عباس بيضون *
المسلمون غاضبون وفي سورة غضبهم هاجموا السفارات الأميركية والغربية. كان صلحهم قصيراً مع الغرب. إذا بدا أن الربيع العربي وعد بذلك فإنه لم يدم عاماً آخر. لقد حملوا فعلة القبطي المصري الأصل الذي صنع فيلما يسيء إلى صورة نبي الإسلام على الدول الغربية وعلى ممثليها عندنا. لقي السفير الأميركي في ليبيا مصرعه. اعتذرت الحكومة الليبية واتهمت قوى خارجية بذلك وسمت القاعدة. في بلدان أخرى سقط متظاهرون، في مصر حمت دولة الإخوان المسلمين السفارات. صار الإسلاميون في الحكم وعلى عاتقهم تقع تبعات الدفاع عن السفارات. لا يعني ذلك أنهم يمسكون بالدفة، يتظاهرون في الشارع، في حين أنهم في الدولة يرسمون حدود التظاهر، قد تفلت الدفة من أيديهم كما أفلتت من أيدي الدولة الليبية الناشئة. في ظرف آخر قد يبدون بوجهين، وجه في الشارع ووجه في السلطة. هذا أول امتحانات السلطة، ان توازن بين الشارع والحكم، أن تكون هنا وهناك بدون أن تبدو متناقضة. لا شك ان قضية الفيلم المسيء إلى صورة الرسول كانت امتحاناً تقليدياً للإسلاميين. حين يكون المطلوب هو التصدي للغرب دفاعاً عن الإسلام فإن هذا ما تمرس به الإسلاميون ولهم فيه بالطبع سوابق كثيرة. ثم ان الدفاع عن الإسلام وعن صورة النبي يطرح على الإسلاميين مسألة دينية، مسألة من العموم بحيث تستفز الشعب برمته وتستدعي الأكثرية إلى الرد. مسألة دينية هي في صلب اختصاص الإسلاميين وصلب دعوتهم. نجح حكم الإخوان في مصر في كسب هذه الجولة. نجح في تعبئة الشارع وفي حماية السفارات الغربية في آن معاً. لقد نجح في ذلك في حين تنتظره المتاعب إذا رضخ لشروط البنك الدولي للحصول على قرض منه. ثمة سجال داخلي حول ذلك ولم يعرف بعد إلى أين سيؤدي رفع الحماية عن السلع الرئيــسية وفك التأميمات وإجراءات التقشف. هذه بالطبع أمور لا يصح الافتاء فيها، ولا بد من أن تُدرس مخارجها ومداخلها ولا بد من أن يحــسم فيــها سـاسة واقتصاديون.
قضية الإساءة إلى صورة النبي ليست الأولى من نوعها، لها سوابق كثيرة، بل هي إلى حد ما، قضية متصلة وتطرح آناً بعد آن سبباً جديداً لغليان الشارع. يمكن أن يكون عنفها هذه المرة استمد من عنف المرحلة فالمرحلة دموية إلى حد بعيد. لقد سال الدم غزيراً في ليبيا بحيث ان العنف الذي ما زال مستشريا وصل إلى قتل السفير الأميركي. لكن مقتله، هو الذي وقف مع الثورة الليبية بأمر من دولته، أعادنا إلى تاريخ سابق هو ذاته التاريخ الذي زرع القاعدة في أفغانستان وفي العراق. وبطبيعة الحال فإن الدولة الليبية الوليدة ليست إسلاموية لكن دولة إسلاموية لا تستطيع التنصل من كونها دولة أولاً. الدولة الليبية لم تقل ان مقتل السفير الأميركي كان بسبب من غيابها وحداثتها وضعفها وانفراط المجتمع ونزاعاته القبلية المناطقية المستشرية. لم تقل الدولة ذلك لكنها اتهمت قوى خارجية وكان واضحاً أنها تعني بذلك القاعدة. ثم ان مقتل السفير بدا، على نحو ما، رداً على مقتل الرجل الثاني في القاعدة وبدا أن اختيار 11 أيلول موعداً للعملية لم يكن اعتباطيا إذ أن رمزيته غير خافية. لقد كان اختيار 11 ايلول للهجوم على القنصلية الأميركية في ليبيا شعائرياً إلى حد بعيد ولم تفت طقوسيته انتباه أحد.
بدا الربيع العربي في وجه من وجوهه مصالحة ما مع الغرب المسيحي الاستعماري حليف إسرائيل، لقد تخلى، والولايات المتحدة بخاصة، عن مبارك وناوأ القذافي وجابه بشار الأسد ومهما يكن بين هذه المواقف من تفاوتات ومهما تراكم عليها من تفاصيل فإن الثورات العربية وجدت في الغرب نصيراً وحليفا. بل بدا أن ثمة تقاربا بين الجماعات الإسلامية، التي كان لها شأنها في هذه الثورات وبين الحكومات الغربية، كان ذلك عهداً جديداً بحق فالغرب الذي أقام في يوم حكومات كرتونية رجعية ومعادية للشعب حليفة له في المنطقة قد سلك هذه المرة سياسة مستقيمة، مع الثورات ومع الديموقراطية. قد تكون هذه المصالحة بداية عهد جديد ايديولوجي ثقافي وسياسي فانفجار الكره للغرب الذي كانت القاعدة مثاله كان قد وصل إلى درجة من الانحسار وتكفلت الثورات العربية بلجمه وتبريده ما بدا معه أننا على مشارف عصر جديد، لن يكون العداء للغرب ومحاكمته على خلق إسرائيل عقدته ومحوره. كان شيء كهذا يؤذن بانتهاء الخطاب القومي ـ الديني لكن حادثة الفيلم المسيء استطاعت بسهولة فائقة ان تبتعث هذا العداء وأن تجدده وأن تحييه. لقد بدا هنا دور الايديولوجيا. إن الثنائية القومية والدينية، وهما لصيقتان، تشكل إلى الآن العقل العربي. وتكفي إشارة لتهييج هذه الذاكرة ولانبعاث الرواسب الضامرة فيها. إن الجرح القومي الديني ما يزال راعفاً ولا يمكن له ان يلتئم بسهولة. إن سياسة متخلصة من هذا الإرث تنتظر وقتا وجهداً وتجربة، بل إن عقلا متخلصا من هذا الإرث لا بد له من زمن ومراس طويلين، حادثة الفيلم المسيء معبره تماماً. لقد أعادت تشخيص العدو. لكن هذه المرة حمى حكم الإخوان السفارة الأميركية. هل هذه إشارة أخرى. لا نستطيع أن نتأكد إنما نعتقد ان الأوان قد بدأ ليشكك العقل العربي بمنطلقاته وليبحث فعلاً عن استقلاله .
– السفير – الثقافي