احمد كناني*
ثقافات – *إلى (خَضْرَة) والياس فركوح معاً .
أيها المنسرب تحت شوارع عمان رائعاً ووحيداً,
وحدك القابض على جمر محبتها عالماً أنه من غضا,
ادعى أفاقون أنهم عبروا إلى روحها, وكذباً زعموا أنهم سدنة ارثها البهي, ووحدك تفعل أيها السيل الخجول الذي حمل مظلته الإسمنتية وتوارى كي لا يشهد خيبات ستأتي, توارى عالماً أن لعمان مريدين كثر وأنها الحرة التي ارتوت من مائه ولن تخذله.
* * * * *
أرسم في ليلك قمراً أعلقه في الأعالي هناك عالماً أن المرتقى نحوك صعب أيتها العالية.
أصحيح أنني كنت هنا واستطعت الابتعاد عنك ؟؟
قال صديقي الذي ارتقى معارجك بطيبة الذين قصدوا بهاءك تاركين خيباتهم في سهول شمالهم الشفيف – كنت حينها قروياً في قلب عمان قبل تحولي إلى عمانيّ يبثها الحب من أقاصي الشمال البهي وقبل أن يتحول صديقي إلى مشروع للحنين بين هوى اربد وصبوات عمان – قال وهو يرمق جبل القلعة من المدرج الروماني بنظرة المستريب :
“ألا ترهقكم عمانكم صعودا؟؟” وما درى أنها ترهق أبناءها الطيبين اشتياقاً فيما يرهقها الأبناء عقوقاً وارتحالا !!! .
* * * * *
هو أنا إذن ذلك الغبي الذي اختار الضفاف يا سليمان . أتذكر عذابات البوح ذات مساء وحيد ويتيم جمعنا في الرابطة حلقنا فيه إلى ذرى طوبقال وعرجنا على ذرى الطفيلة وعذاباتها ؟ لا زلت أذكر إصرارك على تكريس مسمى كتاب المركز وكتاب الضفاف, كنت أنت في الضفاف تماما وادعيت أنا حينها أنني أتفهم ما تقول ؛ فقد كان من اللباقة أن أظهر أمامك بمظهر الذي حبته المدينة بامتيازاتها كأحد أبنائها الذين خرجوا من رحم عنايتها في الوقت الذي أعلمتني أنت فيه أن الرحم الوحيد الذي يمكن أن يكون له فضل على كاتب في ( الضفاف ) هو رحم نفسه , وما كنت تدري حينها أنني مصاب بشوق الضفاف إلى رأس النبع وأنا في المركز تماما يا سليمان, بل وفي القلب, في القلب تماما, يا سليمان!!!
* * * * *
“صباحك مذهل أيتها السوسنة.
أيائل تلك الضفاف تشارف سيلك
غير آبهة بالسقوف
ترتوي من رأس عينك ولا تستريب
أراقبها بفضول فراشة ولا تستريب.
أيائل عمان تسرح مطمئنة يا الياس,
وطيورها تحلق منخفضة .
* * * * *
قال لي قبل أن يسرج خيل الحنين عائداً إلى حوران : ” البلاد طلبت أهلها ” وقال كلاما لا أذكر منه سوى ما يثير الإحساس بالفقد وخيبة العائدين اضطراراً , الآن أدرك يا أبي أن عمان لا تحتفي بالمشيب , الآن أدرك أن القرى عقتك شابا وان المدائن عقتك شيخا , كم أفتقدك يا أبي وأنا الغائب عنك رغم حضور كلينا, كم أفتقد النوايسة في غيابه هو الآخر عن عمان:
” تعثر شيخ
فأسنده وجع الانحناء
وعمان لا تحتفي بالشيوخ”
* * * * *
صباحك باذخ أيتها اللويبدة,
كيف عجنت القرى والمدائن
في قفة واحدة ؟؟
وكيف لي ألا أتذكر الآن وجه ( خَضْرَة )
وقد أعارتك ذات ربيع بَعيد
عام أربعة وستين قلبها
( خضرة ) التي حملت وشمها الشجري
طيبةً على وجهها
حملت بيدراً من سنابل حوران
وقطيعاً من بقايا ذكريات ( مغير السرحان )
آه … كم كانت بدويةً لأجلها انحنت القرى
وافتقدتها المدينة
ظلت تشعل كانونها في المدينة التي أسقم البرد أطرافها
امرأة ظلت تستريب بمدفأة الغاز والبانيو
تضحك وتقول: أي غبي يلقي بنفسه في برميل ماء !!
وظلت تستحم بسطل مائها
الذي تعطّر بدخان الحطب
الحطب الذي كانت تجمعه من قلب عمان
يوم كانت عمان قريةً
وموئلاً للطير والأغنيات
الحطب الذي ظل يشتعل تحت صاجها خمسين عاما
في قلبك أيتها ال( عمان ) !!
كم كانت جديرة بالقصائد
وكم من شاعر غير جدير ببهائها تلك المتفردة !!
وأنت أختها أيتها اللويبدة
وكم أنت شبيهتها…
أأخبرتك انك تنطوين على مفارقة حارقة
غداة تختزلين الأماكن في مسمى واحد هو أنت ؟
أدراجك القديمة تحيل إلى نسيانات ماثلة ,
وأبوابك الخشبية مفتوحة على الطير والأسئلة ,
خشخاش سامق على كل باب
وأدراج تفضي إلى تسابيح الأمهات اللواتي
وشّين ملابسنا بالحدائق ورائحة الخراف .
هل نحن جديرون بحراسة إرثك
أيتها التي احتضنت جيداً خيبات أيامنا؟؟
أخشى عليك أيتها الموزعة تماماً بين قلبي وفمي
عالماً أن خشيتي لا يبررها
سوى ضعفي وضلوعي في النسيان
وأن قوتك تكمن في رقتك الجارحة
غداة تذكرين أسماءنا
وتكتبينها على خشخاشك العتيق .
هل أنت لي كما أنت الآن ؟؟
من شرفة واطئة في طائرك الجميل ( كناري ) أحس أنني أستطيع احتضانك كما ينبغي ,
أحتضن خد الشرفة عالماً أن كثيرين قبلي ربما فعلوا ذلك, هل مثل قلبي كانوا محتلين بحبك؟؟
هل مدوا أياديهم لالتقاط خشخاشة قربها لأعينهم الشوق وباعدتها المسافة عن أطراف أصابعهم فظلت على أمها وظلوا على أم أحلامهم وافتتانهم بها !!
إنها الأيائل والطيور إذاً ,
أيائل عمان تسرح مطمئنة وطيورها تحلق منخفضة يا الياس !!
– شاعر من الأردن