ربى أبو دلو *
ثقافات-
“ما الغجريةُ؟ قال الضوءُ الساقطُ من فتحةٍ في الغيمِ، ابتسمتُ، فصارَ الغيمُ رجُلاً ويداه وصايا، وأشرتُ إلى بلادٍ تُضيءُ المكانَ وحدها، غجريةً دونَ طقوسِ الغجرْ، قالَ: لا أريدُ أن تعشقَني الغجريَّةُ لأنني لا أريدُ أن أموتَ من أجلها”.
لا أدري، كيفَ يملكُ من رؤاهُ كلّ هذا المجاز، ويقدرَ أنْ يُتابعَ دهشتنا سطراً تلوَ آخرَ، مرّة تلو مرّة، دون أن يلوي عُنقَ الكلام ولا يضجّ بنا الملل !
فيما يكتبُ خالد جمعة لمْ يكن صعباً أنْ تُميّزَ كمْ لغتهُ فضفاضةً واسعةً وفيما تقرأ، تُباغتك الجملُ الصافيةُ، الشّفافةُ، التّي تصّور مشاهدَ ينحتها في قصيدتهِ الشعرية، ويعتمدُ على فنّ الكلمة وجمالها اللُّغوي والموسيقيّ والرمز. إنّها لغةُ الشّعر التي تفتح ذراعَيْها لتنقلكَ منْ عالم إلى آخر، ومنَ الخيالِ إلى الصّورة المشهديةِ والمرسومةِ، إنّها ببساطة اللّغة المسيطرة.. لغتهُ تعكس تقلبّاتِ روحِه القَلقةِ، الجميلةِ والرّاقية.
إنها …! بصيرة الغجريّة حيث يستحيلُ المجاز !
هذا ما يخرجُ به القارئُ منْ انطباعٍ خلالَ تجْواله في كتاب خالد جمعة “كي لا تحبَّكَ الغجريةُ” والّتي صَدرتْ في طُبعة أنيقة، عن دار فِكْر للأبحاث والنّشر في بيروت، يأخُذكَ هذا الشّاعرُ البديعُ عِبْر جولة بـ 136 صفحة مُزدانةً بـ31 قصيدةً نثريةً متنوعةً تندرجُ تحت عناوينَ مكتملةٍ لتطوف بعوالمَ عديدةٍ وكأنّ القصيدةَ هي عنوانُ نفسِها واللّحظةُ عنوانُ حدوثها !
وأهدى الشّاعرُ ديوانهُ إلى كلّ من ‘محمود سليم’ و’حسْنة ياسين’ وهما والديهِ باسمَيْهما لأنّهما كما قال “رائعَان بشخْصيتيْهما بعيداً عنْ علاقتي بهما كوالدَين.'”
وبغلافٍ لمْ يكُن لوحةً مجردةً بلا معنى بلْ قصيدةً بدأتْ ولمْ تنته، وما بين الرسمِ بالكلماتِ المخطوطةِ والرّسم بالألوان جاءتْ الفكرةُ وكانتْ الحروفُ المخطوطةُ تتخلّلُ تلكَ الغجريةُ الّتي تنثرُ شعرها وتنظرُ نظراتٍ بعَيْنينِ ثاقبتَينِ هادئَتيْن إلى الأفق البعيدِ القريب، وفم كأنهُ يهمسُ بما كُتبَ منْ شعرٍ وبينَ الرّسم والكلمات تتضحُ ملامحُ الغجريةِ بتناسقٍ جميل. محلّق في كوامِنِ الحروف، لذا جاءتْ لوحةُ الغلاف للفنانةِ مي مراد غلافاً غجرياً بسيطاً بجماله ومعناه غلافاً يعكسُ مضمونَ الدّيوان، لوحةٌ اعتمدتْ على الأصفر بدرجاتهِ والأبيض والأسود لتُنْتجَ قصيدةً مع الكلماتِ المتوزعةُ لتحكي قصةَ شاعرٍ خَطّ بلُغةِ الشّجنِ الّذي يَصْلحُ لكُلّ الحَناجر، وقصائدَ تولد هنا وهناك.
“كي لا تحبَّكَ الغجريةُ” يُعدُّ العنوانُ بُنيةً نصيّة شاملةً وذاتَ دلالةٍ عامةٍ، يُشرقُ المعنى من خلالها ويُضيءُ ما يُعتمُ منهُ، المدخل وَحْدَهُ قصيدةٌ ومناجاةٌ موسيقيّةٌ بامتياز، فالتجربةُ الشعريةُ هنا ليستْ مجردَ حالةٍ أو رؤية، وليستْ مجردَ شكلٍ أو مضمونٍ، إنّها احتواءٌ للإيحاءات الغنيّة.
“
كي لا تُحبَّكَ الغجريَّةُ المنكوبةُ بالسَّفَرْ، خلِّصها من صلصلةِ الخلخالِ الذي يقيسُ المسافةَ في وعيِها الأبديِّ، وروِّضْ كلَّ حصانٍ برِّيٍّ أكَلَ عشبةً من يديها، إسرقْ خاتَمَ أنفِها، واترُكْ فتحَتَيّْ أقراطِها للهواءِ، وصوتَها للنواحْ”.
يضعُ خالد لكلّ مقطعٍ عُنواناً داخلياً مكثفاً أخّاذاً ومُعبّراً عمّا سيأتي بلْ هوَ كأنّه يلخّصهُ ويُخلصُ لرؤاهُ فيه، فلوْ حذفنا ما بعدهُ لكانَ الوضوحُ فيما قبله! وهنا الأمرُ ليسَ بالسّهل وما هوَ إلا الصعبُ بكلّه فهو مدرسة مميزة!!!
تُلاحَظُ قوةُ الشّاعر منْ قدرتهِ على إبداع الصّورة البصريةِ الواضحةِ المُثيرة؛ قصائدهُ تتميّزُ بالتّفرد والذّاتية الّتي تُعدُّ من أهم سمات الإبداع الشعري لتتصاعد وتيرةُ الدهشة فيها، تِبعاً لإحساسك الدّاخلي بجمالية النص وقدرة روحك وبصيرتك المكثفة الرؤى على سبر أغوار ونوازع الكلم على اختلاف نوعه الأدبي، تسمعها وكأنك في حضرة الموسيقا، تتأملها وكأنك أمام لوحة، تقرؤها فتشعر وكأنك تشاهد فلماً!
“وعلى رفِّ الكُتُبِ بقايا أصابِعِها تخدشُ حدودَ المعرفةْ، وتخرجُ من كلماتِ الشِّعرِ مثلَ نظرةٍ في العينِ، ثابتةً كأمٍّ ومطمئنَّةً كرضيعْ”
قصائدَ تحملُ سِمةَ الإبداع والخلق في إضفاء المعنى العنواني مع المضمونِ الشّكلي، ومنَ النماذجِ الشّعرية التّي تمثّلُ ذلك، قصيدةُ “أدراجُها الخفيفةُ كصوتِ النومْ” إذْ يرسم جمعة بريشتهِ الفنيّة لوحةً مترابطةَ العناصر معْ بعضها البعض، يقول في مقطعِ عناصر الصورة:
“في آخرِ مرورٍ تركَتْ خلاصةَ الأناشيدِ على الشبابيكِ المفتوحةِ، ندِمَ أصحابُ الشبابيكِ الأخرىْ، لمحوا ثوبَها الأزرقَ بلونِ سمائهم يمرُّ مُبدِّلاً لونَ الإيقاعاتِ في الطبيعةِ، وشكلَ البحارِ، ملأتْ الأوديةَ بالحكاياتِ والرواةْ، ودلّلَتْ النساءَ الخالياتِ من عشّاقِهِنَّ.”
وفي “من هذا” يَرسمُ أيضاً فيقول :
“من هذا يُدخِلُ الخيلَ إلى المُدُنِ التي لم تُهَيّأ للحربِ؟ ويتسلّى بكتابٍ بورقٍ تُثْقِلُهُ العبارةُ؟ مَنْ هذا يكرِّسُ النارَ في الغاباتِ وينشئُ حيطاناً بيننا وبين الأغنيات؟ مَن هذا يجلجلُ في الساحةِ الكبيرةِ جوارَ التمثالِ الوحيدِ في المشهدِ ويقولُ إن الجنودَ مُحْتَمَلونَ والمعاركَ مبتدأٌ لهزيمةٍ لاحقةٍ أو لنصرٍ معجَّلْ؟
من هذا يساوي بينَ الناياتِ وصراخُ الصِّبيةِ في ليلٍ أزرقْ؟”
لوحاتٌ تتركُ إحساساً بالوحشة والكآبة. وتظهرُ استعارةُ الشّاعر لمُفردات الفنّ التشكيليّ واضحةً جليةً منْ عنوانِ النّص الّذي نهتدي بهِ للنصّ، ويُشكّلُ إضاءةً معرفيةً في إدراكِ المُحتوى الفكريّ الّذي يَرمي إليهِ الشّاعر.
يبدأُ الشّاعر وبعبارةٍ صريحةٍ مستعارةٍ من الفنّ التشكيليّ منْ خلالِ قوله: “نَرسمُ الحزنَ” وبذلك يضع الشّاعر متلقي النّصّ ومن خلال الفهم العميق لهذا الفنّ ليتداركَ لذهنهِ أنّه يقفُ أمامَ لوحةٍ، وعليهِ فكُّ رُموزها المتشكلةِ منَ الإطار واللّون والفضاءِ أو الفراغ! وتشعرُ باللذة لأننا أمام وجهة وملامح شعرية غير رتيبة وغير مملّة.
“الحزن أزرقْ، الحزنُ غابتنا المجهولةُ الضائعةُ المنسابةُ في عروقنا كندمٍ على فعلٍ لأننا لم نفعله، الحزنُ يشبهُنا حينَ نطبعُ رعشتَنا الأولى على المرآةِ في الصباحِ البارِدِ، ودائما نرسمُ الحزنَ بطبعٍ ملائكيّْ، فمَنْ يتخيَّلُ شيطاناً حزيناً؟”
يقفُ المُتلقي أمامَ نصّ شعري/ لوحةٌ شعريةٌ تضمُّ في ثناياها لوحةً أخرى، وفي قلب هذهِ اللوحةِ لوحاتٌ أخَرْ. شاعر ٌنهم مُثقف لَديه ثَقافُة شَامِلة يَكتب نصّه بثقةٍ فهوَ لا يَكتبُ جُملةً واحدةً، إلا لشأن و لِمعنىً عظيم.
“في مروري على الرملِ ساحباً ظلّي على الأزرقِ الحائرِ بين لونين، أغرزُ قدميّ بحقدٍ في الوجهِ الناعمِ للشاطئ، كي أُخرِجَ ما قالَهُ القادةُ التاريخيّون حينَ مرّوا مدجّجينَ بأحلامِهم غير المفهومةِ، يصعدُ سيفٌ من الحفرةِ الصغيرةِ ويشقُّ حذائيَ بين الأصابعِ، ويكملُ صعودَهُ إلى سماءٍ بلونِ البحرِ، وأنساهُ بعد ثانيتينِ فقط، لأن جيوشاً كثيرةً خرجتْ من الموجِ كعاصفةٍ من خيولْ”.
والشّاعرُ لا يوظّفُ الألوانَ عبثاً، أو وِفْقَ مَدلولها الواقعيّ في الحياة؛ بلْ يَعكسُ منْ خلالِ ذلكَ رؤيتهُ الشعريةِ الّتي تُوحي بالحالةِ النفسية الّتي تنتابُ الشّاعرَ، ليُعبّرَ بذلكَ عنْ حالتهِ النفسيةِ .
“كطفلٍ أعطاهُ غيابُ أمِّهِ حريَّةً مفاجئةً، في الشارعِ ذاتِهِ، عطرُكِ لا يغادرُ الشجرْ، فيما ألملمُ خيوطَ الضوءِ التي لامَسَتْ ثوبِكِ في موسيقى الحفيفِ التي لم يصمدْ أمامَها كائنٌ، ولم يدوِّنها عازفٌ أمطَرَتْ يداهُ بروقاً من حزنٍ دافئ قبلَ أن ترتكبَ العاصفةُ إثمَها العظيم، وترمي أصابعَهُ في الرجفةِ والنسيانْ.”
من قراءتي – المتواضعة – للمجموعةِ هذا الخالدُ يقْبضُ على طرفِ أنفاسكَ منذُ السّطر الأول وحتى السّطر الأخير، وعليكَ أن تَقرأ بِدهشةٍ، وتركضَ خلفَ دهشتهِ كطفلٍ صغير يلاحقُ أسراب طُيور لم يرَ مثلها من قبل!
خالد جمعه منَ الشعراء الّذينَ تُدهشنا فِكرتهُم قبلَ لُغتهم وتُدهشنا لُغتهم قبلَ فِكرتهم! شِعرهُ كشيءٍ جميلٍ لا يفقدُ دهشتهُ أوْ لهفتهُ الأولى. لِذا تبقى حاضرةً في كلّ زمانٍ ومكان، متنعمةً كلّ مرةٍ بغزارة لغتهِ، تقرؤه وتنهي ولا تُكادُ تُغلقهُ حتّى تريدُ العودةَ إليهِ، وكلمّا تركتهُ عُدت إليه بنشوة المشتاق! هوَ متأثرٌ بكلّ قطعةٍ فنيّةٍ على حدة، وهذا ما يجعلُهُ قامةً عاليةً في كلّ شيءٍ.
“بلادٌ بكاملِ حنّائها، تنبتُ بين الشفةِ والنغمةِ، وتُخرِجُ أسرارَ الفراشاتِ، تتصدَّرُ فراشةٌ زرقاءُ حفلَ اعترافٍ شهيٍّ: نحنُ الفراشاتُ نضحكُ دائماً من الذين يقولون إننا نذهب إلى الضوء لنحترق، سأفشي السرَّ الآن: حين نشعر باقتراب موتنا، نبحث عن ضوءٍ، ونتجهُ إليه، تدخلُ أرواحنا إلى الضوءِ ولا يعنينا ما يحدث لما يتبقى من أجسادنا، لذا؛ فكل ضوء ترونه هو أرواح فراشات لا غير.”
حين يَكتبُ خالد جمعة.. يُنصتُ كلّ شيءٍ لهُ حتى البلادُ القريبةُ والبعيدةُ! كلُّ البلادِ تتمنّى أنْ تكونَ المقصودةَ في نبضهِ ونصّهِ العالي ..
وهو يقصدُ ما يريدُ وليسَ ما يظنُّ الظلامُ !
والضوءُ هو المدخلُ الأوسعُ للحريّة.. وللشّموخ الكونيّ للوطنِ الّذي يتّسعُ للجميعِ ولا يتّسعُ لمغتصبٍ واحد!
النــــــــــّــــــــاي.. لغةُ الوجعِ والحزن والهمّ الكوني.. يكتب الحزن ويقدّمه معزوفة على النّاي في أرقى صُوَرِه و”ينتهي العازفُ من سرِّهِ، ويبدأُ النايُ حيرتَهُ”. لغةُ الألم والحزن وهوَ المعبّرُ عنْ كثيرٍ ممّا سقطَ إلينا ووصلنا منْ تاريخِ وحضارة!..
“المرأةُ نايٌ
امتلاءُ المكانِ بالعفوِ
حينَ تضحكُ
يحتفلُ الغيمُ
وحينَ تبكي
يغضبُ اللهُ من الأرضِ
فتحدثُ الكارثةْ”
“
وتنهضُ سحابةٌ من آخرِ فتحةٍ في النايِ، تحزُّ الفضاءَ قطرةً قطرةً، وتوزِّعُ الغناءَ على الطيورِ في ضجيجِها الصباحيّْ، ينتهي العازفُ من سرِّهِ، ويبدأُ النايُ حيرتَهُ.”
“يكسرونَ الوقتَ القليلَ الذي يفصلُ النايَ عن الهواء، ويمضونَ سعداءَ فيما أمضي حزيناً كسلَّةِ غيابٍ طازجْ.”
“وابتسم الجميعُ في حضورِ الناي الأكثر سلطةً بينَ الغابات.”
“هكذا قالَ ناي لشهيقِ العازِفِ”
كأنّه يحيلُ نبض موسيقاه عزفاً على النّاي الّذي يعبرُ هواجسه في كلّ عوالمه، ألمُ الاغتراب عن الوطن وهو به، وألم الحرمان من لذّة مقارعة الطفولة!
“أطِعْني في نومي، أعصيكَ في يقظتِكْ، هكذا قالَ ناي لشهيقِ العازِفِ”
“اسرقني من فضيلتي أعيدُكَ إلى خطيئتك، هكذا قالَ ناي لشهيقِ العازِفِ”
يا لناياتك ما أجملها! حين تعزف لحن الألم والفرح والحنين وكل الحان الوجود التّي تَعرضُ حدثاً ما وتبلورُ جوانبهُ وتضيءُ زواياه .
خالد جمعة يريدُ إيصالَ رسائلَ كثيرةٍ إلى كونهِ الّذي يَفقدُ جمالهُ وانسانيّتهُ وربّما أرادَ غيرَ هذا، لكنّه مهما أراد فقد تميّز وأوصل رسالته باقتدار!!
“كي لا تُحبَّكَ الغجريَّةُ اقْتُلها”
هو مدرسة مميزة .. فيظهر في كل نص جديد له تميزه و كأنّه مولود جديد، ومن يقرأ خالد جمعة فأنه بلا شك سيجد أنّ مجمل أعماله هي معلّقات حسب رؤية صاحبها..
وربّما لم نجد وصفاً أبلغ محاكاةً لخالد وتجربته غيرَ أنْ نقول إنّ: :حَرْفُهُ مُسْكرٌ ولَمْ يــَـرِدْ بهِ تَحْريمٌ !”
* تشكيلية وكاتبة من الأردن