل معه، حتى في سنوات القحط في التسعينيات ( اي بعد غزو الكويت)، وكانت مفاجأة غير متوقعة حين اصطحبني الى بعقوبة وزرنا معا المهندس هاشم الذي بدا غريبا في منظره الرصين كونه كان مديرا لدائرة الري في بعقوبة، غريبا عن منظره المحفوظ في الذاكرة : الطفل البرىء المدهش على الرغم من حجمه الضخم. ومع هذا كانت فسحة النزهة ممكنة، فاصطحبنا ” ابو هشوم” الى بستان عائلته المطل على نهر ديالى وهناك سكرنا بطريقة غريبة: تحت اشجار الفواكه حيث كنا نقطف الثمار مباشرة الى افواهنا التي ما انفكت تستعيد ايامنا بضحكات مديدة.

آخر علامة من صحبة رقيقة هزت قلعة راوندوز واضاءت عتمتها، كانت لي مع نزار حين التقيته في عمّان العام 1995 وهو يستعد للسفر الى استراليا، بينما كانت لحظة وداعي للمجموعة حين صدر امر نقلي الى مقر سريتنا النقلية الجبلية في اربيل مؤثرا وكئيبا، وما بين ذلك المشهد ومشهد لقائي الاول بنزار وهاشم في ممر الطابق الثاني من القلعة الموحشة، يظل محفورا في الذاكرة، مشهد الللية الاولى في الحرب وتعليقاتنا ونقاشتنا الطويلة، وفيها كان مميزا ما قاله ( ابو هشوم) من ان هذه حرب طويلة وستستمر حد وصول طرفيها الى الاعياء. مثلما تظل محفورة ايضا الليلة التي كنت استعد فيها لجمع اشيائي الخاصة استعدادا لاول اجازة لي في الحرب، ليلة لم انمها مستعيدا فيها كل شيء ، ليلة ستوصلني بعد نهارين وبعد وصولي الى بغداد الى حدث غيّر حياتي والى الابد.

*شاعر وصحافي عراقي مقيم في عمان
شرح الصورة: الكاتب جنديا في قلعة رواندوز 1980

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *