بلقيس الكركي *
بي اثنتان، وأكثر طبعاً، لكنّ بين هاتين ما ليس بين غيرهما فيّ: برزخاً هو غالباً حقٌّ كالماء، وأحياناً ظنٌّ كالسراب.
تلتقيان، فكلتاهما ببساطة فيّ مهما اعترض رضاي. ولأنّ النفسَ أضيقُ مِن أن تُطيع طبائع الاستبعاد فيهما، يحدث أنّهما، رغم البرزخ، تبغيان. تكاد تفسد كلّ منهما الأخرى بأن تنزع عنها صفتها لولا طبائع الاستبداد في واحدة منهما أفنت صباها في محاولات أبديّة لفهم الإنسان، والبيان، والسلطان، وما يعنيه حقّاً أنّ كلّ من عليها فان.
‘وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ…
هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ
وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ’
كان لي بين بحريّ برزخٌ يابس؛ ‘حاجزٌ’ و’حِجرٌ محجور’، وإن مُرِجا حدّ البغي: العذبُ سراب سائغ من أجل الآخرين، والملحُ لي، من أجل جراح هي كآلام مريم، مجازاً … وما كانت يوماً بغيّا.
البغاء، مجرّداً، هو أن تكون على هوى سواك، سائغاً شرابُك. ومهما فاض المقابل عن حاجتك، بل حتّى إن استعذبت نفسك، فإنّك لن تحتمل بغي النهر هذا على ملحك، فتصرّ، ولو واهماً، على أنّ برزخك حقّ، وموجود، و’برّ’ أمان تفرّ إليه مما ظاهره فراتٌ وباطنه… ‘حميمٌ آن’.
لم أكُ بغيّا… لأسباب كثيرة منها أنّ أبي، مجازاً، كأبيها. لم يكن يوماً امرأ سوء؛ جبّارا عصيّا كسواه من الآباء من أبناء جلده. تركني لملحي، وعلّمني كيف أستعذبه: نفخ في روحي أبا الطيب المتنبّي، فانقلبت لذّات نفسي وأذواقها رأسا على عقبٍ، وكبرتُ وحدي عاقراً لا ترجو وليّا…
أناديه أحيانا نداء خفيّا: يا أبت إنّي وَهَن العظمُ مني قبلك، وقد بلغت من الحُلُم عتيّا، ولم أكُ بعد شيئا، فمسّني الضرّ. أبي لا يقول شيئا: يريني الرضا ولو…، ولا يلحّ على أن أكون له ابناً رضيّا، لأنّه يعلم تماما أن الأخير، وإن كان فيّ، قد يفسد عليّ برزخي، إذ قد يبغى على من لا تريد، مهما جاعت، إلا من نخل الكلام وحده رُطَبا جنيّا…
مريم يا أبتِ ينهشها الألم بكرة وعشيّا. تنتبذ مجازاً آخر كهذا علّها تلفظ عنده ثاني اثنين بغى على روحها رغماً عنها في لحظة غفلت عن كونها كما سيكون ابنها: إنسيّا يؤذيه الأنام بسهولة فجّة وإن كان صِدّيقا نبيّا…
‘يا ليتني مِتّ قبل هذا وكنتُ نسياً منسيّا’. ليس المجاز أقلّ ألماً من الحقيقة يا أبت. لحظة المخاض هي لحظة استعادة البرزخ؛ لحظة خلاص مما قد يصنعه بحران يلتقيان وهما لا يستويان. الكتابة هزّ نخلة يا أبي، وجنى جنّتِي ما يزال قَصيّا…
***
يشبه هذا المخاض ما يحدث في بعض الظواهر الطبيعيّة التي يراها البعض تأويلاً للبرزخ، ويتعب كثيراً القائلون بالإعجاز العلميّ في سبيل فرضها دليلاً على الأخير. ومهما بدا غريباً أن يقال بإعجاز نصّ لأنّ تأويله يحتمل ما قاله لاحقون عليه (وهو ما يفترض سلطة أكبر للّاحقين، للمفارقة)؛ أو أن يُنسى سابقون عليه عرفوا في أثينا وروما التأويل نفسه تقريباً بلا مجاز؛ أو أن لا يُنتبه إلى أنّ أي مجاز يحتمل الـتأويل بقدر ما العلم يحتمل التغيير؛ مهما بدا ذلك لسواهم مأساة، بل ملهاة، أو كارثة غير طبيعيّة، فإنّ إصرارهم على الربط العجيب، وقدرتهم عليه – وهو أساس أي تأويل جميل يرى أو يخترع شبها بين المتباينات- فيه فضل لا يمكن إنكاره، إذ له فائدته لمن لا يحبّ من المعاني وإن صحّت الظواهر قدر البواطن، ويبحث مثلي، دوماً، عن مجاز آخر يعيش فيه ولو مؤقتا بميزان وحسبان.
يقولون إنّ البرزخ هو الـ pycnocline؛ وهو الحاجز المائي الذي يفصل بين طبقتين في المحيط، العليا أقلّ كثافة من السفلى بسبب ملوحة أقلّ للأخيرة أحياناً، وبسبب الحرارة التي تقلّ مع العمق. ‘البرزخ’ هذا يمنع حركة الماء باتجاه عموديّ ويسبب استقراراً في المحيط، إلا إذا جاءت عاصفة قويّة قد تزعزع مؤقتاً هذا الاستقرار وترفع بالمياه الباردة إلى أعلى، لكنّها تعود إلى العمق حالما تهدأ الرياح. يقولون أيضا إنّ البرزخ هو الـ estuary؛ ويشيرون إلى بحث في علم المحيطات عنوانه Where the Rivers Meet the Sea (حيث الأنهار تلتقي البحر). في مناطق معيّنة، كنهر فريزر قرب ‘انكو’ر، تتصرف أسود البحر كما لو أنّها تعرف أن سطح الماء الهادئ يخفي اضطراباً ما تحته. الحقيقة أنّ ‘بغيا’ ما يحدث؛ أنّ تقاطعاً لمياه النهر العذبة والمالحة الآتية من مد المحيط ينتج دوامات هائجة قوية. يضطرب بسبب ذلك سمك السلمون، ويصبح فريسة سهلة لأسود البحر. الـ estuary هي نقطة التقاطع تلك، وتعد من المناطق الأكثر غنى بيئي، ووحلاً واضطراباً أحياناً. الاضطراب ناتج عن اختلاف في الكثافة والملوحة يقود إلى تغيرات عمودية في مسار الماء وقوته. وحين يصل الاختلاف في السرعة حدّاً معيّناً، يحدث اضطراب هائل، ويختلط العذب بالمالح أي إنّهما يبغيان. تساعد على الاختلاط أمواج المد والجزر المفصولة عن هذه الظاهرة، وتزيد نسبة الملوحة. ولولا التدفق المستمر لمياه المحيط في الأسفل و’تنظيفها’ للـ estuary ، لأصبح الأخير راكداً، ملوثاً، ولنضب فيه الأكسجين. المحيط يعيد تزويد البرزخ بالمعادن والأكسجين ويطرد منه الفضلات، لكن في حالات معيّنة يختزن فيها البرزخ الترسبات الصلبة من النهر التي تعلق في الأسفل عند التقائها بالماء المالح، فيصبح البرزخ أكثر وحولة وضحالة، وينتظر أن يأتي فيضان أو عاصفة تحرّره من هذا كلّه.
هي كلّها أعراض ما بي: فريسة سهلة، ووحل، وضحالة، ودوّامات، ومدّ، وجزر، واضطراب، وهيجان، وترسّبات، وفضلات، وركود، وتلوّث، ونقص في الأكسجين، واستجداء عاصفة تلعن كلّ عاطفة باغية. ربّما لا يزال بي ملح متدفّق يكفي لتعقيم برزخي وإعادته كما كان؛ إعادته حاجزا واضحاً يأتي من طبع البحرين، لا فاصلاً مصطنعاً بينهما، أو سراباً ينهار كلما اقتربت منه أو تهيّأ لروحي، من عطشي وسحر الفرات، أنّها تبغي من نفسها بشراً سويّاً.
‘وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ’ مكانٌ أو زمان يفصل بين عالم الدنيا وعالم الخلود، بين الموت والبعث. بي اثنتان تختلفان في الكثافة والملوحة والحرارة: واحدة تريد أن تعيدني من البعث، وأخرى تعدّ برزخها للأخير. تعدّه بأن تفهمه أوّلاً، ومن بين عدّتها من فَعل الشيء ذاته قبلها: ابن عربي، الملقّب للصدفة بالـ’بحر الزاخر’، الذي كتب عن البرزخ، بفكر مالح، أعذب من كلّ ما قد يقدر عليه من بغوا عليه. رأى البرزخ:
‘أمراً فاصلاً بين معلوم وغير معلوم، وبين معدوم وموجود، وبين منفيّ ومثبت، وبين معقول وغير معقول (…) هو ما قابل الطرفين بذاته، وأبدى لذي عينين من عجائب آياته ما يدل على قوته، ويستدل به على كرمه وفتوته، فهو القلب الحوّل، والذي في كل صورة يتحول، عوّلت عليه الأكابر حين جهلته الأصاغر، فله المضاء في الحكم ، وله القدم الراسخة في الكيف والكم ، سريع الاستحالة، يعرف العارفون حاله ، بيده مقاليد الأمور ، وإليه مسانيد الغرور (…) تلطف في كثافته ، وتكثف في لطافته ، يجرحه العقل ببرهانه (…) يحكم في كل موجود (…) ويعترف به الجاهل بقدره والعالم ، ولا يقدر على ردّ حكمه حاكم .’
***
بي بحران يا أبتي: بحرٌ ‘أصغر منّي كيف يحملُني’، وبحرٌ ‘أكبر منّي كيف أحمِلُهُ’. سفن الأوّل تجري رياحها بما يشتهي عَدَمٌ سوّلت لي نفسي أن أهمّ به، وليس الدم على قميصي بكَذِبٍ يا أبي.
ربّما لا بأس أن وجودي، بسبب هذا البغي، تأخر أكثر مما هو متأخر أصلاً كعادته. لكنّي أريد أن أعود على الأقلّ إلى ‘الممكن’؛ وهو ‘البرزخ’ بين الوجود والعدم حسب ابن عربي.
أبي… كم ابيضّت عيناه من الحزن على سفري الكثير إلى الملح. كلّمني هذا الصباح وثرثرنا عن البغي والبغاء العام وكيد العوامّ. كنتُ عذبة دافئة قليلة الكثافة وفهم أبي لماذا: لقد اكتشفت أنّ ابن رشد كان يحفظ ديوان أبي الطيّب. ذكر لي بحثاً عن المتنبي في الأندلس فسحبتني حبال الكلام نحو بغي أقلّ.لم أقصص على أبي كلّ رؤياي ولم أقل له آوني إليك. لكنه رغم ذلك قال ‘هاجري’، وكلاماً ظاهرُه نُصحٌ عذب وباطنه رجاءٌ مالح بالعقوق: أن اغسلي قمصيك، وبرزخك، واهجرينا مَليّا.
لعن الله عبقريّا غارقاً بالملح: ‘عشيّةَ أحفى الناسِ بي من جَفَوتُهُ…. وأهدى الطريقينِ التي أتجنّبُ.’
لا تخف عليّ يا أبي، لقد أخذت منك الصبر دون الرضا. صبرٌ جميل، ومجاز آخر مستعان، هو من بين مجازات كثيرة قد تمنعني وتمنعك من أن تقول يوماً ‘يا أسفي’ على من مرَجت كلّ حياتها صراطاً سويّاً لا يمكن فيه أبداً، إلاّ غِيّا وخطأً ‘عابرا’، أن يستوي البحران.
* أكاديمية من الأردن
( القدس العربي – لندن )