محمد نجيم
ضمن الإصدارات الجديدة التي طرحتها دار” إفريقيا الشرق” للنشر في الدار البيضاء، الترجمة العربية لكتاب ذائع الصيت، لمؤلفه الفيلسوف والمفكر الفرنسي الشهير إدغار موران بعنوان “هل نسير إلى الهاوية؟” بترجمة عن النص الفرنسي قام بها عبد الرحيم زحل.
ويسعى الكتاب إلى وصف سيرورة العولمة التي تعتبر أسوأ شيء بوصف إدغار موران في المقدمة التي خصَّ بها الترجمة العربية، مشيرا إلى أن هذه العولمة باتت تحطّ من شأن التسابق “صوب الهاوية” بعد أن أطلقته، و”لأول مرة في التاريخ أصبح يمكن لنا أن نتصور المصير الأرضي المشترك”. والكتاب يصور أوجه التعقد في السيرورات ويقر بالجوانب الإيجابية فيها، مثلما يكشف عن خصائصها السلبية. وهو يبين أن المحتملات كارثية، لكنه ينوه إلى أن غير المحتمل قد وقع في التاريخ. وينوه كذلك إلى أننا “حيثما نعتقد بوجود المخاطر فهنالك يوجد كذلك ما ينقذ ويخلص” بتعبير هولدلين، بمعنى أن المخاطر التي صارت تزداد تبدياً قد باتت تسعف كذلك على استيعابها بأوجه متعددة، وهو وعي ربما كان باعثا على الأعمال المخلصة منها.
ويضيف إدغار موران قائلا إنه سعيد بصدور هذا الكتاب في المغرب الذي له فيه أصدقاء كثرٌ، ولا يبخل عليه من آيات التكريم والاحتفاء. وإن من شأن هذه الترجمة العربية كذلك أن تتعدى نطاق المغرب فتعود عليه بأصدقاء جدد سيجدون في هذا الكتاب تعبيراً من تساؤلاتهم وترجمة لانشغالاتهم. ومؤكدا بقوله “إنني لعلى بينة من الظلم الواقع في عدم تفهم الغرب للعالم العربي والإسلامي، فلذلك تراني لا أفتأ أعمل من أجل إحقاق العدالة ومدِّ جسور التفاهم بين الشعوب”.
تقدم بلا أخلاق
في مقالته التي حملت عنوان الكتاب “هل نسير إلى الهاوية؟” يرى المفكر الفرنسي إدغار موران ان التقدم العلمي “مَكَّن من إنتاج الأسلحة النووية وأسلحة أخرى للدمار الشامل، كيماوية وبيولوجية، وأتاح لها الانتشار الواسع. وتسبب التقدم التقني والصناعي في مسلسل من التدهور في المحيط الحيوي. وخلقت عولمة السوق الاقتصادية المفتقرة إلى تقنين خارجي وإلى تقنين ذاتي حقيقي، جُزَيْرَات جديدة من الثراء، وخلقت مناطق متنامية من الفقر كما في أميركا اللاتينية وفي الصين. وقد كانت هذه العولمة ولا تزال كذلك سبباً في خلق أزمات لا تفتأ في تناسل، وتسير في اتساع واستشراء حتى باتت تتهدد بالفوضى والسديم. وقد صارت أشكال التطور الواقعة في العلوم والتقنيات والصناعة والاقتصاد، وهي المحرك اليوم للمركبة الفضائية الأرض، لا يحكمها شيء من سياسة ولا أخلاق ولا فكر”.
ويضيف انه يمكن اعتبار الاتساع والتسارع اللذين سارت إليهما هذه العمليات المتأبية عن أي رقابة بمثابة تغذيات استرجاعية (مفعولات ارتجاعية) إيجابية، وهي تشكل إعاقة للتقنيات عن طريق الاتساع والتسريع اللذين نراهما في أشكال التطور المحمومة. وهكذا فإن ما كان يفترض أن يضمن التقدم البشري يحمل بحق أوجهاً من التقدم المحلي وإمكانية لتقدم مستقبلي، لكنه يخلق مخاطر قاتلة للبشرية ويفاقم منها. ومن غريب أن هذه التطورات ترافقها أوجه عديدة من التراجع تتبدى لنا في صورة كأنها ارتداد إلى الهمجية.
ويؤكد إدغار موران في مقالته أن الحروب “صارت في استشراء على كوكب الأرض وباتت تغلب على معظمها الأسباب والدوافع العرقية والدينية. فأينما وليت وجهك رأيت النظام في تراجع والعنف يكتسح بشتى أشكاله المناطق الواقعة في ضواحي المدن. وأصبحت الجريمة المافيوزية ممارسة جارية في سائر أنحاء المعمورة. وبات قانون الانتقام بديلا عن قانون العدالة، بزعم انه العدالة الحقة. وغدت التصورات المانوية تستحوذ على الأذهان؛ وتصوَّر وكأنها هي العقلانية. ويجوز لنا أن نعتبر هذا التنامي للسيرورات التراجعية بمثابة تغذية استرجاعية إيجابية مفكِّكة، تتضافر مع تغذية استرجاعية إيجابية للمحرك الرباعي الذي مكوناته العلم والتقنية والصناعة والاقتصاد. وتطلع علينا الهمجية الحقودة من أغوار التاريخ لتتكالب مع الهمجية التي لا نعرف لها صفة؛ تلك الهمجية الباردة الصقيع المتمثلة في التقنية الخاصة بحضارتنا. وإن في تحالف الهمجيتين لما يتهدد كوكب الأرض”.
دائرة جهنمية
وفي حديثه عن الشرق الأوسط، يقول إدغار موران: لقد كنت أشرت لوقت طويل إلى أن الشرق الأوسط يقع في قلب منطقة زلزالية تمتد إلى جماع الكرة الأرضية؛ كانت تتواجه فيها الأديان في ما بينها، وتتواجه فيها الأديان واللائكية، ويتواجه فيها الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتتواجه فيها البلدان الفتية الفقيرة مع البلدان الغنية العجوز. والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الواقع في قلب هذه المنطقة الزلزالية، يشكّل نفسه سرطانا يوشك أن ينتقل ليعم أصقاع المعمور. ولقد لاحت لنا بالفعل العلائم المنذرة بهذا الأمر على أثر التطورات الجديدة التي نجمت عن زيارة شارون لباحة المسجد الأقصى، فاندلاع “الانتفاضة الثانية” وتوقف مفاوضات كامب ديفيد، والاجتياحات المكثفة التي صارت القوات الإسرائيلية تقوم بها في الأراضي الفلسطينية كلها أمور تشكل دائرة جهنمية ما عاد في الإمكان اليوم حصر مداها. ذلك بأن القمع الفتاك الذي تنتهجه إسرائيل قد أطلق موجة من العداء لليهودية لم يسبق لها مثيل في العالم الإسلامي جاءت لتتبع الموضوعات التي كانت مثارا للعداء المسيحي لليهودية (التضحية بالأطفال الغوييم في عيد الفصح اليهودي) والعداء الغربي ليهودية القومية (المؤامرة اليهودية للهيمنة على العالم)، وعم العداء لإسرائيل حتى صار عداء لليهود. وكذلك أطلق العنف الأعمى الذي يحرك الانتحاريين موجة من العداء للإسلام لم يقتصر على يهود الشتات وحدهم بل صار يعم كثيرا من الأوساط المختلفة كما يشهد عليه كتاب أوريانا فالاسي ضد الإسلام. فهي قد اختصرت هذا الدين في الفرع المتعصب والرجعي منه. ولن يكون لتفاقم هذه الوضعية إلا أن يخلق بؤرا جديدة للصراع في صلب الأمم. وقد ظلت فرنسا بالنسبة الكبيرة من ساكنتها ذات الأصول الإسلامية وساكنتها غير الهينة ذات الأصول اليهودية، إلى اليوم تحول دون أن تتفجر في هوامش مدنها أشكال العنف التي يطلقها الشباب الفرنسيون من ذوي الأصول المغاربية وتمنع من التبريرات القمعية الإسرائيلية التي يسوقها الممثلون لما يسمى “الجماعة اليهودية”.
ويرى إدغار موران أن تفاقم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سيؤدي إلى مواجهة وقودها الكراهية والعنف، وستصير فرنسا اللائكية مسرحا لحرب عرقية ودينية تتواجه فيها فئتان من المواطنين. وزيادة على ذلك فعلى الرغم من أن تأسيس تنظيم “القاعدة” لا يتصل بشيء بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني فلقد صار هذا التنظيم، بعد ما كان من الاعتداءات التي شهدتها كينيا، يتبنى القضية الفلسطينية العادلة لخدمة سعاره الإرهابي غير العادل.
أوروبا العاجزة
ويقر إدغار موران أن الضعف اعتور قوى المقاومة، مضيفا “فهذه أوروبا قد باتت عاجزة عن أن تفرض سياستها، وعاجزة عن أن تنمي نفسها فيما تعيد تنظيم نفسها، وعاجزة عن أن تستحضر أن تركيا قد كانت قوة أوروبية كبيرة منذ القرن السادس عشر، وانه قد كان للإمبراطورية العثمانية إسهام في الحضارة الأوروبية. وغاب عنها أن المسيحية هي التي أبدت في الماضي تعصبها نحو كل دين عداها، وأن الإسلام الأندلسي والإسلام العثماني قد كانا متسامحين مع المسيحية ومع اليهودية. إن الأمم لا تستطيع أن تصمد للتدفق الذي يغمر كوكب الأرض، إلا بالانغلاق في صورة رجعية على دينها وعلى قوميتها. والأممية المواطنة الناشئة تعاني ضعفا شديدا. ولم يظهر بعد مجتمع مدني على صعيد كوكب الأرض. وإن الوعي بمصير أرضي يشترك فيه الجميع لا يزال في تشتت كبير.
ونحن نرى فكرة التنمية، حتى التي يقال لها “مستدامة”، تجعل من حضارة مأزومة النموذج المحتذى، وهي نفسها حضارة ينبغي إصلاحها. فهي تعيق العالم أن يهتدي إلى أشكال من التجول غير تلك المستنسخة من النماذج الغربية. وتزيد في قوة جميع أنواع التغذية الاسترجاعية الإيجابية التي سلفت إشارتنا إليها. كما أنها تقود المجتمعات في سبيل تؤدي بها إلى الكارثة، والحال أنه ينبغي تغيير السبيل والشروع في بداية جديدة.
ويؤكد الفيلسوف إدغار موران أننا نمضي صوب الكارثة. وذلك أمر قد أجاد ج. ب. دوبي التعبير عنه في كتابه “من أجل كارثة متنورة”. ثم إنه يدعونا ويا للغرابة، إلى أن نقر بحتمية حدوث الكارثة لكي نسعى إلى تلافيها. لولا أننا نرى الشعور بالحتمية قد يؤدي إلى السلبية ناهيك عن أن دوبي يتجنى في مطابقته المحتمل بالمحتوم. إن المحتمل هو ما يرى ملاحظ قد توافرت لديه المعلومات الموثوقة في زمن ومكان معلومين، أنه السيرورة المستقبلية. وبطبيعة الحال فإن جميع السيرورات الحالية تقود إلى الكارثة. لكن غير المحتمل يظل ممكنا، وقد بين لنا التاريخ الماضي أن غير المحتمل يمكنه أن يحل محل المحتمل، على نحو ما وقع في أواخر 1941 ومطلع 1942 عندما ألغي المحتمل في 1940 ـ 1941 المتمثل في هيمنة الإمبراطورية الهتلرية على أوروبا لفترة طويلة، ليحل محله محتمل جديد أحال الأول شيئا غير محتمل؛ نريد به انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية. والواقع أن جميع المستجدات الكبرى التي وقعت في التاريخ قد كانت منحرفة وحطمت الاحتمالات التي كانت قائمة قبل أن تصير إلى ما صارت إليه من تطور. كذلك كان الشأن في رسالة المسيح وبولس ورسالة محمد والتطور الذي عرفته الرأسمالية، ومن بعده التطور الذي عرفته الاشتراكية، فيكون الباب قد أصبح مفتوحاً على غير المحتمل، حتى وإن كانت الفوضى العالمية المتزايدة تجعله في الوقت الحالي شيئاً غير معقول.
فرصة أخيرة
ويجزم موران بأنه مع هذه الفوضى التي توشك أن تسقط فيها البشرية تحمل لها في ذاتها فرصتها الأخيرة. لماذا؟ لأن علينا أن نعرف أنه متى أصبح نظام من الأنظمة عاجزا عن معالجة مشكلاته الحيوية فإما أن يتفكك وإما أن يكون قادرا، في تفككه نفسه على أن يتحول إلى نظام متحول شديد الغنى وقادر على معالجة مشكلاته. ومن هنا تظهر فائدة التغذية الاستراتيجية الإيجابية علينا. فالتغذية الاسترجاعية الإيجابية تؤدي في العالم الفيزيقي حتما ولزوما إلى التفكك أو إلى الانفجار. وأما في العالم البشري وكما أشار ماغورو ماروياما، فإن التغذية الاسترجاعية الإيجابية تقوض بنيات قديمة بالية، فيمكن أن تكون سببا في ظهور قوي للتحول والتجدد. ولنا في تحول الدودة في الشرنقة تبتدئ عملية من التدمير الذاتي لجسم الدودة فيها، ويتم في تلك العملية كذلك تكون جسم الفراشة، الذي هو الجسم نفسه وجسم آخر غير جسم الدودة في آن واحد. وذلك هو التحول. إن تحول الفراشة هو تحول ما قبل منظم. وأما تحول المجتمعات البشرية إلى مجتمع عالم فهو شيء عرضي، وغير مؤكد وخاضع لمخاطر السديم، مع أنه ضروري له”.
وإذا صح أنه مثلما أن جهازنا العضوي نفسه يشتمل على خلايا جذعية يصعب التمييز بينها، وقادرة كشأن الخلايا المضغية على أن تخلق مختلف الأعضاء في كياننا، فكذلك تمتلك البشرية في ذاتها الفضائل الجنسية التي تتيح تخلقات جديدة. وإذا صح أن تلك الفضائل قد انطمرت ودفنت تحت ركام التخصصات وشتى أنواع التصلبات في مجتمعاتنا فإن الأزمات المعممة التي تهوها وتهز كوكب الأرض من شانها أن تتيح حدوث التحول الذي بات شيئا حيويا. ولذلك ينبغي لنا أن نقلع عن السير في طريق “التطور”. فينبغي أن نغير الطريق ونبدأ من جديد. وينبغي أن نصغي إلى العبارة التي قال فيها هايدغر: “إن الأصل لا يوجد وراءنا”، كما نصغي إلى نداء.
إضافة إلى مقالته العميقة “هل نسير إلى الهاوية؟”، نقرأ في الكتاب مقالات أخرى منها: أزمة الحداثة، ما بعد الأنوار، نتحدى العولمة، ظهور المجتمع العالمي، الثقافة والعولمة في القرن الحادي والعشرون، المجتمع، العالم ضد الإرهاب، الواقعية واليوتوبيا، أصولنا توجد أمامنا.
– الاتحاد